كانت مشغولة لغويًا بتسمية هذا الشيء؟ فهو ليس حبًّا عاصفًا. تقول لنفسها ربما يكون تزجية للوقت ليس إلّا. هذا الرجل الذي تمشي صحبته يحمل ماءً في جسده لا دمًا.

أجزاء شيطانية

قصة لآية الجلبي


لوحة لـ Cosmo

كان له وجهٌ يشبه وجه الفأر. ولطالما حاولت بهذا الوصف أن تنقل شعورها المتعاظم بالإعجاب بوسامته لمن تعرفهم، ولكنها -بطبيعة الحال- كانت تفشل بذلك. لأن ما يخطر ببال المستمع كانت صورًا لا تسرّ.

عادة يقوم المرء بتقييم ملامحه أمام المرآة حين يقع بالحب. ولكن هل يلغي ذلك أن عينيه ليستا متطابقتين البتّة؟ وأنه لا مفرّ من النظرة التي لا نرغبها، إذ أنها لا تخضع للسيطرة الإنسانية. أما جمانة فقد أهملت منذ زمن أن تنظر بهذه الطريقة في المرآة. خلال تأملها وجهها في المرآة كل مرة كانت ترى أن له سمة مميزة وواضحة وهي أن عضلاته مرتخية مما يعطي انطباعًا للآخرين بأنها تريد الاستماع لثرثرتهم مهما طالت. بينما في الحقيقة هي غارقة في شيء آخر. سحبت من خزانتها ملابسَ فضفاضة لا تشبه بشيء تلك الضيّقة وباهظة الثمن التي كانت ترتديها صباحًا في البنك. تنظر إلى أسفل بطنها حيث طبع المشد تفاصيله على جلدها، كما طبعت حمالات الصدر على كتفيها خطين حمراوين ينتهيان عند ارتفاع صدرها. ارتدت قميصًا أبيض فضفاضًا فوق سروالٍ أخضر.

هاتفها حبيبها وقررا الذهاب للمشي بلا هدف قرب موانئ هلسنكي. تبدو شوارع هذه المدينة مساءً كأنها شُيّدت للتو، وهو الأمر الذي يخفف عنها سعيها الدؤوب للبحث عن مكان جديد كما تفعل دائمًا.

كانت مشغولة لغويًا بتسمية هذا الشيء؟ فهو ليس حبًّا عاصفًا. تقول لنفسها ربما يكون تزجية للوقت ليس إلّا. هذا الرجل الذي تمشي صحبته يحمل ماءً في جسده لا دمًا. خفيفًا وسعيدًا ويكاد يرتفع عن الأرض لو أنه ضحك بقوة. تأملته وأيقنت أنها ليست مستعدة للموت من أجله. في تلك اللحظة  قررت الانفصال عنه. قررت أن تكون وفيّة للقاء الحب الحقيقي الذي تؤمن به. كان الجو مثاليًا كما لو أنه غير موجود. رائحة الدخان وصوت سيارات بعيدة وأضواء صفراء وأحجار لم تُشذَب ووجوه شياطين حجريّة تخرج من الحائط. لكنها ليست خائفة و تعرف في قرارة نفسها أنها ستتفاوض مع الشياطين ببساطة لو وثبوا أمامها. كانا يمشيان صامتين تشي ملامحهما أنهما يفكران بالأمور الأخرى التي تحدث في مكان آخر.

على وجه الرجل نظرة رضا وهو يلف كتف جمانة بذراعه ثم سرعان ما تحولت إلى نظرة قلقة. كان يصوّب عينيه على سيّدة تحتضن كلبًا من نوع الجولدن ريتريفرز. كانت السيدة تنتحب بصمت وحين اقتربا لاحظا أن هناك موضعين في جسده قم تمت خياطتهما. رفعت السيدة رأسها وقالت لهما: كيف لي أن أستعيده بعد أن يغادر؟

وبدا جليًا أنها أيامهما الأخيرة معًا. حاول الرجل تهدئتها بقصة موت كلبه منذ بضع سنوات. أما جمانة لم تفهم لمَ يريد الإنسان استعادة المغادر.

