أَعلنتْ الحُكومةُ صباحَ اليومِ في بيانٍ رَسمي انطلاقًا من الأسبوعِ القادمِ تَنتهي أوقاتُ الحظرِ وتَعودُ الحياةُ إلى طبيعتِهَا شيئًا فشيئًا. لدَّي مُتَّسعٌ من الوقتِ قبلَ المَوعدِ في (سانتياجو بيرنابيو)

سانتياجو بيرنابيو

قصة لأحمد سلامة

نُشر في كتاب "محبة تكفي ثمانية" الصادر عن دار هن 2023


الجنازة، لجورج جروس، عن new statesman

يَقِفُ أبي في وسطِ الصَّحراءِ مُرتديًا البَدْلَةِ العسكريةِ الخاصةِ بالجيشِ الميداني الثاني، هو قائدُ فِرقةٌ من الفِرقِ السبعِ وحوله، على الأغلبِ، زُملاؤهُ من رتبٍ مختلفةٍ، يَقِفُ حَافيًا على الرِّمالِ الساخنةِ بين جبلينَ مُتطابقينَ. بَدا وجودُ الجبلينَ قد تَشَكَّلَ قبلَ وجودِ البشرِ على الأرضِ، يَأمرُهُم بضرورةِ إنشاءِ مركزٍ تِجَاري في قلبِ الصحراءِ يَخْدُمُ المواطنينَ. أُشَاهِدُ ما يَحدُثُ جَالسًا على رَصِيفٍ إِسْمَنتِي غيرِ مُكتملٍ وأُراقبُ تعليماتَ أبي في صمتٍ كما جَرَتْ العادةُ، نَبهَنِي جَسدي بنَفْضَةٍ سريعةٍ واستَيقَظْتُ من النَّومِ ولا أَدري عَلاقةَ أبي بالجيشِ، لم يَتقاطعا من قبل. كان مُوظفًا عاديًا في الشؤونِ الإداريةِ بالجامعةِ يَقمعُ أنفاسَهُ بداخلِهِ لضَمانِ بقائِهِ حيًا. كُنْتُ على مَوْعدٍ مُسبقٍ مساءَ اليومَ مع صديقي "حسن" في (سانتياجو بيرنابيو)، اسمٌ مشهورٌ لأحدِ مَلاعبِ كُرةِ القدمِ، لكن هو هنا وبفضلِ التَّعريبِ أحدَ المحلاتِ المُستحدثة في مدينةِ المنصورة لتأجيرِ البلايستيشن وشُربِ الحشيشِ والخَمرِ مع اللعبِ لتَمضيةِ الوقتِ، يَفتحُ سانتياجو بيرنابيو خِفْيَةً من الشرطةِ في أوقاتٍ متأخرةٍ من الليلِ، أثناءَ ساعاتٍ الحظرِ المفروضةٍ من قِبَلِ الحُكومةِ لتَداعياتِ الوقايةِ من وَباءِ كُوفيد- 19.

