لن يُكفّر لساني عن التحدث بلُغتي التي تُرهبك لأنها تستعصي عليك.
الانتفاضة: تدريس الأدب العربي في زمن المذبحة
مقال هدى فخر الدين
ترجمة: جهاد حسن الجمل
نشرت في موقع lithub أغسطس 2024.
هدى فخر الدين: كاتبة ومترجمة وأستاذة للأدب العربي في جامعة بنسلفانيا.
[يُقيم، تُقيم، أُقيم، يُقيمون.. ثورة]
لا يقيمُ العزيزُ بالبلدِ السهلِ ولا ينفعُ الذليلَ النجاءُ
ألّف هذا البيتُ من الشعر الشاعر العربيّ الحارث بن حلّزة قبل أكثر من 1400 عاماً مُعبراً عن التراث الذي تنتمي إليه فلسطين والأدب الفلسطيني. قال لنا: لا تستحق هذه الحياة التي دوماً ما استعصت على الشرفاء والأبرار أنّ نتخلى عن كرامتنا. ما انفكّ هذا البيتُ يتردد على مسامعي خلال الشهور العشرة الأخيرة. كم أنّ طريقنا شاقُ ووعِرُ دائماً في هذا البلدِ ومؤسساته. نحن الذين نسعى جاهدين لندرِس الأدب العربيّ بكل صِدق ونأبى أنّ نشوّه ذواتنا بممارسة الأدوار التي تفرضها علينا الأكاديمية الأمريكية. نحنُ المدعوون الدائمون في ميادين اختصاصنا والمواطنون الأصليون والوجوه الناضرة التي تسعى إلى تنقيح الصورة التي أخلفها المشروع الاستعماريّ. نحنُ الطرفُ الآخر على طول الخطّ، والمُشتبه بهم دائماً.
*
نوفمبر 2023
"لكنّك بارعة في تدريس الأدب العربيّ في العصور الوسطى، لما لا تركّزين عليه؟".
غالباً كان أغلبنا قد ندِم على اختيار الغرفة عندما جلسنا على مقاعدنا حول المنضدة المربّعة. وكان أحد الحوائط زجاجياً تماماً فيُمكن لأي من المارّة في الردهة رؤيتنا وكأننا نُعرض على شاشة. شاع التوتّر بصورة واضحة، وكان هذا واحداً من اجتماعاتِ كثيرة حاول خلالها معالجة الأحداث المروّعة التي حدثت في العام الدراسيّ الماضي في محاولة لإنقاذ أي مظهر من مظاهر الروح الجماعية. منذُ انعقاد مهرجان "فلسطين تكتب" والأهوال التي وقعت في أكتوبر الماضي كان يقولون أنّ الأمور "لا تسير على ما يُرام". لقد أغفلوا قيم التعامل المُفترض الأخذ بها في قسمنا، ألا وهي اللُطف والتحضّر. لم يُكن من الضروريّ أن نعرف بعضنا البعض عن قُرب على المستوى الشخصيّ، لكننا على الأقل كنّا على علاقة طيّبة. كثيراً ما سمعت منهم أنّ الأمور تجري على نحو أفضل حين "نترُك نزعتنا للفاعلية في المنزل"، فقط إن كنّا نستطيع أن نُخرس أفواه العالم ولا نركّز إلا على "اهتماماتنا الفكرية".
وجدت نفسي أقول لمجموعة من زملائي في إحدى صباحات نوفمبر 2023: "لكنّ فلسطين هي بؤرة اهتمامتي الفكرية كما تعلمون. لقد ساهمت في تنظيم أحد المهرجانات الأدبية وكُنت أقوم بواجبي الأكاديمي والفكريّ احتفاءً بالأدب العربيّ، ودُمرت حياتي لهذا السبب". كان يجب عليّ أن أعيد تذكير زملائي بما يعرفونه بالفعل، ألا وهو تلقّي عائلتي للتهديدات، وكيف أُبلغ أخى الشاعر الفلسطينيّ أحمد بأنّ من الأفضل له الابتعاد عن الحرم الجامعيّ لأسباب أمنية. كان من المثير للجدل بشدّة إمكانية تبنّي مؤسسة تنقاد لمصالح الجهات المانحة ويقتصر تعهُدها بالحماية على خطابات ذات توجهاتٍ بعينها وتسلّح كل أشكال الكراهية بمنتهى الإصرار لصوت الفلسطينيين واتخاذ موقفٍ معادٍ للمذبحة.
