حين يمتلك المتنمرون تلك السلطة، ربما الأبطال حقًا من ببساطة يهربون بعيدًا.

المتنمر وجمهوره: حول البنية اﻷولية للسيطرة

مقال ديفيد جريبر 

ترجمة سارة علاء ونورا حلمي

نشر في مدى مصر 26 أبريل 2019، نُشر الأصل الإنجليزي في يوليو 2015، في العدد 28 من مجلة بافلر The baffler.


طريق الموت السريع عن ويكيميديا

في أواخر فبراير وأوائل مارس من عام 1991، أثناء حرب الخليج الأولى، قامت قوات الولايات المتحدة الأمريكية بتفجير وإشعال النيران في آلاف العراقيين الذين كانوا يحاولون الفرار من الكويت، وكانت هناك سلسلة من مثل هذه الحوادث، منها: «طريق الموت السريع»، و«الطريق الثامن السريع»، و«معركة الرميلة»، والتي أوقفت فيها القوات الجوية للولايات المتحدة الأمريكية القوات العراقية المنسحبة، واشتبكت معهم، فيما يطلِق عليه الجيش «صيد سهل». ذُبح الجنود المحاصرون في مركباتهم، وأصبحت صور الجثث المتفحمة وهي تحاول الزحف بيأس من العربات صورة رمزية للحرب.

لم أفهم يومًا لماذا لم تُعتبر اﻹبادة الجماعية للرجال العراقيين جريمة حرب، فمن الجلي أن القيادة العسكرية للولايات المتحدة تخوفت من كونها كذلك. أعلن الرئيس جورج بوش الأب بسرعة وقف مؤقت للقتال، وبذل الجيش جهودًا عظيمة منذ وقتها لخفض عدد الضحايا، وجعْل الظروف غامضة، وتشويه الضحايا باعتبارهم مجموعة من المغتصبين والقتلة والسفاحين وذلك ما أكده لاحقًا الجنرال نورمان شوارزكوف، ومُنعت الصور الأكثر فظاعة من الظهور على شاشات الولايات المتحدة الأمريكية، ويُشاع أن هناك مقاطع فيديو، لن تذاع أبدًا، صورت بكاميرات مروحيات العراقيين المذعورين.

كان قلق النخب منطقيًا، لأن في نهاية الأمر لم يكن الضحايا سوى مجرد شباب مجند، والذين عندما أُقحموا في القتال، نفذوا بدقة القرار الذي يُرجي منهم في نفس موقفهم وهو أن يقولوا «اللعنة على الحرب»، ويجمعوا أغراضهم، ويعودوا لديارهم.

ألهذا السبب كان يجب حرقهم أحياء؟ عندما حرق تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) طيارًا أردنيًا حيًا في الشتاء الماضي أُدين ذلك الفعل عالميًا باعتباره فعلاً بربريًا، وهو حقًا كذلك. ورغم ذلك يمكن لداعش أن تبرِّر بأن ذلك الطيار كان يقصفهم بالقنابل. لقد كان العراقيون المتقهقرون في مذبحة «طريق الموت السريع»، وكذلك في باقي المذابح الرئيسية التي قامت بها الولايات المتحدة مجرد أطفال لم يريدوا القتال.

لكن لربما كان هذا الرفض نفسه [رفض القتال] هو الذى منع الجنود العراقيين من نيل التعاطف، ليس فقط في دوائر النخبة حيث لا يمكن توقع الكثير، لكن أيضًا في محكمة الرأي العام. دعنا نواجه الأمر؛ فعلى مستوى آخر: هؤلاء الرجال كانوا جبناء، واستحقوا ما حدث لهم.

هكذا، يبدو أن هناك نقص تعاطف متعمَّد تجاه الرجال غير المقاتلين فى مناطق الحرب، حتى تقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية تتحدث عن المجازر كأنها تكاد تكون موجهة حصريًا تجاه النساء والأطفال وربما كبار السن، لم يُذكر أبدًا المعنى الضمني صراحة، وهو أن الرجال البالغين إما أن يكونوا مقاتلين أو أنهم يعانون من خطب ما، («أتعنى أن هناك من يذبح النساء والأطفال ولم تكن بالخارج لتدافع عنهم؟ هل أنت جبان لهذه الدرجة؟»).

من المعروف عن الذين يرتكبون المذابح بأنهم يتلاعبون بسخرية بهذا التجنيد الإجباري الضمني، وأشهرهم القادة العسكريون البوسنيون الصرب الذين اعتقدوا أن بإمكانهم تجنب التهم المتعلقة باﻹبادة إذا قاموا فقط بقتل كل الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والخمسين.