أَعلنتْ الحُكومةُ صباحَ اليومِ في بيانٍ رَسمي انطلاقًا من الأسبوعِ القادمِ تَنتهي أوقاتُ الحظرِ وتَعودُ الحياةُ إلى طبيعتِهَا شيئًا فشيئًا. لدَّي مُتَّسعٌ من الوقتِ قبلَ المَوعدِ في (سانتياجو بيرنابيو)، خَرجْتُ من البيتِ وقَررتُ أنْ أَقْطَعَ نِصفَ المسافةِ سيرًا على الأقدامِ حتى أَرىَ أيَ سائقِ ميكروباص جريءٍ يَعملُ في الساعاتِ المحظورةِ من الليلِ. أمشي تحتَ سماءٍ صافيةٍ بسببِ اكتمالِ القمرِ، عرجتُ من شارع جِيهانَ السادات إلى مَيدانِ الجلاءِ، مُرورًا بالمدرسةِ العسكريةِ الثانويةِ حتى أولِ شارعِ الجيشِ، كلُ هذه الأسماءُ للأحياءِ والشوارعِ تَشِي بأنَّنَا نَحيا في مُتحفٍ عسكري كبيرِ باتَ قديمًا وخَرِبًا. وكما خَطَّطْتُ وَجدْتُ الميكروباصَ الذي يَنقُلُ مُتَّسَكِعِي المدينةِ في السَّاعاتِ المُتأخرةِ من الليلِ، فتحْتُ البابَ ورَكِبْتُ، لا يُوجدُ سِوى مَقعَدٍ واحدٍ فارغٍ. العَربةُ مُكتملةٌ بالرُّكابِ جَميعهُم من الرجالِ. خلفَ السائقِ يَجلسُ رجلٌ على مَقْعَدينَ وحدَهُ يَزِنُ 150 كيلو جرام تقريبًا ويَمُدُ ذِراعَهِ أَقصَى اليَمينَ واضعًا يَدهُ على بابِ العَربةِ. جَلسْتُ خَلْفَهُ بجَانِبِ فَتىٍ ذِي جسدٍ هزيلٍ. الطقسُ كان رائعًا، والنَّسماتُ القادمةُ من النيلِ في الليلِ، وسكونُ الشوارعِ جَعلَتْ هذه اللحظةَ تُذكِّرُنِي لِم أَعودُ إلى هنا من حينٍ إلى آخر، أَشتاقُ للمنصورةَ، قَضيْتُ أَغلبَ فَتراتِ حياتي هناك؛ نيلُهَا أَطيبُ من نيلِ القاهرةَ، مدينةٌ شديدةُ التَّواضعِ، لا قيمةَ للوقتِ هنا، اليومُ كالأمسِ مثلُ بَقيةِ كلِ شيءٍ تقريبًا. أَعملُ في القاهرةَ مُنذُ سنواتٍ عديدةٍ، في شَركةِ استثمارٍ للعقاراتِ "سيلز" هذا هو المُعلنُ رسميًا لكِنَّنَا نَبيعُ كلَ شيءٍ، وهنالكَ العديدُ من البشرَ يشترونَ كلَ شيءٍ، نَبيعُ مِحلاتٍ تِجاريةً في مولاتٍ ضخمةٍ مُستحدثةٍ للمستثمرينَ الخلايجة، أراضٍ في صحراءِ شرقِ وغربِ القاهرةَ، توفيرَ طَاقَمِ مُبرمجينَ ومُصممينَ المَواقِعَ للعُملاءِ الرَّاغِبينَ في تَدشينِ شَركَاتِهُم الخاصةِ، نَبيعُ مستحضراتِ تجميلِ وملابسَ في الخَفاءِ بأسماءِ صفحاتٍ مُستعارةٍ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي. باختصارٍ نَبيعُ الخراءَ لمنْ يَهوى الخراءَ. كلُ هذا عَزلَنِي بالتَّدْريجِ عن الهدوءِ الليلي للمدينةِ المُتواضعةِ. أَزورُ المدينةَ الصغيرةَ في الإجازاتِ لرُؤيةِ أهلي على فتراتٍ مُتباعدةٍ، في كلِ مرةٍ أرى شيئًا ما قد تَغَيَّر عن المرةِ السابقةِ، تَقطِيعُ الأشجارِ وهَدمُ الحدائقِ مُستمرانَ ويَحُلُ مَحلَهَمُا الإسفلتُ لتوسيعِ الطرقِ، تَدَّخَلَ أَمرانِ ليُعكِرَا صَفْوَ هذه اللحظةِ، الأولُ: رجرجةُ السائقِ للعَربةِ بِنَا كلُ دقيقتينِ بسببِ سُرعتِهِ الزائدةِ عن الحدِ، والثاني: الفتى ذُو الجسدِ الهَزيلِ الجالسِ بجَانِبي حينَ بَاغَتَنِي بسؤالٍ: ألا تَتَّذْكَرَنِي؟ أَجَبْتُهُ: اِعذُرَنِي من أنت؟ ليُجِيبَ: أنا عبدُ اللهِ ابنُ عمِ (الصرصار)، فاكر (الصرصار)؟ شردْتُ لثوانٍ، وفي رأسي أقولُ لمْ أَقِمْ أيَ عَلاقةٍ مع حشراتٍ من قبل. قلتُ له: لا، قال: الصرصار "محمود" الدِّيلر كنْتَ أنت وأصدقاؤُكَ تَتعاملونَ معهُ لفترةٍ طويلةٍ لكن أنت اختفيتَ، قلتُ له: أنت عبدالله ابن عم الصرصار، نعم.. كنتَ تأتي معهُ أحيانًا بالتحديدِ وراءَهُ على المُوتوسيكل. كانتْ هذه أولُ مرةً أَرى فيها عبدَ اللهِ عن قُربٍ، صَاحبُ عينينِ واسعتينِ هادئتينِ للغايةِ وأنفٍ مُفلطحٍ وابتسامةٍ خَجِلةٍ، لا يَتجاوز عمرُهُ العشرينَ بكلِ تأكيد. عادةً كنتُ آَخذُ الحشيشَ من محمودَ "الصرصار" على عجلٍ خِفْيةً من الشرطةِ، وتختفي بعدها ثم توقفْتُ عن شربِ الحشيشِ مُنذُ أربعةِ أشهرٍ تقريبًا. وسألتُهُ وكيف حالُ الصرصار؟ ليُخبرَنِي أنَّهُ قُتِلَ منذُ شهرٍ، دَهشنِي موتُ الصرصارَ لا الموتُ فحسبُ، ولكن موتَهُ مقتولًا، عَزَّيتُهُ وقلتُ له كيف قُتِلَ؟ قصَّ عليَّ الحكايةَ في عُجَالةٍ، إنَّهُ قبلَ مَقتلِهِ كان على خلافٍ مع مَأمورِ القسمِ على تَقسيمِ نسبةِ حِصةِ الأرباحِ من التَّوزيعِ، خلافٌ استمرَ شهرًا ونصفَ حتى مساءِ ذلك اليومِ عندما اقتحمتْ الشرطةُ منزلَهُ الصغيرَ: أمينُ شرطةٍ وأربعةُ عساكرَ، حاولَ الهروبَ منهم، خرجَ إلى شُرفةِ الشقةِ وقفزَ منها فسقطَ ميتًا على الفورِ. قالها بعيونٍ مُتَّألمةٍ، لم أستطعْ أنْ أَنطِقَ حرفًا واحدًا، كان السائقُ قد توقفَ منذ ثلاثِ دقائقَ تقريبًا ليشتري عُلبةَ سجائرَ لكنهُ تأخرَ وكنتُ قد أَوشكتُ على الوصولِ لسانتياجو بيرنابيو، واستعجلَنِي "حسنُ" عبر الواتسابِ، ليُخبرنِي أنَّهُ وصلَ منذ مدةٍ ويَنتظرُنِي في الغرفةِ رقمِ 7؛ فقررتُ النزولَ وصافحتُ عبدَ اللهِ وأعطانِي رقمَهُ إذا رَغِبتُ في شراءِ الحشيشِ. حين قَدمتُ على النزولِ من العَربةِ كان الرجل البدين يضعُ يدَهُ على البابِ، استأذنتُهُ، ليقولَ بغرابةٍ، السائقُ سيعودُ الآنَ لمَ العَجلة! كانتْ عيناه ميتتان مَدفونتان في وجههِ الضخمِ. أزحتُ يَدَهُ وفتحتُ البابَ وخرجتُ متوترًا. سِرتُ نحو خمسِ دقائقَ على طريقٍ تُرابي مُحاطٍ بتلالٍ من القِمامةِ على كلا الجانِبينِ، ثم وصلتُ لمدخلِ المَحلِ وقَرعتُ على بابِ الجراجِ المُغلقِ، وفتح لي أحدُهُم من الداخلِ بعد دقيقةٍ، وأغلقَ ورائِي مُدخلَ الجراجِ مرةً أُخرى. الإضاءةُ بالداخلِ خافتةٌ، فقط لمباتٍ خضراءَ وزرقاءَ صغيرة، مع الدُّخانِ الكثيفِ تجعلُ عمليةَ الرؤيةِ تحتاجُ للتركيز. رسوماتٌ على الجدرانِ لأشهرِ نجومِ لاعبي كُرةِ القدمِ، يتصدرُها جرافيتي لمحمدَ صلاحَ على الجدارِ في الوَاجهةِ، وعندما مَررتُ إلى الغرفةِ رقمِ 7 التي ينتظرُنِي فيها صديقي. فتحتُ البابَ، مبتهجًا هو، أخبرَنِي على الفورِ، أنَّ الحظرَ سينتهي أخيرًا مع بدايةِ الأسبوعِ القادمِ. قلتُ هذا خبر تَعِيس. مُتعجبُا سألنِي أيةَ تَعاسةٍ في عودةِ الحياةِ إلى طبيعتِهَا؟ أَجبْتُهُ هذا بالتحديدِ ما يُحبطَنِي. هذا العامُ كان أجملَ الأعوامَ منذ زمنٍ بعيدٍ. والصدقُ كنتُ أشعرُ بالشماتةِ في هذا العالمِ، كيف لفيروسٍ صغير طعنَ غرورَ هذه الحضارةِ وأنذرنَا بضرورةِ التَّواضعِ.