كان بإمكاني تذكيرهم بالحملات التي ظهرت على الإنترنت والتي كانت تُطالب بتوقيفنا بل وترحيلنا، وأنّ بعض هذه الحملات جرى تداولها بين طلاب "جامعتنا" الذين كانوا يملكون مساحة من الحريّة للتنمر والإرهاب كما يشاؤون على العكس مع أقرانهم المناصرين للقضية الفلسطينية، أو بحصيلة الضحايا في غزّة (لا، ليست حصيلة الضحايا بل حصيلة الذين قُتلوا بدم بارد). كان بإمكاني أن أقرأ عليهم عناوين الصُحف التي حُفرت في ذهني في ذلك اليوم. كانت إسرائيل تحوّل المستشفيات إلى مقابر، وظلّت كلمة "شفاء" تطاردني طيلة ذلك الصباح. ربما لم يكونوا على دراية بكل ذلك، ولم أُرد أن أُثير القلاقل أكثر. بدأ وجهي في الاحمرار ودماغي في الخفقان بينما بدأت ردود أفعال زملائي في أن تكون أكثر انفعالاً ودفاعية، فحاولت أن أتوارى خلف جملة: "لكنّ فلسطين هي بؤرة اهتمامتي الفكرية". حدّق زملائي بي لفترة، وأؤمن حقاً أنهم أرادوا الردّ بتعاطف، بل وبلطُف. كان موقفهم رغم صِدقه جارحاً فوق كل شيء، فعالمهُم قد تزعزع. كانوا همّ المجروحين، وكُنت أنا الذي يدمّر كل شيء كان "على حاله". ثم سمِعتهم يقولون: "لكنّك بارعة في تدريس الأدب العربيّ في العصور الوسطى، لما لا تركّزين عليه؟".
لا أتذكر ما حدث بعد ذلك، لكنّ الكلمات رنّت في أذني لأيام في تذكير جارح لي بإمكانية الاستغناء عنّي في هذه المنظومة. يجب أن تتلائم كينونتي وكل ما أفعله -جسدي وعقلي وصحتّي وعائلتي وعملي وإسهاماتي الفكرية وقرونُ من الميراث الأدبيّ أفنيتُ من أجلها عُمري- بكلّ دقّة مع نظام صُمم خصيصاً ليخدم منفعة الآخرين وغرورهم ومتعتهم. كَوني باحثاً في الأدب العربي في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لديّ إلا القليل من الخيارات؛ إما أن أكون أداةً للمنظومة التي تجرّدني من إنسانيتي وتعتبرني دخيلاً عليها، ولا تُحرك جفناً عند تتعرض ثقافتي للإبادة، وإلا أُصبح تهديداً. حتى بأنّي لستُ تهديداً بل مصدراً للإزعاج، واضطراباً يزلزل عالم الأكاديميين الذين يرضون بأن يسخروا من الجثّة الهامدة للثقافة الأخرى التي يدرسونها بعين النقد ويدعون ذلك "بحثاً" و"صرامةً فكرية".
لا زِلنا مطالبين بالصمتِ في حين تجري إبادة أكثر من أربعين ألف فلسطيني باستمرار منذُ ما يقرب من عام بعد ما تعرّض شعب بأسرِه للتطهير العرقيّ لمدة 76 عاماً. قيل لنا أنّ حيواتهُم ومماتهم وحتى أدبياتِهم لا يجب بالضرورة أن تندرج ضمن اهتماماتنا الفكرية. ينتظرون منّا أن نصبح أكاديميين بارعين؛ أيّ منافقين وانتهازيين.