لكن هناك شيء آخر يحد من مدى تعاطفنا مع ضحايا مجزرة العراقيين الفارين، لقد أُغرق مشاهدو الأخبار في الولايات المتحدة باتهامات وُجهت للعراقيين بأنهم كانوا بالفعل مجموعة من المجرمين الذين قاموا باغتصاب وسرقة وقذف حديثي الولادة خارج الحضانات، وذلك على عكس الطيار الأردني الذي، بالكاد، ألقى القنابل على مدن مليئة بالنساء واﻷطفال من ارتفاع آمن أو هذا ما اعتقده. جميعنا لُقنّا أن المتنمرين جبناء، لذلك نتقبل بسهولة أن العكس بالضرورة صحيح كذلك.

بالنسبة لمعظمنا، تقبع التجربة الأولى للتنمر أو للتعرض للتنمر في الخلفية متى نوقشت الجرائم والحوادث، حيث إنها تشكل حساسيتنا وقدرتنا على التعاطف بطرق عميقة ومخربة.

الجبن سبب أيضًا

معظم الناس لا يحبون الحروب ويشعرون أن العالم سيكون مكانًا أفضل بدونها، لكن يبدو أن ازدراء الجبن يؤثر فيهم على مستوى أعمق، في النهاية، ربما يصبح «الفرار من الجيش» -أو ميل المجندين المدعوين إلى تجربتهم اﻷولى في المجد العسكري لترك صفوف الجيش والاختباء في أقرب غابة أو منحدر أو حظيرة مهجورة، وبعدما تمر الصفوف بأمان يكتشفون طريقهم للعودة للوطن- الخطر الأعظم على حروب الغزو، فعلى سبيل المثال فقدت جيوش نابليون جنودًا هاربين أكثر من القوات التي فقدتها في القتال. عادة ما تضطر القوات العسكرية أن تنشر نسبة ملحوظة من مجمل عددها في الخطوط الخلفية مع إعطاء الأوامر بقتل أي زملاء يحاولون الفرار بعيدًا، ومع ذلك غالبًا لا يشعر هؤلاء الذين يدعون أنهم يكرهون الحرب بالراحة عند الاحتفاء بالهروب من الجندية.

أما عن الاستثناء الوحيد الذي أعلمه فهي ألمانيا، فقد أقامت عددًا من النصب التذكارية التي عرفت «بالجندي الهارب المجهول». يوجد نقش على أولهم وأكثرهم شهرة في بوستدام، «إلى رجلٍ رفض قتل أخيه»، لكنني عندما أخبر صديق هنا عن هذا الأثر عادة ما أشعر منه بانقباض غريزي، «أعتقد أن ما قد يسأل عنه الناس هو: هل بالفعل فروا لأنهم لم يريدوا قتل الآخرين أم لأنهم يخشون الموت؟»، وكأن فرارهم خطيئة.

في المجتمعات العسكرية كالولايات المتحدة الأمريكية، غالبًا ما يتم اعتبار أعداءنا جبناء، خصوصًا إذا كانت هناك إمكانية لوصم العدو «بالإرهابي» وهو شخص يتمني بث الخوف في داخلنا كي يحولنا جميعًا إلى جبناء، لذلك من الضروري دائمًا تبديل الأمر بصورة طقسية والإصرار بأنهم هم بالفعل من يملؤهم الخوف. كل الهجمات على مواطني الولايات المتحدة الأمريكية هي بالتعريف «هجمات جبانة»، لقد وصف جورج بوش الابن هجمات الحادي عشر من سبتمبر بأنها هجمات جبانة في الصباح التالى لحدوثها، وهذا شديد الغرابة. ففي النهاية هناك صفات سيئة عديدة يمكننا ذكرها عند الحديث عن محمد عطا وجماعته -اختر ما تفضله منها- لكن بالتأكيد كلمة «جبان» ليست من بينها، قد نعتبر أن تفجير حفل الزفاف باستخدام طائرة بدون طيار فعلاً جبانًا، لكن ما أعتقده شخصيًا أن التحليق بطائرة والاصطدام بناطحة سحاب يتطلب شجاعة، كذلك فكرة أن يكون الفرد شجاعًا في قضية باطلة بطريقة ما فكرة تقع خارج سيادة الخطاب الجمعي المقبول، وذلك على الرغم من حقيقة أن كثيرًا مما يُقبل في سجلات التاريخ العالمي يشمل عددًا لانهائيًا من أناس شجعان يرتكبون أفعال بشعة.