ليَرُدَ هو، وماذا عن الموتى والضحايا؟ الناسُ تموتُ كلَ يومٍ أجبتُهُ، واستدركتُ؛ من قبلِ كورونا وتعلمُ وسيموتونَ بعدها أيضًا، الناسُ تموتُ من الجوعِ ومن المرضِ ومن توقفِ عضلةِ القلبِ المُفاجئ وبفعلِ الحوادثِ وبالصدفةِ وتحتَ القصفِ في الشرقِ وغرقًا في البحرِ رَاغِبين في حياةٍ أفضل. الحقُ هو أنَّ كلَ سؤالٍ بشأنِ الحياةِ هو سؤالٌ عن الموتِ. عندي رجاءٌ، هكذا قال حسنُ، توقفَ عن هذا الكلامِ متصدعنيش، واشربْ إزازتك لأنَّكَ سوف تَخسرُ اليومَ. ضَحِكْتُ يبدو أنِّي كنتُ مُتأثرٍا بموتِ الصرصار وتكلمتُ أكثرَ مِمَا ينبغي. في خلالِ ساعةٍ، امتلأتْ الغرفةُ بأصدقائِنَا وظللْنَا نشربُ معاً في غرفةٍ مُغلقةٍ تَقِلُ مساحتُهَا عن عشرةِ أمتارٍ غيرَ عَابئينَ بالتحذيراتِ الوِقَائيةِ من الوباءِ، وقبل الفجرِ أخبرتُهُم أنَّ عليَّ المغادرةَ، لأنَّي سأعودُ للقاهرةَ في الصباحِ وودعتُهُم.