كان للرجل حاجبين كثيفين مائلين مما يعطي انطباعًا بالعجرفة والبراءة أما السيدة صاحبة الكلب لم يكن لديها حاجب ولا شعر وأضفت أضواء الشارع الصفراء على وجهها الكثير من رونقٍ جنائزيّ. لم يُطل أي من الأربعة الوقوف. غادرت السيدة وكلبها وواصل الثنائيّ المشي. كانت عينا الرجل قد غسلتا للتو بقليل من الدموع وأرنبة أنفه قد ارتفعت قليلًا بفعل التأثُّر. قررا الاستراحة واتخذا من كرسيٍ أمام البحر مكانًا. ثم بكى وهو يتذكر كلبه الذي مات. كانت له في تلك الأيام هواية مفضلة في حلّ أحجية الصور المقطوعة. في ذلك اليوم كان قد عاد من عمله واختلى في مكتبه المنزليّ لإكمال أحجية مكوّنة من ألف قطعة تكوّن صورة ثلاث دجاجات وفراخها. كان يصل إليه أنين احتضار الكلب من الغرفة المجاورة ولم يحرك ساكنًا، فبعد أن رفض فكرة موته الرحيم صار لزامًا عليه أن يعيش هذا الانفصال بأي طريقة يختارها. كان يبكي ورغم ذلك لم يتوقف عن تركيب الأحجية بل وصارت نجاته وحين أنهاها بعد رحيل الكلب بأسبوعين شعر بسلام عظيم وكأنه أغلق بابًا في وجه صراخ جماعيّ.

احتضنته جمانة مواسية. ثم انسابت من ذاكرتها مشاهد حول الموت. حاولت التخلص منها بأن تقاسمه حزنه ولكنها لم تنجح على الإطلاق فقد كان الموت كثيرًا. الموت مثل أي عمليّة فنيّة، له أشكال ونظريات مختلفة، كما له إيقاع. موت سريع وآخر بطيء وتحتهما تندرج أنواع أخرى كالموت جرّاء مرض مزمن أو الموت في الحرب أو الموت غرقًا. وله أمكنة، كمن يموت في المستشفى وآخر على الحدود. وله أوزان، ثمة من نرى موته في الأخبار وآخر يموت أمام مرأى العين. ولكن ما ألحّ في ذاكرتها أكثر القصة التي شوَّهَت إغماضة الطفولة التي حدثت في العام 2006 كجزء حتميّ من الحرب الطائفية في العراق. كانت جمانة في الثامنة من العمر تسكن حيَّا صاخبًا وبسيطًا كعالم قائم بحد ذاته، يمكن أن يجد فيه ما يريده المرء ويحتاجه: محلات ملابس لجميع أفراد العائلة، مستوصفًا طبيًّا ومخبزًا ومحل بقالة ودكاكين للمواد الغذائيّة ومحلًا لغسيل وكيّ الملابس ومبنى من طابقين لأدوات منزليّة بالجملة ومكتبة لأدوات الطلاب المدرسيّة وورش إصلاح سيّارات ومحلًا على جانب الطريق لبيع الكتب وورشة ترميم الأثاث المنزليّة. كما تجد بعضًا من آثار فترة حصار التسعينيات حيث هناك من حوَّل جزءًا من منزله إلى نصف ورشة أو دكّان أو صالون للنساء وهناك من خصّص بعض غرف منزله لتأجيرها لعابري السبيل. وكلما توغلت فيه وجدت تنوعًا أكثر. المكانان الوحيدان اللذان لم يُغلقا في أيام الأعياد هما محال البقالة وورشة ترميم الأثاث المنزليّة. لم يكن زخم العمل ما دفع الأخير ليكون متوفرًا في أيام العطل بل كان أحد عماله الشغوفين بما يصنع. كان خالد واحدًا من سكّان هذا الحي. لم يرتدْ إلا المدرسة الابتدائيّة واتخذ بعدها من العمل في ترميم الأثاث مهنة له. لم يعمل سوى داخل الحي ولم يره أحد يغادره قط. تتذكر جمانة القليل من هيئته، غالبًا ما كان يرتدي اللون الأبيض ويشكل شعره الأجعَد عشًا بلا فائدة على رأسه. عيناه ناعستان ولا تبدو عليه علامات الذكاء إطلاقًا. يقضي اليوم في ورشة العمل أو في تجمّعات الرجال. ذات الروتين كل يوم وإن تخلّف عن الجلسات المسائية فيمكن أن يجدوه في الورشة منكبًّا على تصميم أو صناعة شكلٍ ما. ولأنه حي صغير فلكل امرئ مكانه فيه. شغل خالد مكان الفنان والإنسان الطيّب الذي يعطي للجميع دون مقابل. ذلك الصيت شجّع جمانة وأصدقاءها للتفكير في أن يجتمعوا لزيارته بغية أن يطلبوا منه صناعة ألعاب خشبية لهم. فلم تكن عائلة جمانة وبعض العوائل الأخرى تستطيع توفير ألعاب للأطفال. كانت تقف طويلًا أمام المحل وتنظر لعمله وتخطط أنها ستطلب منه يومًا ما أن يصنع لها حيوانًا من خشب لم تكن متأكدة من هويته بعد. لا تختلف طفولة خالد كثيرًا، فهو لم ينحدر من أسرة يسيرة الحال ولطالما حكت أمه ذات الشعر الأجعد للجيران أنهم كانوا في ما مضى يتناولون ثلاث بيضات صباحًا وكانت جمانة تقلّب الأمر المحيّر في رأسها: سبعة أشخاص يتناولون ثلاث بيضات. وتحاول أن توظّف ما تعلمته في دروس الرياضيات في تخيل حصة كل واحد منهم. بينما صارت لأخيه الأكبر ثروة بعد العام 2003، أخيه الذي ذاع صيته لسرقته أحذية المصلين من عتبة الجوامع في مراهقته. رغم ذلك لم تتأثر سمعة خالد.