عن الأخطاء التأسيسية

آجلًا أو عاجلًا سيضطر كل مشروع يسعى إلى حرية الانسان أن يدرك لماذا نتقبل فكرة تصنيف وترتيب المجتمعات بناءً على العنف والسيطرة. يستوقفني أن رد فعلنا الداخلي الغريزي تجاه الضعف والجبن و ممانعتنا الغريبة في تقبل حتى أكثر أشكال الخوف المبررة ربما يعطينا دليلًا ما.

تكمن المشكلة في أن ذلك الجدل مازال محكومًا حتى الآن بموقفين سخيفين على حدٍ سواء. من جهة هناك من ينكرون أنه من الممكن قول أي شيء عن البشر باعتبارهم فصائل [حيوانية]، ومن جهة أخرى هناك من يفترضون أن الهدف من ذلك اﻹدراك هو تفسير السبب وراء أن بعض البشر يجدون المتعة في الإطاحة بالآخرين، وينتهي هؤلاء دائمًا بسرد قصص تدور حول البابون والشمبانزي، وغالبًا ما يقدمون تفسيرًا أن البشر -أو على الأقل هؤلاء الذين يملكون كميات كافية من التيستيرون- ورثوا عن الأجداد القدامى ميلًا داخليًا لممارسة العدوان الذي يظهر في الحروب ولا يمكن الخلاص منه، لكن ربما يتحول إلى نشاط تجاري تنافسي، وعلى أساس هذه الافتراضات نقول إن الجبناء هم من يفتقدون دافعًا بيولوجيًا أساسيًا، وبالكاد يكون من المفاجئ أننا نزدريهم.

هناك الكثير من الأشياء الخاطئة في هذه القصة، لكن أكثرها وضوحًا أنها ببساطة ليست صحيحة، أن احتمالية الذهاب للحرب لا تولد حافزًا بيولوجيًا تلقائيًا عند الذكر، ضع في الاعتبار ما أشار إليه أندرو براد شموكلر في «مثال القبائل»، لنفترض أن خمس قبائل تتشارك نفس النهر، يمكنهم جميعًا أن يعيشوا بسلام فقط إن بقي كل واحد منهم مسالمًا. في اللحظة التي يظهر فيها ما يطلق عليه «التفاحة الفاسدة»، ولنقل أن شباب قبيلة ما قرروا أن إحدى الطرق المناسبة للتعامل مع فقد عزيز عليهم هو الإتيان برأس غريب في المقابل أو أن الإله قد اختارهم لمعاقبة الكافرين، في هذه اللحظة إذا لم ترد القبائل اﻷخرى اﻹبادة فلديها ثلاث خيارات فقط: إما الفرار أو الخضوع أو إعادة تنظيم مجتمعاتهم والاستعداد للحرب، يصعب تخطئة هذا المنطق. بالرغم من ذلك ففي حالة أن هناك شخص مطلع على تاريخ أوقيانوسيا أو الأمازون أو أفريقيا مثلًا سيكون على وعي بأن هناك مجتمعات عظيمة رفضت ببساطة أن تنظم جيشًا. مرارًا وتكرارًا، نجد دراسات وصفية لمجتمعات سلمية نسبيًا، قبلت أنه كل بضع سنوات سيلجأون للتلال هربًا من غارة يشنها الرجال الفاسدون الذين جاءوا القرية للاغتصاب والنهب ولأخذ بعض الغنائم من المتخلفين قليلي الحظ.

يُعد رفض الأغلبية الواسعة من الذكور قضاء وقتهم في التدرب على الحرب، حتى لو كانت في مصلحتهم العملية الحالية، بالنسبة لي دليلًا ايجابيًا على أن البشر ليسوا مجرد قبائل مولعة بالحرب.*

بالطبع لا أحد ينكر أننا مخلوقات ناقصة، يوجد في كل لغة بشرية ما يرادف كلمة «إنسانية» أو تعبير مثل «أن تعامل شخص وكأنه إنسان» وهذا بدوره يشير ببساطة إلى الإقرار بكائن آخر باعتباره أخ في اﻹنسانية، والذي يتضمن مسؤولية أن تعاملهم بقدر من الطيبة والتقدير والاحترام. ورغم ذلك، من الواضح ليس هناك مكان يلتزم فيه البشر بتلك المسؤولية على الدوام، وعندما نفشل في ذلك، نهز أكتافنا، ونقول «نحن مجرد بشر»، أن تكون إنسانًا إذًا يعني الشيئين معًا: أن يكون لديك مثاليات وأن تفشل في الوصول إليها.