لا تسير الأمور معي على ما يرام، وكان ذلك مبرراً لي بوساطة زملائي الغاضبين. لما لا أقدّر ما أملُك؟ بيديِ ذريعة قوية لتبرير اللامبالاة وحفظ النفس ( وكل يخدم الشعور الجمعيّ براحة الضمير بالطبع).
غريبُ كيف يعمل العقلِ، وكيف يجلِد الناجي ذاته، وكيف تبدو الطُرق التي تنتظرنا حالكةً وملتوية.
*
فبراير 1986
… تحت تهديد السلاح بينما كان ظهري ملتصقاً بالجدار.
كان عُمري لا يتجاوز الخامسة حين احتُجزت تحت تهديد السلاح بينما كان ظهري ملتصقاً بالجدار. كانت العطلة الشتوية قد حلّت، وقفتُ وأمُي على أحد جانبي وأخي الأصغر علي على جانبي الآخر. جئنا إلى قريتنا في جنوب لبنان لنقضي أسبوع العطلة مع أجدادنا كما جَرت العادة. كان يوماً مُشمساً نقيّاً، وكُنت أنا تحت تهديد السلاح بينما كان ظهري ملتصقاً بالجدار. كان عُمري لا يتجاوز الخامسة، ولأنّ الجنديّ لم يرفع بندقيته بل تركها تتدلى على ذراعيه حتى ظلّت عيناي تحدّق مباشرة في الفوّهة الحالكة الطويلة.
تجولّ الجنديّ في الممر صعوداً ونزولاً، وأخرجنا جميعاً من المنزل؛ النساء والأطفال، وصرخ علينا بعربيةِ ركيكة أن نقف أمام الحائط: جدّتي وأمي وعمتي واثنين من جيراننا الذين كانوا لاجئين لدينا، وعليّ وأنا. كان الجنود الآخرون يعيثون فساداً في المنزل. لاحظنا لاحقاً أنهم قد شقّوا كل الوسائد والمراتب، تساءلت عمّا يبحثون عنه في نومِنا، وفي أحلامنا. لاحظنا لاحقاً أنهم قد أفرغوا الثلاجة، تكسّر البيض، وقُضمت الفواكه التي كانت منثورة على الأرض. لم يكن عُمر الجنديّ المكلّف بحراستنا الذي وقفنا تحت رحمة قراره وأهوائه وربما مخاوفه ليتجاوز 18 عاماً.
كان ذلك اجتياحاً إسرائيلياً لجنوب لبنان عام 1986، ولم يكُن أكثر التصعيدات شدّة بل مجرد غزو "مصغّر" يمهدّ لهم الطريق لاقتحام جنوب لبنان مُقدِمين على مهمّة "محددة" تتعدى المناطق التي يحتلونها بالفعل. لقد احتلّوا قريتنا لسبعةِ أيام، اختطفوا النساء وفجّروا أحد المنازل وروّعوا سكان القرية والمناطق المجاورة.
وبينما يمضي عُمري ستعود تلك الأيام السبعة لتراود ذاكرتي وأردتُ أن أتذكر "مغامرة" تلك العطلة الشتوية، سأطلب من جدّي أن يخبرني بما حدث معه عندما اُقتيد هو والرجال الآخرين إلى المسجد وأيديهم مُكبلة فوق رؤوسهم، وسأطلب من أمّي أن تؤكد لي ما إن كُنت أتذكر الغرباء الذين كان عليهم البقاء في منزل أجدادي -لأنّ الطرق كانت مُغلقة- بشكل صحيح. كانوا مجموعة من الرجال والنساء من المناطق المجاورة. كان أحدُهم رجلاً في منتصف العمر يُدخن باستمرار، وحين انقضى خطر المداهمة استراح وبدأ يتحلى بروح الفكاهة. لم يروي قصصاً أو يُلقي نكاتاً لكنّه كان يملك أسلوباً خاصاً في إنهاء حديثه بصورة هزلية.
