استطاعت الكلاب بمعاونة القطط والقوارض الانتصار على البشر في موقعة الدجاج. رفع يديه عاليًا في حركة خاطفة في محاولة للإمساك بالذبابة، إلا أنها طارت مسرعة، فعاد مرة أخرى إلى سكونه وضجره، وتمتم لنفسه "نحن لم نعد نقوى حتى على اصطياد ذبابة"

عيد الاستقلال (من أدبيات الكلاب)

قصة لليلى سامي

نُشرت في مجموعة "منازل وأحلام" الصادرة عن دار هن، 2023


أريريا لبول جوجان

كانت الذبابة تحوم حول رأسه وهو راقد في استسلام على الأرض. المنطقة تستعد للاحتفالات المهيبة وهو ينظر حوله في كلل وضجر وحزن. اليوم هو يوم عيد الاستقلال، عندما انتصرت كلاب المنطقة على البشر وأعلنت الحكم الذاتي.

كان ذلك منذ زمن بعيد، استطاعت الكلاب بمعاونة القطط والقوارض الانتصار على البشر في موقعة الدجاج. رفع يديه عاليًا في حركة خاطفة في محاولة للإمساك بالذبابة، إلا أنها طارت مسرعة، فعاد مرة أخرى إلى سكونه وضجره، وتمتم لنفسه "نحن لم نعد نقوى حتى على اصطياد ذبابة" نظر حوله فوجد بعض القطط والكلاب يُزيِّنون القاعة التي خُصِّصت للاحتفالات والاجتماعات المهمَّة، كانت القاعة جراجًا كبيرًا للسيارات في عهد البشر لكنها تحوَّلت في عصر الكلاب إلى قاعة احتفالات ضخمة، وبعد أن تخلَّص الكلاب من كل السيارات المزعجة أصبحت الجراجات مكاتب وأندية عامَّة للكلاب والقطط والقوارض.

الحياة تغيَّرت كثيرًا في المنطقة، فكل بيوت البشر أصبحت فنادق يديرها القطط ويقدمون الخدمة الفاخرة مجانًا، الكل هنا مسؤول عن شيء محدد، لا فضل لأحد على أحد، وليس هناك طبقات تفصل بينهم، الجميع سواسية، يبدو الأمر كذلك، لكنه في حقيقة الأمر لا يخلو من بعض الخلل، خاصة فيما يتعلق بالحماية والأمان، فإنها بشكل أو بآخر طريقة لتوزيع القوى أو فرضها، معاهدة السلام التي تمت بين الكلاب والقطط والقوارض كانت تنص على أن يتكلف الكلاب بالحماية والحراسة وأن تهتم القطط بالشؤون الداخلية، هذا وعلى أن تكون القوارض هي الجنود السرية، تنقل لهم ما يحدث في المناطق المجاورة التي ما زال يسيطر عليها البشر وتسرق ما تستطيع من مطبخهم وخزائنهم. لم يكن يفهم جيدًا كيف حدث هذا كله، إلا أنه يتذكَّر كل حكايات جده عن موقعة الدجاج وعن يوم الاستقلال وعن البشر، ولد في المنطقة بعد أن تحررت فلم يرَ بشريًّا في حياته قط، قرأ عنهم في الكتب وشاهد بعض الصور والأفلام الوثائقية لكنه لم يُقابل بشريًّا يومًا، كان يحكي له جده عن زمن كان البشر والكلاب والقطط والقوارض يعيشون ويستفيدون من بعضهم البعض إلا أن البشر استفحل بهم الشر والطمع فغرقوا في القتال والحروب وباتت حيوانات الأرض كلها تستغيث من ظلمهم. ولأن الكلاب أوفياء ومخلصون للأرض وما عليها قرروا الاتحاد مع القطط والقوارض ليغيروا شكل الحياة وينقذون الأرض من خبل البشر وجنونهم. كان يعرف جيدًا أن حياة المنطقة تطوَّرت وأصبحت أكثر أمانًا لجنسه وجنس بقية الحيوانات، وأن الاستقلال عن البشر كان قرارًا حكيمًا جدًّا، إلا أنها كانت تبدو له حياة خالية من الشغف والمغامرة.

