تسلّط غزة اليوم الضوء على ضرورة محاربة أي مستعمرة استيطانية تتخفى وراء ستار الحرب من أجل نشر الحضارة.
علينا الاعتراف بأن فلسطين أصبحت مركز العالم اليوم
مقال فرانسواز فيرجيس
ترجمة حسين الحاج ورحاب عيد
نشرت المقالة في موقع international online ديسمبر 2023
تصدر الترجمة ضمن مشروع Learning Palestine لنشر المعرفة عن القضية الفلسطينية
".. قالوا إنهم ضحايا.
قالوا إنكم عرب.
سموا شققكم وحدائقكم معاقل للعصابات.
صنعوا الدمار الناعق الذي خلقوه بالأنقاض.
ثم طالبوكم بالرحيل، أليس كذلك؟"
- جون جوردن، 1982
بعد المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات صبرا وشاتيلا في لبنان في عام 1982، كتبت الشاعرة والمؤلفة المسرحية وكاتبة المقالات الأمريكية من أصول أفريقية، جون جوردن، قصيدة "اعتذارات لكل أهل لبنان"1 (مقتطف منها أعلاه). بسبب هذه القصيدة، تعرضت جوردن لاتهامات قاسية بمعاداة السامية، ومُنعت من النشر في الفترة بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات. علّمتنا جوردان معنى الوجود في العالم بدلاً من مجرد مشاهدته، والذي يعني قبول فوضوية العالم وعدم مثاليته. بعبارة أخرى، يجب تطبيق المبادئ السامية، مثل حب الحياة والسعي في طلب الكرامة والمساواة، حتى في ظل التناقضات والتعقيدات. أدى إنكار أننا نعيش في تناقضات إلى قمع النقاش والتشويه والتحريف والرقابة. لطالما استُخدِمَت معاداة السامية كسلاح لإسكات الانتقادات الموجهة لسياسات دولة إسرائيل.
وهذا ما نشهده مرة أخرى منذ هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، والذي أسفر عن مقتل 1200 شخص واحتجاز حوالي 240 رهينة في قطاع غزة. أثناء كتابة هذه المقالة، في السابع من ديسمبر 2023، أدى قصف إسرائيل لغزة إلى مقتل أكثر من 17,400 فلسطيني، من الرضّع والأطفال والنساء والرجال من جميع الأعمار، وما يقدّر بنحو 7,600 شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض.2 لكن في الثامن من ديسمبر 2023، استخدم السفير الأمريكي روبرت إيه وود3 حق النقض (الفيتو) ضد قرار وقف إطلاق النار في غزة، الذي دعمته أكثر من 90 دولة عضو في الأمم المتحدة، وبعد التصويت، أعلن وود أن وقف إطلاق النار "لن يؤدي إلا إلى غرس بذور الحرب المقبلة، لأن حماس لا ترغب في تحقيق السلام الدائم أو حل الدولتين".4
رفضت إسرائيل وحلفاؤها بصفة مستمرة مطالب وقف إطلاق النار، والذي لا يُعد سوى تعليق مؤقت للقتال ومجرد هدنة، لكنه بالتأكيد ليس سلامًا. منذ عقودٍ خلت، كان وقف إطلاق النار يحل محل السلام في الصراع العسكري، لكن حتى لحظة الهدنة تلك تعتبر تهديد لنظام يعتمد على العنف الممنهج والرقابة والقمع. وصفت روزا لوكسمبورغ تلك اللحظة بأنها "سلام مسلّح" وعسكرة بوسائل أخرى في ظل حالة دائمة من الحرب والإمبريالية والاستعمار الاستيطاني.5
تسلّط غزة اليوم الضوء على ضرورة محاربة أي مستعمرة استيطانية تتخفى وراء ستار الحرب من أجل نشر الحضارة.
الديمقراطية الليبرالية والنظام الاستيطاني الاستعماري
عندما صرّح رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوج على قناة إم إس إن بي سي MSNBC قائلاً: "هذه الحرب ليست حرباً بين إسرائيل وحماس فقط.. إنها حرب تهدف حقًا إلى إنقاذ الحضارة الغربية وقيمها"6، لم يكن بإمكانه أن يكون أكثر وضوحاً، فلطالما شُنت الحروب الغربية لفرض "القيم" الغربية وتطبيقها وحمايتها. وهي قيم بديهية لا تحتاج إلى إثبات ويُدركها الجميع على الفور وتنبثق من مبادئ أخلاقية نبيلة. واعتقاد هرتسوج بضرورة شن الحرب لإنقاذ الحضارة الغربية ضد تهديد جوهري ينتمي إلى التاريخ الطويل للسردية التي تستديم وجود الدول القومية الاستيطانية.