قضت جمانة أيامًا في التفكير بهيئة الحيوان الذي تريد طلبه. كانت قلقة ومدفوعة بحدسها الطفوليّ لاقتنائه. حين مرّت في إحدى الصباحات من جانب الورشة وجدتها مغلقة وعندما عادت من المدرسة لم ترَ خالد هناك. ثم تكرر الأمر ليومين متتاليين وتصاعد قلق الناس بأنه قد غادر الحيّ. كانت الورشة نظيفة ومرتبة في اليوم التالي لمغادرته ويبدو أنه قضى الليلة السابقة لرحيله في رمي الحاجيات التالفة إلى القمامة وغسل الأرضية. ودون إذن من مالك الورشة كان خالد قد خصص زاوية منها ورتّب فيها الأشكال التي صنعها من الخشب.

عمّ الحزن والاضطراب، ذلك الاضطراب الذي يصيب الإنسان حين يرى طيبًا قد توقف عن كونه كذلك.

لا يهتم الناس بالأطفال، إن رأوا طفلًا يلعب ويركض ضاحكًا فهذا يعني لهم أنه بخير. ولكن هؤلاء الأطفال كانوا يتحدثون بقلق عما حدث لخالد. وفكروا بالبحث عنه بين البيوت والدكاكين لربما اختبأ في مكان ما. كانوا الأطفال خمسة، ثلاثة صبيان وبنتان. جمانة كانت تطرح الخطة الممكنة للعثور على خالد ويقوم البقية بتنفيذها. استغلت جمانة أنهم كانوا على وشك السفر خارج البلاد وكانت أمها تبيع أغراض المنزل للجيران. قامت بالتنصّت لما تقوله أمها على الهاتف وتحفظه. وضعت قائمة طويلة لما تريد أمها بيعه ووزعتها على بقية أطفال المجموعة. ثم راحوا بحجة عرض ما في القائمة يدخلون البيوت والدكاكين والورش دون أن يطردهم أحد. يشغل أحدهم البائع ويتسلل الآخر بحثًا عن الشاب الضائع.

كانت الأيام تمرّ دون أن يجدوا شيئًا. اقترح الصبيّ ذا الشعر المثبت بالشمع أن يذهبوا للبحث عنه في منزله، ربما لسبب ما قد يختبئ في خزانة الملابس أو أسفل السرير. انبرت جمانة ذاهبة إلى منزله بمفردها بحكم الصداقة العميقة بين أمها وأم خالد. ذهبت بحجة بيع آلة غسيل الملابس. كان البيت بلا ألوان وكأن من يعيشون هنا قد غادروه منذ سنين. لم تكن ثمة لوحات أو صور على الجدار عدا آية الكرسي داخل إطار ذهبيّ ضخم. الأم كانت تجلس أسفلها بعينين خاليتين من النظرة. وقفت جمانة لدقائق أمامها وحين فطنت أن الأم ليست مهتمة بشأن وجودها راحت تبحث عنه داخل المنزل. كان المنزل مكونًا من ثلاث غرف وصالة وحمام وباحة خلفية. الغرف تحمل ذات الطابع؛ سريران بغطاء أبيض ودولاب ملابس خشبيّ وصندوق خشبي داخله كتب مدرسية ومصابيح إلكترونية وأحذية. لم تعثر على شيء يدلل على وجوده في هذه الغرف، ولم تجده أسفل الأسرّة وداخل خزانات الملابس كذلك. بقي أمامها الباحة الخلفية والمطبخ والحمام. فرجّحت أن يكون في الباحة. كانت الباحة ضيقة تتخذ شكلًا طوليًا فيها منقلة شواء ملطخة بالدهن وريش لدجاجات وديكة وأقفاص فارغة، وفي الجانب الآخر كانت هناك قطعة خشبية خفيفة وضخمة موضوعة مثل الباب في الباحة. مشت جمانة إلى هناك ولاحظت أن الأرضية في هذا الجانب أكثر نظافة من الآخر. ساعدها جسدها الضئيل على النفاذ من جانب الخشبة دون أن تحركها. تفاجأت بالمكان نظيفًا ومرتبًا وشعرت بهواء بارد لا يشبه القيظ في الخارج، كان هناك سرير يشبه الأسرّة في الغرف الأخرى وقطع خشبية منحوتة بشكل مكعّب غير مكتملة وسكاكين بأطوال وأسنان مختلفة و كتب بلغة غير عربية. فطنت جمانة أنها بلا شك غرفة خالد. مكان خارج العالم.