عادت الذبابة مرة أخرى فوق رأسه، نظر إليها في مرارة ثم نهض ببطء شديد حرك ذيله يمينًا ويسارًا ثم تحرَّك في اتجاه أطباق المياه المزينة بالورود والموضوعة بعناية استعدادًا لحفل عيد الاستقلال، شرب منها ومشى في اتجاه أحد الأركان المظلمة الهادئة في القاعة واستلقى مرة أخرى على الأرض. أخذ يتابع التجهيزات والأنوار والزينة المعلقة، الأزهار الملونة المبهجة، كل طاولات المأكولات الفخمة، تلتف حولها القطط والقوارض وهي ترتدي أبهى الثياب والحلي والكلاب بعضهم يرتدي بدلًا رسمية وآخرون بملابس تبدو وكأنهم في مسابقة للأزياء، الروائح العطرة تملأ المكان وطقس عام مُضيء ولامع، عطس الكلب الضجر حين تراكمت الروائح على أنفه ونفض جسده وتمدَّد في استسلام تام وهو يفكر في موقعة الدجاج، فقد حكى له جده أن ما جعل الأمور تتفاقم بين الحيوانات والبشر أزمة اقتصادية كارثية قلبت الموازين فبات البشر يشترون ويطبخون أرجل الدجاج بدلًا من أن يقدموها لكلاب الشارع أو لكلابهم الخاصَّة، وحثَّت الدولة على أكل أرجل الدجاج لما فيها من فوائد عظيمة للبشر، أصبحت شوربة أرجل الدجاج تُقدَّم في المطاعم باعتبارها بديلًا معقولًا لطعم ومذاق شوربة الدجاج الحقيقية. ضاق الحال بالبشر فتقاسموا أكلهم مع الكلاب، لم يعد يجد الكلب ما يأكله بل صار يتشاجر مع القطط والقوارض والطيور على لقمة خبز مدفونة بين القمامة التي يكون البشر قد أنهوا على ما يمكن أن يؤكل منها. أما القطط المسكينة هزلت وضعفت وانتشر بينهم المرض لقلة الموارد وجحود البشر، ولو أننا في منطقة تحرم أكل الكلاب والقطط والقوارض لوجدنا أنفسنا قطع كباب ومشاوٍ في مطاعم الحاتي، حتى الكلاب والقطط التي تسعد برعاية أصحابها من البشر في بيوتهم لم ينجوا من الكارثة، فبعضهم تخلَّى عنهم أصحابهم وتركوهم في الشوارع، أو ماتوا بسبب الطعام المجفف المغشوش الرخيص الذي أودى بحياة العديد حتى غرقت المدينة في جثث الحيوانات والبشر. أصبحت الحياة بينهم حقًّا مستحيلة، هكذا كان يؤكد دائمًا جده وهو يحكي له عن انتصار الماضي. لكن الكلب الضجر كان يلحظ في عين جده حزنًا عميقًا لم يكن يعرف سببه بعد.

اقتربت منه كلبة يبدو عليها الضجر والسأم أيضًا، وهي تهمس له "هل انتظرتني كثيرًا" انتفض من مكانه وامتلأت عيناه بخليط من الحب والحنان والعتاب والأسى، ابتسم لها وقال "هيا بنا".

خرجوا من بوابة القاعة الخلفية في حركة خفيفة وسريعة، عبروا الطريق الرئيسي واتجهوا ناحية الشاطئ. كانت هناك مجموعات من الفئران تعزف وتغني في الشارع أمام القاعة وقطط ترقص رقصات عالمية. بدأت الأضواء والموسيقى تختفي تدريجيًا حولهما وهما يقتربان من الشاطئ. اندلفا إلى البحر وهما يتأملَّان القمر الذي كان هلالًا أصفر. لحظات من الصمت كان يصاحبها صوت البحر. أخذ الكلب الضجِر نفسًا عميقًا فنظرت إليه الكلبة وقالت "أختي ستتزوَّج اليوم كلبًا على رتبة ضابط وأمي تتمنَّى لي زواجًا مرموقًا مثلها"، تنهَّد الكلب دون أن ينظر إليها والتزم الصمت فأكملت "اليوم هو فرصتنا الأخيرة"، نظر إليها برقة وقال "هل أنت حقًّا مستعدة للمجهول!؟" ردَّت دون تردد "إن ما نعيشه هنا هو المجهول ذاته"، اقترب منها وتحسَّس رأسها بإحدى يديه، قبَّلها وتحركا معًا بمحاذاة البحر، حيث كان الرمل يكتب خطواتهما ثم تأتي الأمواج خلفهما لتمحيها للأبد. كان يعرف أنه لا سبيل آخر، فإن حياة الكلاب لا تكتمل دون البشر، عرف ذلك من جده الذي كان يحكي له عن تلك السيدة التي كانت ترعاه وتهتم به، سيدة حنون ورقيقة لها صوت ساحر وهي تغني، تطيب طعامًا نظيفًا وشهيًّا، تعده مخصوصًا لكل كلاب الشارع والقطط وتهتم بصحتهم وأمانهم، إلا أن علاقتها بجده كانت علاقة خاصَّة جدًّا، جعلتها تستضيفه كثيرًا في بيتها، إلى أن تدهورت صحتها قبل موقعة الدجاج بقليل وانتقلت إلى السماوات روحها ودفن جسدها في مقابر الفقراء وكان جده حاضرًا كل لحظاتها الأخيرة. ربما هذا كان أحد أسباب كرهه الشديد لما فعله البشر في الأرض والذي أودى بحياة تلك السيدة المسكينة وآخرين كثر.

البحر كان هادئًا جدًّا، والطيور غافية فوق أغصان شجر الكافور البعيدة والكل منشغل بالاحتفال والفرح، اقتربا من قارب صغير، وقفزا بداخله، أمسكا كل منهما بمجداف وبهدوء شديد بدأ القارب يبتعد رويدًا رويدًا عن الشاطئ. ابتسمت لهم السماء واستنشقت رائحة اليود وزفرته، فطار الهلال وسقط على الشاطئ في الرمل.