يسعى الاستعمار الاستيطاني إلى "طمس استمرار الاستعمار بوصفه مجرد أثر تاريخي عابر، وكذلك إلى إضفاء الشرعية على المستوطنين بربطهم بالأرض من خلال الإقامة والنسب، على نحوٍ يوحي بأن وجودهم طبيعي لا جدال فيه"7.
تقدّم دول مثل الولايات المتحدة وكندا ونيوزيلندا وأستراليا نفسها كديمقراطيات جمهورية ليبرالية، وهي التي تأسست على الإبادات الجماعية والتطهير العرقي والفصل العنصري وسرقة الأراضي والعنصرية البنيوية.
لطالما تمكنت الولايات المتحدة وكندا وأستراليا من الادعاء بأنها تدافع عن الحرية وحقوق الإنسان، في حين أن مدنها بُنيت على جثث الشعوب وقراهم التي أبادوها، واختطفت أطفال السكان الأصليين من عائلاتهم وزجّوا بهم في مدارس داخلية مروعة تعرضوا فيها للتحرش والضرب والتعذيب والقتل والإخضاع للاستيعاب القسري. وعلى الرغم من أن هذا النص لا يركز على هذا الموضوع، إلا أنه ثمة حركة واسعة تعمل على مقاومة أو تجاوز هذه الأنظمة القائمة على الإبادة الجماعية.
إن الهدف من إعادة التأكيد على تداعيات هذه الأنظمة هو تسليط الضوء على كيفية تأثيرها في الاستجابة الحالية لما يحدث لفلسطين. هذه الدول القومية تمتلك متاحف مشهورة دوليًا تضم مجموعات رفيعة المستوى من الأشياء المسروقة من الشعوب المستعمرة أو المُبادة.
تمتلك هذه الدول حق الفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتؤثر قراراتها بشأن الكوارث المناخية والتسلّط العسكري على العالم بأسره، وتشن حروبًا مدمرة دون أي محاسبة، ولكن حبها المُعلَن للحرية، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحرية التعبير، كما تدعي، لا حدود له.
إنها تُحب الأطفال أكثر من أي فئة أخرى. فلماذا لا تشعر دولة إسرائيل بأنها مخولة بأن تحذو حذوهم؟ إذا كانت هذه الدول قد نجحت في إخفاء جرائمها، وإذا كانت قادرة على حماية كل مجرميها من المحاكمة، فلماذا لا تستطيع إسرائيل فعل ذلك؟ تُقدّم هذه الدول نفسها كنموذجٍ للنظام الخيّر والمتحضّر، بينما تُقوِّض جرائم دول أخرى تلك الصورة.
يُفسد الاحتلال الاستعماري حتمًا جوهر الديمقراطية الليبرالية، ذلك لأنه يستوجب فرض قوانين ظالمة لحماية نهب الأراضي، والتمييز بين السكان، وعسكرة المجتمع، وتغذية شعور بالتهديد المستمر. ولا غرابة في ذلك، فالمستوطنون يدركون أن أولئك الذين يمارسون التمييز ضدهم ويهينونهم ويجرمونهم، يحلمون بالانتقام كما أشار فرانتز فانون، لكن شعورهم المبالغ فيه بالقوة المطلقة يجعلهم عرضة للانزلاق إلى الإرهاب والعنف حالما تتحطم هذه القوة، فمصالحهم اقتصادية وأيديولوجية ونفسية.
قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب له في عام 1986 حينما كان السيناتور الأمريكي: "لو لم تكن هناك دولة إسرائيل، لكان علينا أن نخترعها للتأكد من حماية مصالحنا في المنطقة"8. وبالفعل، ساهمت الولايات المتحدة إلى حدٍ كبير في جعل إسرائيل "الكيان الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط"، حيث يتمتع المثليون والنساء بكامل حقوقهم.