تداول الأطفال فيما بينهم لاحقًا أن خالد قد سئم هذه الغرفة وغادر. أما الحيوان الخشبيّ فقد وعدت أم جمانة أنها ستطلب من عامل آخر أن يصنعه لها. بالنسبة لجمانة -التي أومأت للكبار الذين يقولون الاقتراح بابتسامة البطل المُنقذ- فكانت تعرف في قرارة نفسها أن سحر هذه الفكرة التي تراودها منذ أسابيع قد تلاشى فجأة وإلى الأبد.

بعد ذلك كان من البساطة لجمانة أن تواصل أيامها فهي بالتالي لم تكن مدللة ولم تحزن كثيرًا لعدم حصولها على شيء تريده بشدة. إلا أنها استمرت بعادة المرور كل صباح من أمام الورشة وعند عودتها كانت عيناها تبحثان عن خالد، أحد البالغين المحظوظين الذين لا يحتاجون إذنًا للمغادرة. في واحدة من الصباحات تلك كانت جمانة تحمل حقيبة ظهرها بشكلٍ مرتخٍ على مفصليّ ذراعيها حتى تكاد تسقط على الأرض. وأثناء مرورها من أمام الورشة لمحت كيس أرز ضخمًا مرميًا هناك. لم تشعر بالراحة لرؤيته أمام الباب وأرادت أن تركله لتدفعه بعيدًا. وضعت الحقيبة أرضًا ونظرت حولها، كانت البيوت لا تزال نائمة، كما كانت رائحة الحي زكيّة لآخر مرة.

حين حاولت دفع الكيس بقدمها كان ثقيلًا، وعندما وضعت إصبعها تتحسس ما بداخله، شعرت بدفء وألفة إنسانية سحيقة. قضت ذلك اليوم المدرسيّ وحدها على غير عادتها، كانت تشعر بأن داخلها صندوقًا هائل الضخامة ولكنه يستحيل الدخول إليه.

تلاشت ظنون وغضب سكّان أهل الحيّ بعد العثور على جثّة خالد مقطّعة داخل كيس الأرز وراحت مشاعرهم تتخذ منحنيات أخرى. ولأنهم لم يعثروا على رأسه داخل الكيس فترجّح جمانة التي سافرت مع عائلتها بعد أيام من الحادثة أن الجيران عاشوا في ترقّب يوميّ لكيس مُفزع آخر.

نفضت جمانة هذه الذكرى عن رأسها. نظرت للحزن على وجه الرجل بجانبها وتذكرت مجددًا أن لكل الآلام حجم واحد.

فكّرت وهي تنظر إليه أن الجمال ينقذ العالم أحيانًا لكنه سيكون خاويًا يومًا ما. فلا يذبل الجمال في الشيخوخة بل في عزّ زهوه. وأن ما سينقذ العالم هي الحقيقة رغم رعبها. كان مظهرهما غير المبالي وصوت اقتراب سفن الشحن للمرفأ المجاور تُنسي الأفكار والماضي وتضفي على اللحظة أهمية ما. نظر لها الرجل بحنان الإنسان المُتعب وربت على يدها ثم أخبرها أنه يفضل العودة بمفرده ثم غادر وهو يسحب سوائل أنفه. كانت السماء تتلون بالقليل من بنفسجية الشفق القطبيّ والشوارع الفارغة تصدح بصوت ازدحام سيارات كثيف، ربما هو مجرد صدى لشارع قديم.