تذكرتُ أيضاً كيف كان جدي مذعوراً لا يُفارق أذنيه المذياع المحمول. لقد شعر بالمسؤولية تجاه جميع ساكني المنزل من العائلة كانوا أم الغرباء، لكنّه لم يستطع إخفاء النظرة الخائفة في وجهه. أتذكّر تخبّط يداه بينما يفتح الباب الأمامي ووقوفه منتظراً القائد الإسرائيلي وجنوده أن يأتوا عبر الحديقة. سيبدأ الحديث بإلقاء القائد الإسرائيلي بعض الأسئلة باللغة العربية على جدّي ودائماً ما انتهى بقلبِ جنوده المنزل رأساً على عقب. كل مرّة.
لكنّني كلما أعُيد تدبّر الأحداث التي جَرت تحت الاحتلال الإسرائيلي في تلك الأيام السبع في عقلي يختفي المشهد الذي وقع عند الحائط. يجب أن يكون استبعادي لهذه الذكرى وأنا لم أتعد الخمس سنوات عن ذكرياتي عن "مغامرة" الحياة تحت الاحتلال من وقعِ الصدمة.
تغيّر كل شيء في العشرين من سبتمبر عام 2023، حين كُنت جالساً في غرفة طويلة مُظلمة، خفتت الأضواء وخمدت الثرثرة بينما تلتفت كل الوجوه إلى الشاشة. كنّا هناك لنُشاهد الفيلم الرائع والمرّوع فرحة الذي استلهمت دارين سلّام قصّته من حياة جدتها العظيمة التي كانت إحدى الناجيات من النكبة. خلال أحداث الفيلم، يُغلق والد فرحة عليها باب الغرفة ليحميها ثُم خرج ليرى ما يجري في الخارج، لينتهي بها الأمر وهي تشاهد النكبة تَظهر للعيان من فوّهة الباب قبل أن تهرب وتقَطع الطريق بأكمله إلى مخيّم اللاجئين في سوريا حيث عاشت بقيّة حياتها. يُفسح الفيلم لنا الطريق لنُشارك فرحة تجربة الحياة في الغُرفة بينما تُفترس فلسطين وتُسلب بالخارج. تتجول أحد الأُسر المُهجّرة في الساحة في أحد المشاهد، وتُشاهد فرحة المسلحين الصهاينة يوقفون الأم والأب والأطفال الصغار أمام الجدار ويُطلقون عليهم النار. لم يبقَ سوى المولود الجديد على قيد الحياة، والذي لم يبق سواه للجنديّ الصهيوني الصبيّ ليتخلص منه. لم يكُن عمر الجنديّ الذي تُرك الرضيع الفلسطينيّ تحت رحمة قراره وأهوائه وربما مخاوفه ليتجاوز 18 عاماً.
كدِت أختنق. باغتتني أحد الذكريات التي لم أكُن مدركا لها. نظرتُ مباشرة إلى البندقية محدقاً في العيون الزرقاء التي تظهر في نهاية الفوّهة الطويلة المُظلمة. سمعت ضجيجاً يحدث في الخلف وتوقّف قلبي، فكان ظهري مقابلاً للجدار ولم يكُن عمري ليتعدَ الخمس سنوات.
عجيبُ كيف يخدع العقل نفسه، وكمّ تتركُ النجاة من ندبات، وكمّ أن دهاليز الذاكرة حالكةُ وعميقة.
*
يوليو 2024
"نعم. لا، بالطبع لا!"
ظلّت رسائل الكراهية والتهديدات تصِلني على البريد الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي لشهور عدِة، لكنّ أحد الرسائل قد وصلني عبر البريد إلى مكتبي البارحة. كُنت قد تلقيت توصية بأنّ أحتفظ بسجلّ تفصيلي، وهذا هو سجلّي التفصيلي منذ ذلك اليوم:
يفتح الضابط مكتبي ويُعرب لي عن أسفه، ثُم يقول: "لطالما ما يتلقى الأستاذة مثل هذه الرسائل من كلا الطرفين".