لم يتحدث بايدن عن إقامة دولة لليهود، بل جبهة مسلحة للإمبريالية، بقوميتها المثلية وأصوليتها. يرى الغرب دعم إسرائيل دليلا على مسامحة الأوربييين على الإبادة الجماعية التي ارتكبوها بحق اليهود، وفي نفس الوقت يعفيهم تكليف إسرائيل بالتخلص من الفلسطينيين من هذه المهمة، وهذه الحركة المزدوجة تُبريء الغرب.
الأمر الملحّ الآن هو وقف إطلاق النار التام وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة ووقف القمع الوحشي في الضفة الغربية. يجب أن يتوقف القتل. الناس يموتون جوعًا، والبنية التحتية الاجتماعية بأكملها تتعرض للتدمير بهدف إنهاء الحياة الاجتماعية. في جميع أنحاء العالم، كان وقف إطلاق النار الفوري بمثابة صرخة حاشدة وخاصة بين الشباب.
وعلى الرغم من الاتهامات المسيئة والضغط الاجتماعي الهائل والتهديدات والعقوبات، تشهد البلاد احتجاجات ضخمة. لهذا السبب من المهم توثيق الأعمال الرقابية وحملات التشهير وما إلى ذلك في أوروبا وشمال أمريكا لما تكشف عنه في اللحظة الحالية من صعود أحزاب اليمين المتطرف والليبرتارية.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة فصيل يساري لم يناهض الاستعمار، ملتزمًا في ذلك بالحجة القديمة "مهمة نشر الحضارة" كمبرر للاستعمار. لم يتغير الكثير منذ عام 1956، عندما استقال إيميه سيزار من الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يتمتع حينها بنفوذ عظيم، مُنددًا بتجاهل الحزب التام لمسألتي الاستعمارية والعنصرية، حيث كتب قائلاً: لا تتعلق هذه الخطوة برغبة في أن أحارب بمفردي أو أزدري جميع التحالفات، بل هي سعي لتمييز التحالف عن التبعية، والتضامن عن الاستسلام. إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا يكمن على وجه التحديد في الجانب الثاني من هذه المقارنات، والذي نراه جليًا في بعض العيوب الصارخة التي نجدها لدى أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي: استيعابهم الثقافي المتأصل، وشوفينيتهم اللاواعية، وإيمانهم الساذج إلى حد ما، الذي يتقاسمونه مع البرجوازيين الأوروبيين، بتفوق الغرب المطلق. إلى جانب إيمانهم بأن التطور الذي حدث في أوروبا هو التطور الوحيد الممكن، والوحيد المرغوب فيه، وهو النوع الذي يجب أن يمر به العالم بأسره. خلاصة القول، يتجلى الخطر في إيمانهم، النادر الإعلان به ولكنه حقيقي، بوجود حضارة وحيدة متفوقة وصورة واحدة للتقدّم (كما يتضح من عدائهم لما يسمونه بازدراء "النسبية الثقافية").9
لهذا السبب، فإن تحرير فلسطين (وهذا ليس له علاقة باتخاذ قرار بالنيابة عن الفلسطينيين بأي حركات سياسية يختارون اتباعها) يشكّل ضربة في صميم الحداثة الغربية التي بُنيت على التمييز العنصري والاستعمار. والهدف الآن القضاء على الاستعمار كنظام أيديولوجي واقتصادي وبصري للقمع، ونهب الموارد، وسلب الممتلكات، والاستغلال.
"فلسطين هي محور العالم في هذه اللحظة"
إذا تحدثت هنا عن مثال آخر على الرقابة، فهو للمساهمة في توثيق اللحظة: استخدام الوصم بمعاداة السامية كسلاح ضد آخرين. في بداية عام 2023، انضممت إلى مجموعة من الأصدقاء الذين اعتقدوا أنه يجب علينا، بوصفنا مثقفات مناهضات للاستعمار وللعنصرية ونسويات وفنانات وناشطات، معارضة تسلح اليمين واليمين المتطرف وبعض الأطراف في اليسار المؤسساتي معاداة السامية والنسوية بتهم معاداة السامية والنسوية.10 قررنا أنه من الضروري أن يجري هذا العمل التحليلي علنًا بأصوات المثقفات والمثقفين والناشطين والناشطات، ففكرنا في دعوة جوديث بتلر لكتاباتها وعضويتها في منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" المهمة، وجيريمي كوربين لتضامنه المستمر مع شعب فلسطين الذي أدى إلى طرده من قيادة حزب العمال البريطاني والمنظمات اليهودية الفرنسية المناهضة للصهيونية.