إن كان هذا هو ما يظنه البشر عن أنفسهم، فبالتالي يكاد يكون من المفاجئ عندما نحاول فهم ما يجعل بُنى سيادة العنف ممكنة، نميل إلى النظر لوجود دوافع غير اجتماعية ونتسائل: لماذا بعض الناس متوحشون؟ لماذا يرغبون في السيطرة على الآخرين؟ لكن هذه بالضبط هي الأسئلة الخاطئة. البشر لديهم تنوع لا نهائي من الرغبات، وغالبًا ما تدفعنا نحو عدد كبير ومختلف الاتجاهات في نفس الوقت، والتى لا يدل وجودها على شيء.

ليس السؤال الذي يجب طرحه هو لماذا الناس قساة في بعض اﻷحيان، أو حتى لماذا قلة من الناس عادة ما يكونوا قساة (كل الدلائل تشير أن الساديين الحقيقيين هم أقلية متناهية الصغر من تعداد البشر)، بل السؤال هو  كيف أنشأنا مؤسسات تشجع هذا السلوك؟ وهذا بدوره يعطي انطباعًا أن القساة يلاقون الإعجاب أو على الأقل يحوزون على تعاطف مماثل للأشخاص الذين يتنمرون عليهم.

من هنا أعتقد أنه علينا أن نمعن النظر في كيفية تنظيم المؤسسات لردود أفعال الجمهور، دائمًا عندما نريد تخيل مشهد أولي للسيطرة، نرى نوع من الثنائية الهيجلية للعبد والسيد، والتي فيها يتنافس فريقان من أجل الحصول على الاعتراف من أحدهم الآخر، والذي يقود بالنهاية إلي سحق أحدهم تحت أقدام الآخر، بدلًا من ذلك يجب علينا تخيل علاقة ثلاثية اﻷطراف بين المعتدي والضحية والمتفرج، والتى فيها يحاول كل طرف الحصول على الاعتراف (والسماحية والتعاطف… إلى آخره) من الطرف الثالث. يظل الصراع الهجيلي للسيطرة في النهاية مجردًا، مجرد قصة في النهاية، فقلة قليلة هم من شهدوا رجلين بالغين يتبارزان حتى الموت للحصول على الاعتراف من الطرف الآخر باعتباره إنسان بحق، بينما في السيناريو ثلاثي الأطراف والذي فيه طرف يسحق الآخر، ويطالب كلا منهما المحيطين بهما بالاعتراف بإنسانيتهما؛ نكون جميعًا قد شهدنا وشاركنا في هذا السيناريو آخذين أحد الأدوار ربما آلاف المرات منذ التحاقنا بالمدرسة.

بنى (المدرسة) اﻷساسية للسيطرة

إنني أتحدث بالطبع عن التنمر في فناء المدرسة، وأرى أن التنمر يمثل أحد أشكال البنية اﻷساسية للهيمنة اﻹنسانية، فإذا أردنا أن نفهم الطريقة الذي سارت بها اﻷمور على نحو خاطئ، فإنه ينبغي لنا أن نبدأ من هذا المكان.

وفي تلك الحالة كذلك، تقدم التحفظات التقليدية، ومن السهل أن ننزلق إلى الحجج الفجة المرتبطة بالنمو. وهناك تقليد في التفكير  -الذي يمكن أن نطلق عليه تقليد رواية «أمير الذباب»- وهو يفسر التنمر في فناء المدرسة باعتباره التسمية العصرية لجدنا «القرد القاتل»، الذكر الألفا البدائي الذي يستعيد على الفور قانون الغاب عندما لا توجد سلطة ذكورية رشيدة تقيده، لكن ذلك خاطئ على نحو واضح. ففي الواقع أن كتبًا مثل «أمير الذباب» يفضل قراءتها بوصفها تأملات تتعلق بنوعية التقنيات المستخدمة في الترهيب والتخويف في المدارس البريطانية العامة، والتي توظف في تنشئة أطفال الطبقة العليا لكي يكونوا مسؤولين قادرين على إدارة إمبراطورية. وهذه التقنيات لم تظهر في ظل غياب السلطة، بل أنها تنقيات مصممة لخلق سلطة من الذكور البالغين ذوي الدم البارد على نحو ما كي تبدأ بهم.

لا تشبه معظم المدارس اليوم مدرستي ايتون وهارو في أيام ويليام جولدنج، لكن حتى تلك التي تتباهى ببرامجها المتقنة لمكافحة التنمر، فإن التنمر يحدث في المدرسة بطريقة لا تتعارض مع السلطة المؤسسية للمدرسة أو رغمًا عنها، حيث يكون التنمر أشبه تصدع في سلطتها.