قُلت له: "كلا الطرفين؟ هل لتلك المسألة طرفين؟"، فقال: "نعم. لا، بالطبع لا".
أعطيته بياناتي ورقم هاتفي وصوراً للرسالة احتفظ بها على هاتفه. أعطاني اسمه ورقم الشارة ورقم القضية. سار حتى آخر الصالة ثم عاد مجدداً ليقول لي مبتسماً: "آسف! أحتاج إلى يوم ميلادك أيضاً". أخبرته بيوم ميلادي، وتمنّى كلانا للآخر إجازة سعيدة في نهاية ذلك الأسبوع.
تركت المكتب وركبت سيارتي، اتصّل بي - فهو يملك رقم هاتفي الآن- وقال أنّ رئيسه قد طلب منه أن يحصل على الرسالة. لذا عُدت بالسيارة وحَملنا المِصعد إلى المكتب معاً. قال: "لا أحاول أن أقلل من شأن ما حدث، لكنّ ليس هناك أي دليل واضح على الأذى البدني، غالباً لا يُطلب الإطلاع على الرسائل سوى حين يحدث ذلك". كان يحاول أن يشرح لي لماذا لم يستلم الرسالة منذ البداية، كما أعتقد. "على الأرجح هم مجرد أطفال يملكون طابعة"، أخذت حديثه بعينِ الاعتبار لأساعده، لكنّ فكرة المراهقين الأمريكيين المتسلحين بالطابعة والبنادق قد علِقت في ذهني. لم أقُل شيئاً. سِرنا إلى مكتبي وأخرجت الرسالة من الدرج ونظرت لأجده يضعه في قفاز أزرق. قُلت: "إذن، والقفازات كذلك؟". ضحِك في صمتِ هامس ثم خرجنا ونزلنا باستخدام المصعد سوياً. سألني ما إن كُنت من الغرب الأوسط (بسبب رمز المنطقة الخاصة بي). قُلت أنني تابعت دراساتي العُليا هناك، فقال لي أنّه قد التحق بالمدرسة هناك أيضاً. "لكنّ أصولي لبنانية"، ذكّرته بذلك، فقال :"نعم، بالطبع". ترّجل وانتَظرني، فقُلت له أنني سأنزل طابقاً آخر بالمصعد لأركب سيارتي. أصرّ قائلاً: "تمتّع بعطلة نهاية الأسبوع" وانصرف.
تلقيت مكالمة من مسؤولة -ذات مستوى أعلى تلك المرّة- بأحد الجامعات الأخرى أثناء وجودي بالسيارة. كنّا قد تحدثنا عدة مرات من قبل عبر الهاتف. أخبرتني أنها تشعر بالأسف وأنّي يجب أن اعلم أنّهم يكترثون لأمري. إنّها تعلم بمجيء الضابط إلي وأخذه للرسالة. أخبرتني أنّهم سيجرون تحقيقاً وربما يرفعون بصمات الأصابع لكن من الصعب إعلان ذلك في ظلّ هذه الأحداث.
لقد أرادت أن تلتقي بي شخصياً في منطقة ما لشرب القهوة أو الشاي ومراجعة خطة أمنية وإن لم تكُن معنيّة سوى بالجانب النفسي. لقد أكّدت لي أنّها تعاملت مع "كافة أنواع الصدمة" لدى البشر بتلك الخطّة الأمنية النفسية. "يُمكننا أحياناً أن نروّض عقولنا وقلوبنا، فتذكّر الأغنية التي تحسّن مزاجنا أو الشخص الذي سيسارع بالرّد على المكالمة من شأنه أن يساعدنا". كما أنّها تعتقد أنه كان يحتّم علينا اللقاء شخصياً قبل بداية الفصل الدراسي. قُلت: "أوّد ذلك". إن كُنت سأتعلم "ترويض" نفسي وقلبي في زمن المذبحة فقط ليوافقوا اتجاهات الجامعة ويخدموا مصالح المنظومة الجماعية الهشّة والعنصرية المبطّنة الهزيلة، ألنّ يكون ذلك ضرباً من الزيف؟
عجيبُ كيف يخدع العقل نفسه، وكمّ تتركُ النجاة من ندبات، وكمّ أن دهاليز الصدمة حالكةُ وعميقة.