كانتْ شوارعُ القاهرةَ مُتَّعطشةً لعودةِ العملِ بعد أنْ تَّعطلَ لعدةِ أشهرٍ. مرَ أسبوعانِ على هذا الحالِ مما دفعنَا للتَّكثيفِ في الشركةِ لبيعِ المزيدِ من الخراءِ لتعويضِ ما فات لكن كان علي أنْ أَزورَ المنصورةَ يومَ الجمعةِ لحُضورِ عُرس ابنة عمي. عندما وصلتُ فكرتُ أنْ أتوقفَ عن الانقطاعِ اليومَ واتصلَ بعبدِ اللهِ ابنِ عم الصرصار أقضي منهُ سِيجارتينِ للتَّغلُبِ على هذا التَّجمعِ العائلي، فاتصلتُ به وكان هاتفُهُ مغلقًا. اتصلتُ بحسنَ وسألتُهُ عن عبدِ اللهِ الصرصار، فأجابَنِي بأنَّ هاتفَهُ سيظلُ مُغلقًا إلى الأبدِ. لم أفهمْ، حدثَنِي بنبرةٍ عالمةٍ سأشرحُ لكَ، سأمرُ عليك بعد ساعةٍ من الآنَ، وحينَ جاءَ أخبرنِي أنَّ عبدَ اللهِ قُتِلَ في نفسِ اليومِ الذي رأيتُه فيه آخرَ مرةٍ، بالتحديدِ قُطِّعَ إلى عدةِ أجزاءٍ. الميكروباص الذي كنتُ فيه كان لصالحِ رجلٍ يُتاجرُ في الأعضاءِ البشريةِ، ثمانيةُ ركابٍ كانوا من ضمنِ أفرادِ العصابةِ أحدُهُم رجلٌ ضخمٌ، والأربعةُ الآخرين هم الضحايا، كان عبدُ اللهِ أحدَ الضحايا بالطبعِ. اتجه الميكروباص بعد نزولكَ إلى أطرافِ المدينةِ ثُم إلى قريةٍ من القرى المجاورةِ، وخَدروا الأربعةَ الآخرين وقتلوهُم وبدأوا في استئصالِ الكُلَى وأجزاءٍ من الكَبِدِ، وبعد عدةِ أيامٍ اكتشفَ أهالي القريةِ الحادثةَ من رائحةِ الجُثثِ التي تأتى من المخازنِ المغلقةِ. سألتُهُ لم يُنشرْ خبرٌ واحدٌ عن هذه الواقعةِ وأجابَنِي أنت تعلمُ هذه الأخبارَ لن تُنشرَ وإنْ نُشِرتْ فمنْ يهتمُ بأربعةِ قتلى في مدينةٍ صغيرةٍ، وخبطَ على كَتِفِي وقال نجوتَ أنت وضحكَ. شعرتُ بدَوارٍ في رأسي وتقيأتُ على الفورِ. اتجهتُ إلى قاعةِ أفراحٍ مُزدحمةٍ بالبشرِ وتذكرتُ وقتَها أنَّ الموتى هم هؤلاءِ الذين لم يموتوا بعد.