لنبدأ بنقطة واضحة: الأطفال لا يستطيعون مغادرة المدرسة. وعادة فإنه عندما يتعرض طفل لإذلال أو إهانة من شخص أكبر منه فإنه يذهب لمكان آخر. لكن ليس لدى أطفال المدرسة ذلك الاختيار، وإذا ما استمروا في محاولة الهرب نحو الأمان، فإن السلطة ستعيدهم. هذا أحد الأسباب، كما أظن، لأن الصورة النمطية للمتنمر باعتباره فتى المدرس المدلل أو مراقب القاعة: حتى بفرض عدم صحة ذلك، تقوم على المعرفة الضمنية بأن التنمر يعتمد على سلطة المؤسسة على الأقل بطريقة واحدة -فالمدرسة، فعليًا، تحتجز الضحايا بينما يضربهم المتنمرون داخلها. ويفسر ذلك الاعتماد على السلطة أيضًا لماذا تحدث أكثر أشكال التنمر تطرفًا ووضوحًا في السجون، حيث يتحالف السجناء ذوي السيطرة مع حراس السجن.

بالإضافة لذلك، عادة ما يدرك المتنمرون  أن النظام يميل لعقاب الضحية التي ترد الضربة بشكل أعنف. تمامًا مثلما تواجه المرأة رجلًا معتديًا ضعف حجمها، فلا يسعها أن تنخرط في معركة عادلة، بل يجب أن تنتهز اللحظة المناسبة لتحدث أقصى ضرر له دون أن تترك مساحة للانتقام، هكذا أيضًا يرد ضحية التنمر في ساحة المدرسة بعنف غير متناسب ليس بغرض إعاقة الخصم في تلك الحالة لكن ليوجه ضربة حاسمة بما يكفى لجعل الخصم يتردد في الاشتباك مجددًا.

لقد تعلمت هذا الدرس بشكل شخصي. فقد كنت نحيلًا في المرحلة الابتدائية وأصغر من أقراني -تخطيت سنة دراسية- ولذلك أصبحت هدفا أساسيًا لبعض الأطفال الأكبر الذين طوروا أسلوبًا شبه علمي للكز الأقزام أمثالي، كان أسلوبًا حادًا وقاسيًا وسريعًا لتجنب اتهامهم بالعراك. لم يمر يومًا دون مهاجمتي. إلى أن قررت أخيرًا أن هذا يكفى وتحينت اللحظة المناسبة ووجهت لأحدهم بعينه -وكان غبيًا وكريهًا – لكمة جيدة لرأسه ألقت به ممددًا في الممر. وأظن أنني سببت له جرحًا قطعيًا في الفم. وبشكل ما نجح الأمر كما انتويت، وابتعد المتنمرون عني لشهر أو اثنين. لكن النتيجة المباشرة أننا أُرسلنا إلى مكتب المدير بسبب العراك وحقيقة أنه البادئ بالشجار بدت بلا أهمية. وقرروا أنني المذنب وطردت من نادي العلوم والرياضيات المتقدمة (ولضعف درجاته لم يكن هناك ما يطرد منه أو يخسره).

«لا يهم من البادىء It doesn`t matter who Started it» ربما تكون أكثر ست كلمات خداعًا في اللغة الإنجليزية.

الحشد الجماعي للقسوة

لا تقدم الأدبيات النفسية عن التنمر سوى القليل عن موضوع السلطة المؤسسية، ولأنها موجهة بالأساس للسلطات المدرسية افترضت أن أدوارها (حميدة). لكن الأبحاث الأخيرة التي زادت بشكل مضطرد منذ حادثة كولمبين** توصلت لاكتشافات مدهشة عن الأشكال الأساسية للسيطرة. لننظر فيها بشكل أعمق.

الشيء الأول الذي أظهرته الأبحاث أن الغالبية العظمى لحوادث التنمر تحدث أمام جمهور، وأن حوادث الاضطهاد السرية المنعزلة نادرة نسبيا. حيث يهدف التنمر إلى الإذلال وهذا التأثير لا يمكن إحداثه بدون شهود. أحيانا يحث الناظرون المتنمر بالضحك والهمز أو المشاركة معه. وفي أغلب الأحيان يقف الجمهور مذعنًا بشكل سلبي. نادرًا ما يتدخل أحدهم للدفاع عن زميل يتعرض للتهديد أو الاستهزاء أو الهجوم البدني.