*
أغسطس 2024
حين تباغتك لدغة نحلةُ ما أو يسرق كابوس مروّع النوم من عينك، حين تسحق عظامك عقود من القمع والعنصرية والتمييز والبلادة والظلم.
مثلُ اليوم قد وُلدت، ولا شيء جدير بالاحتفال. قُتل أكثر من 40 ألفاً من أصدقائي وعائلتي وأقربائي في غزّة، أكثر من 15 ألفاً منهم من الأطفال. استقلّيت القطار إلى العاصمة، وكان أحمد الملاح يقرأ الشعر. شعرتُ بالامتنان لجلوسي بين صفوّة جمهوره واستماعي له بينما يُلقي من كتابه حكمة الحدود Border Wisdom- قصائداً تتخطى الحدود والأسلاك الشائكة واللغة، ووادي الصمتِ البعيد حيثُ يُراقبنا أحبابنا الراحلين وينصتون إلينا.
تلقيتُ مكالمة هاتفية من محامييّ، تكترث لأمري شخصياً الآن لجنة الكونغرس للتعليم والعمل، اللجنة عينُها التي طالما أرهبت الجامعات التي تقمع حريّة التعبير وغذّت معاداة السامية بأكثر الطرق دناءة -ومعاداةً للسامية- لكي تُصمت الأفواه الرافضة للمذبحة وروّجت للأكاذيب وأصرّت على الخلط بين اليهودية والصهيونية. كتبت اللجنة إلى الجامعة "مُطالبة" بسيرتي الذاتية ومنهجي الدراسي ورسائلي الإلكترونية والمنهج الدراسي وجميع علاقاتي المعنيّة بفلسطين.
في حين أنني لم أنوي التجاوب مع هذا "المطلب" المضلّل والمتغطرس إلى حد سخيف، لم تكُن لدي أدنى فكرة عن حدّ الإرهاب الذي من الممكن أن تنصاع إليه الجامعة. ليس بوسعي سوى الأمل بأن تملك الجامعة من الأخلاق والشجاعة الذي يدفعها للوقوف مُنتصبة والدفاع عن الحريّة الأكاديمية وعن أعضاء هيئة تدريسها على حد سواء، فتعرّض العديد من الأساتذة من جميع أنحاء العالم إلى التخويف والعقاب والمضايقات جرّاء مساندتهم للشعب الفلسطيني. آن أوان تصفية الحسابات من أجل حريّة الفكر في هذا البلدِ وفي كل أنحاء العالم. فعندما يُستهدف الذين يطالبون بحماية المظلومين بينما يملِك الذين يبثّون الكراهية الحق في الإيذاء والإرهاب ثُم يفلتون من العقاب فإن الأُسس التي تتبناها جامعاتنا في خطر.
*
ما أنا إلا باحثة وطالبة تدرس التراث الأدبيّ العربيّ، ارتحل في دراسة الشِعر من زمانِ امرؤ القيس إلى محمود درويش، ومن زمان السموأل إلى هبة أبو ندى. لن أسمح بتفتيت هذا التراث إلى لقيمات مستساغةِ وسهلة الهضم، ولن اقتطع من القصيدة إن كانت خاتمتها عصيّة عليك، ولن أقاطع محادثةً بين الشاعر وأجداده فقط لأنّ لغتك العربية فقيرة، ولن أُقولب ذاتي ولغتي حسب أهدافك، ولن يُكفّر لساني عن التحدث بلُغتي التي تُرهبك لأنها تستعصي عليك.