عندما سأل الباحثون الأطفال عن سبب عدم تدخلهم، أجابت قلة منهم بأنهم شعروا أن الضحية نال ما يستحقه لكن الغالبية لم يعجبهم ما حدث ولم يعجبهم المتنمر بالتأكيد لكن قرروا أن التدخل يضعهم في نهاية الأمر في نفس الموقع مع الضحية وسيزيد ذلك الأمور سوءًا. المثير للانتباه أن هذا غير حقيقي. أظهرت الدراسات بشكل عام أنه في حالة اعتراض واحد او اثنين من المتفرجين يتوقف المتنمرون. لكن الناظرين لديهم قناعة بشكل ما أن ما يحدث هو العكس. لماذا؟

أحد الأسباب أن كل ما يتعرضون له من صنوف الأدب الذائع يخبرهم أن هذا يحدث. يتدخل أبطال القصص المصورة ويقولون «أنت! توقف عن ضرب هذا الطفل». وبالفعل يحول الشرير طاقة غضبه للبطل متسببًا في كل أشكال الدمار. (الرسالة الخفية في هذا النوع من القصص هي «من الأفضل ألا تتدخل في تلك الأمور إلا إذا كنت قادرًا على التغلب على وحش من بُعد آخر يطلق الصواعق من عينيه). البطل كما يتم تصويره في الإعلام الأمريكي هو مبرر للسلبية. خطر لي ذلك عند مشاهدة مذيع نشرة إخبارية لبلدة صغيرة يثني على مراهق قفز في النهر لينقذ طفلًا يوشك على الغرق «عندما سألته لم فعلها؟» قال المذيع معلقًا: أجاب مثل الأبطال الحقيقيين، «قمت فقط بما قد يقوم به أي شخص في تلك الظروف». المفترض أن يفهم الجمهور من هذا التعليق أن هذا بالطبع غير صحيح. لا يفعل ذلك أي شخص. لا بأس إذًا فالأبطال استثنائيون. ويبدو أنه مقبولُ تمامًا لك في مثل هذه الظروف أن تقف وتنتظر فريق إنقاذ محترف.

يمكن أيضًا تفسير الاستجابة السلبية لجمهور طلاب المدرسة الابتدائية للتنمر لكونهم أدركوا كيف تدار سلطة الكبار، وافترضوا خطًا أن هذا المنطق يسرى على تعاملاتهم مع أقرانهم. عندما يُقارن هذا مثلا بمشهد ضابط شرطة يدفع مواطنًا بائسًا فهو إذًا حقيقي تمامًا أن التدخل ينتهي بك في مأزق خطير، وربما على الجانب الخطأ من هراوة الضابط. ونعرف كلنا ماذا يحدث  للـ«للمبلغين». نتذكر جميعًا قول وزير الخارجية جون كيري لإدوارد سنودن بأن «يتحلى بالرجولة» ويخضع للتنمر السادي المؤبد لنظام العدالة الجنائية الأمريكي، كيف يفترض أن يفسر طفل برئ تلك الحادثة؟

مصائر «التحلي بالرجولة» وأمثال سنودن، هي إعلانات رفيعة المستوى لمبدأ أساسي في الثقافة الأمريكية: فرُغم الاتفاق على أن استغلال السلطة أمر سيء لكن الإشارة الواضحة بأن أحدهم يستغل سلطته هو أكثر سوءًا ويستحق أقصى عقاب.

الاكتشاف الآخر المذهل في الأبحاث الأخيرة: يفتقر المتنمرون في الحقيقة للثقة بالنفس. رجح علماء النفس لوقت طويل أن الأطفال المتنمرين يُسقطون شعورهم بعدم الأمان على الآخرين. ولكن اتضح أن أغلب المتنمرين يتصرفون كوغد صغير ممتلئ بذاته، ليس لأن الشك بذاته يعذبه، لكن لأنهم بالفعل ممتلئين بذواتهم. الحقيقة أن اعتدادهم بأنفسهم يخلق عالم أخلاقي يصبح فيه غرورهم وعنفهم هو المقياس الذي يصدر به الحكم على اﻵخرين، ويصبح الضعف أو الخرق أو الشرود أو الانتحاب ليست مجرد ذنوب لكن استفزازات لابد من التعامل معها. وهكذا يُرى المتنمر في نفس اللحظة في صورة الشرير الذي لا يقهر، وأيضًا مختالًا مثيرًا للشفقة ولا يشعر بالأمان.

هنا أيضًا أستطيع أن أستعين بشهادتي الشخصية. أتذكر جيدًا محادثة مع زميل ذائع الصيت عرفته في المدرسة الابتدائية. كان بطىء الفهم ولكنه لطيف وربما دخّنا الحشيش معًا مرة أو مرتين. في أحد الأيام بعد الانتهاء من التجهيز لمسرحية اعتقدت أنه سيكون مضحكًا لو سرتُ لمسكن الطلبة برداء من عصر آخر. انقض علي بمجرد أن رآني وكأنه يهمّ بسحقي. شعوري بالاستياء جعلني أنسى خوفي «مات! ماذا تظن أنك فاعل؟ لماذا تريد مهاجمتي؟»، بُغت مات ونسى الاستمرار في مهاجمتي. قال معترضًا «لكنك دخلت المسكن مرتديًا جوارب نسائية! فماذا تتوقع؟» هل كان يعبر عن مخاوف عميقة بخصوص هويته الجنسية؟ ربما. لا أعلم. لكن السؤال الحقيقي لماذا نفترض أن تشوش ذهنه عاملًا مهمًا؟ ما يهم هو شعوره أنه دافع بصدق عن الكود الاجتماعي.

في هذا المثال نشرَ المتنمر المراهق العنف ليطبق كود الذكورية ورهاب المثلية الذي يعزز أيضًا سلطة الكبار. لكن يختلف الأمر بالنسبة للأطفال الأصغر سنًا. هنا نجد الاكتشاف المدهش الثالث في أدبيات علم النفس وأكثرهم كشفًا. في البداية لا يتم استهداف الفتاة البدينة أو الطفل ذا العوينات، يأتي هذا متأخرًا عندما يتعلَّم المتنمرون اختيار ضحاياهم وفقا لمقاييس الكبار. في البداية  يكون العامل الرئيسي في المعادلة طريقة استجابة الضحية. فالضحية المثالية ليست الضحية السلبية، بل من يدافع لكن بشكل غير فعال كالصراخ أو البكاء أو التهديد بإخبار أمه أو التظاهر بأنه سيضرب ثم يحاول الهرب. تُهيئ هذه الأفعال إمكانية خلق الدراما الأخلاقية التي تجعل الجمهور يشعر أن المتنمر محق بشكل ما.

ما أعنيه بالتركيب العميق للتنمر، يتمثل في مثلث المتنمر والضحية والجمهور، ويستحق تحليله في مجلدات. الحقيقة أنه يستحق أن يعلَّق بحروف من مصابيح النيون في كل مكان. يخلق التنمر دراما أخلاقية يصبح فيها رد فعل الضحية للتعدي مبرِّرًا يمكن استخدامه بأثر رجعي في تعليل فعل التعدي الأصلي ذاته.

ولا تظهر تلك الدراما في جذور التنمر في بداية الطفولة فقط، لكنها تستمر في مرحلة النضج. أدعوها مغالطة «توقفا أنتما الاثنين»،وهو نمط يعرفه كل من يرتاد منتديات التواصل الاجتماعي، يهاجم المعتدى، ويحاول المستهدف الترفع ولا يرد، ولا يتدخل أحد، فيعيد المعتدي الكرة، ويترفع المستهدف ولا يرد ولا يتدخل أحد، ويتمادى المعتدي مرة أخرى.

وقد يحدث هذا اثني عشر أو خمسين مرة إلى أن يرد المستهدَف. حينها فقط تتعالى عشرات الأصوات هاتفة «عراك! انظر إلى هذين الأحمقين» أو «ألا يمكنكم التحلى بالهدوء وأن يتعلم كل منكم أن يرى وجهة نظر الأخر؟» يعلم المتنمِّر الذكي أن هذا سيحدث، ولن يهدر نقاطًا لكونه المعتدى، ويعلم أيضًا أنه لو لطف لهجته قليلًا يسهل حينها رؤية رد فعل الضحية باعتباره المشكلة.

نوب: أنت شخص لطيف لكن لا بد أن أصارحك بأنك على قدر من الحماقة.

جيفز: على قدر من .. ماذا؟ ماذا تعني بحق الجحيم؟

نوب: أرأيت ما أعني؟ اهدأ، قلت أنك شخص لطيف. لمَ تستخدم تلك اللغة؟ ألا تلاحظ وجود سيدات هنا؟

وما يعتبر حقيقيًا بالنسبة للصراع الطبقي الاجتماعي يلائم أيضًا أشكال أخرى من اللامساواة البنائية، وهكذا تنشأ مصطلحات مثل «نساء حانقات» و«رجال سود غاضبون»، وتنوع لا نهائي من المصطلحات المشابهة التي تعبر عن الاحتقار الرافض. لكن المنطق الأساسي للتنمر يسبق وجود تلك التفاوتات. هي المادة الخام التي صنعت منها أشكال عدم المساواة المختلفة.