لا يُمكننا الادعاء بأننا مدافعون حقيقيون عن الإنسانية إن لمَ نتخذّ من اللغة والتراث الأدبيّ الذي ندرسه مجهراً نراقب من خلاله، وأسلوباً للتفكير، وطريقةً للوجود واكتشاف العالم. غزّة ليست مسألة مطروحة للنقاش من عدمِه. كتّابها وفنّانوها ليسوا طُعماً للمنحة أو الزمالة القادمة. أطفالُها القتلى ليسوا مادةً لدراسةٍ إثنوغرافية قادمة أو مختارات أدبية مقبلة أو عملٍ فني أو مشروعٍ رقمي للعلوم الإنسانية. أحداث غزّة 2023 هي تناقضُ في شرع التاريخ، ونهاية العالم الذي عهدناه، فلا ينبغي أن يبقى أي شيء على حاله بعد ما حدث.
لن يبقَ للجنس البشريّ أملُ إن لم نتصدى للمعايير المزدوجة، تلك العنصرية المتجذّرة في كل أشكال حياتنا أو تصوراتنا الوهمية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والسلام والتعاطف والتضامن وهلُمّ جرّا. إن شملت تلك القيم البعض واستبعدت البعض الآخر فما هي إلا ضربُ من النفاق، وما من إقصاء فادح ولعين بقدرِ ما يعتبره العالم اليوم "استثناءً من أجل فلسطين". يبقى أملنا الوحيد أن نصفّي الحساب الذي تطالبنا غزّة به الآن، ذلك الحساب الذي لطالما طالبتنا به فلسطين طيلة ستة وسبعون عاماً مضت.
لا يمكننا أن نمضي قدماً من الأبراج الأكاديمية العاجيّة دون أن نعترف بالطبيعة الاستغلالية لمؤسساتنا وتواطؤها في العنف الذي يُرتكب ضد فلسطين والتراث العربيّ الذي تنتمي إليه. تنادينا المذبحة لنستفيق ونتحرر من القيود التي كانت مضمرةً وباتت الآن جليّة على نحوِ سافر في حياتنا وأعمالنا. تقتضي منّا إراقة دم الأبرياء أنّ نقرّ بحقّنا في الدفاع عن الثقافة التي ندرسها وأبنائها وحماية حقوقهم الإنسانية قبل أن نجرؤ على التطرّق إلى إسهاماتهم الإبداعية والفكرية وتقويض تاريخهم وثقافتهم من أجل مصالحنا الخاصة.
وإن تحصلّت اللجنة على بياناتي، فليكُن مجرّد مطالعة سيرتي الذاتية -أي سجلّي الذي يملأني بالفخر- شرفاً أمنحه لهم. وبينما هم ينقّبون في مناهجي الدراسية، لا يسعني سوى الأمل بأن يقرّوا بالإسهام المتميز لهذه الدعوة في عالم الأدب العربيّ الواسع والسخيّ. فطلابي سيحظون بفرصة اكتشاف معنى الحياةِ والكرامة والمقاومة ضد الظلم بفضل دراستهم للأدب الفلسطيني.
وبينما ينقّبون في معلوماتي الخاصة -في انتهاكِ لخصوصيتي والحقوق الممنوحة لي وفقاً للتعديل الأول للدستور- ربما يتعلمون أحد الكلمات العربية التي تمدّ العديد من المظلومين في الولايات المتحدة الأمريكية وفي جميع أنحاء العالم بالأمل والقوّة. تأتي هذه الكلمة على صيغة الاسم من الفعل "افتعل"، وتتشكل من 8 حروف مُشتقّة من الجذر اللغويّ للفعل ن\ف\ض (أحد مداخل القواميس العربية التي ارشحها بشدّة). إنّها كلدغةِ النحلة، أو ككابوسِ مروّع يسرق النوم من عينك. إنّها سبيلك الوحيد حين تسحق عظامك عقود من القمع والعنصرية والتمييز والظُلم: الانتفاضة.