توقف عن إيذاء نفسك

وأعتقد أن تلك هي الخطيئة البشرية الكبرى. ليس الأمر أننا بطبيعتنا عدوانيون، لكننا لا نستجيب جيدًا للعنف. عندما نلحظ عدوانًا لا مبرِّر له، نميل غريزيًا للتظاهر أنه لا يحدث، أو لو أصبح غير محتمل، نساوي بين المهاجم والضحية ونعزلهم ونأمل أن يمنع هذا انتقال العدوى للآخرين (ولهذا يجد علماء النفس أن المتنمرين والضحايا مكروهون على حد سواء). إحساس الذنب الذي يسببه الشك بأن هذا التصرف جبان -لأنه تصرف جبان بالفعل- يفتح المجال لإسقاطات معقدة، يُرى فيها المتنمر بصفته الشرير الذي لا يقهر والفاشل المثير للشفقة المفتقِر للأمان في نفس اللحظة. بينما يصبح الضحية معتديًا (منتهكًا للأعراف الاجتماعية التي فرضها أو اخترعها المتنمر) وجبانًا بائسًا لا يرغب في الدفاع عن نفسه.

ما أقدمه هنا بوضوح هو مجرد رسم بسيط لديناميكيات نفسية معقدة. لكن هذه الانطباعات تساعدنا على فهم صعوبة تعاطفنا مع المجندين العراقيين الهاربين الذين قتلوا بأيدي القوات الأمريكية في عمليات صيد سهلة. طبقنا هنا نفس المنطق عندما نشاهد بسلبية الطفل المتنمر يُرهب ضحيته الأخرق، فساوينا بين المعتدين والضحايا، مصرين أن الجميع مذنبون بالمثل (لاحظ حينما يسمع أحدهم تقريرًا عن عمل وحشي يبدأ فورا في الإصرار على أن الضحايا لا بد أنهم ارتكبوا فظائع أيضًا) ونأمل بما نفعله أن تتوقف العدوى عن الوصول إلينا.

هذه أشياء عسيرة على الفهم ولا أدعي فهمها كليًا. ولكن إن كنا سائرين نحو مجتمع حر بحق، لا بد أن نفهم كيف تتكون تلك العلاقة الثلاثية التبادلية في بنائها بين المتنمر والضحية والمتفرج، ثم نطور وسائل لمجابهتها. تذكر أن هذا الوضع ليس ميئوسًا منه. لو لم يكن ممكنًا تكوين هياكل -عادات وإدراكات وأشكال من الحكمة الشائعة- التي تمنع التفاعل في بدايته، لما تكونت المجتمعات القائمة على المساواة أبدًا.

لنتذكر أيضًا أننا لا نحتاج سوى القليل من الشجاعة لنهزم المتنمرين غير المدعمين بأي سلطة مؤسسية. ونتذكر فوق كل هذا أنه حين يمتلك المتنمرون تلك السلطة، ربما الأبطال حقًا من ببساطة يهربون بعيدًا.


هوامش:

* قبل أن نترك الحديث عن الرجال الناضجين، لابد من ملاحظة الجدل حول الفاعلية العسكرية بطريقتين: أنه حتى المجتمعات التي يرفض فيها الرجال تنظيم أنفسهم بفاعلية من أجل الحرب، يصرون أيضًا في أغلب الأحيان على أنه لا ينبغي للنساء القتال. هذا ليس فعالًا، حتى إذا سلمنا بأن الرجال بشكل عام أفضل في القتال (وهذا ليس واضحًا، ويعتمد بالأساس على نوع القتال)، وإذا قررنا ببساطة اختيار النصف الأفضل جسمانيًا من أي مجتمع، يحتمل بعضهم أن يكون أنثى. وعلى كل حال في المواقف بالغة الصعوبة يصبح عدم استعمال كل يد تمتلكها انتحارًا. وعلى الرغم من ذلك، وبشكل متكرر، نجد رجالًا -حتى غير المقاتلين- يقرر أن الموت أفضل من كسر القاعدة التي تقول إن النساء لا يستطيعون حمل السلاح. ولهذا ليس غريبًا صعوبة تعاطفهم مع ضحايا الجرائم البشعة من الرجال، فهم متواطئون مع منطق العنف الذكوري الذي دمرهم إلى الحد الذي يدفعهم لعزل النساء عن المعركة. ولكن إذا كنا نحاول التعرف على العيب أو العيوب الأساسية في الطبيعة الإنسانية التي سمحت لمنطق العنف الذكوري أن ينشأ من البداية، يضعنا هذا المشهد في حيرة. فنحن لا نمتلك ميلًا داخليًا للتسلط العنيف، لكن نميل ﻹقرار أشكال التسلط العنيفة الموجودة -بداية من تسلط الرجال على النساء- باعتبارها فروضًا أخلاقية بذاتها. (المؤلف)

** مذبحة مدرسة كولمبين: حيث أطلق اثنان من المراهقين النار على زملائهم وراح ضحيتها 12 تلميذا وأحد المدرسين ثم انتحرا بعدها (المترجمتان).