في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر، أصبح تنظيم اجتماع عام وفقًا لما تصورناه في بداية عام 2023 أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. وعلى الرغم من الآراء المتباينة بشأن حماس، فقد كنا ننتقد دعم الدول الأوروبية وأميركا الشمالية الكامل للهجوم العسكري الإسرائيلي العقابي والوحشي والقاتل. لقد شهدنا حظر الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين وقمعها، وإلغاء المؤسسات الممولة من الدولة لدعوات الفنانين والكتاب، ومنع ارتداء الكوفية الفلسطينية واستخدام عبارة: "فلسطين حرة من النهر إلى البحر". إن عملية نقل الغرب لمسؤوليته وذنبه في معاداة السامية التاريخية والقاتلة إلى العرب والمسلمين والمهاجرين واللاجئين واليساريين وأي شخص ينتقد الاحتلال الاستعماري تتجلى في دفاعهم عن دولة استعمارية مثل إسرائيل. كان علينا أن نقاوم هذه الحقبة الإبادية وانعدام الأخلاق هذا عندما قبل اليسار المؤسسي الفرنسي في مسيرته ضد معاداة السامية انضمام التجمع الوطني له، وهو حزب يميني متطرف يموله الجناح العسكري للحزب النازي السابق فانن إس إس Waffen SS، والذين يحلمون بعودة الجزائر الاستعمارية، وأعضاء الجماعات الفاشية.11
بعد أن وجدنا مكان لإقامة اجتماعنا العام،12 خصصنا الجزء الأول من الأمسية للحديث مع جوديث بتلر، وقد أعدت قراءة كتبها ومقابلاتها حول معاداة السامية واستغلالها، واخترت مقتطفات من شأنها أن تكون حافزًا للمحادثة التي أعدناها لها. أردنا أن يرفض الشعب الفرنسي سياسة العين بالعين التي تفرضها وسائل الإعلام والحكومات، وأن يتأمل ويفكر بشكل نقدي ويتساءل بشأن حق معارضة الاحتلال الاستعماري البعيدة عن أي معاداة للسامية. كنا بحاجة إلى تلك المحادثة العامة مع جوديث بتلر التي أعلنت في 31 أكتوبر أن ما يجري في غزة هو "إبادة جماعية"، وأن "الصهيونية متورطة منذ بدايتها في مشروع عنصري"، وأضافت قائلة إن "هذا ليس مجرد صراع بين حزبين، بل شكلاً من أشكال النهب العنيف الذي يعود تاريخه إلى عام 1948، إن لم يكن قبل ذلك، ولا يشكل نكبة جديدة، بل استمرارًا لنكبة لم تتوقف أبدًا بالنسبة لملايين من الناس".13 في الجزء الثاني من برنامج الأمسية، خصصنا الحديث للمنظمات اليهودية الفرنسية من أجل السلام والمنظمات الثورية. وفور الإعلان عن الاجتماع، تلقينا عشرات الآلاف من رسائل الدعم، وأبدى العديد من الأشخاص رغبتهم في حضور الاجتماع.
في يوم الجمعة 1 ديسمبر، اتصلت بلدية باريس بمكان انعقاد الاجتماع وأمرت بإلغائه، وهددت بقطع الإعانات المالية عنه وأضافت أن الأمر غير قابل للتفاوض، متذرعة بتهديدات محتملة للنظام العام والجدل الذي قد يهدد السلام العام. ادعت أوريلي فيليبيتي، الناشطة النسوية ووزيرة الثقافة السابقة في حكومة اشتراكية ومديرة الشؤون الثقافية في بلدية باريس حاليًا، أننا "تلاعبنا" ببتلر التي "أحبتها" وأعجبت بها. وقد أدى اعتراضنا على ذلك إلى تغير أسباب الإلغاء من حضور بعض المنظمات إلى حضور الناشطة المناهضة للاستعمار حورية بوثلجة بين الجمهور ووجود "منظمات متطرفة" بين المنظمين. ولم يعد الأمر يتعلق بما سيجري مناقشته، بل بمن له الحق في حضور اجتماع عام. وجاء في بيان بلدية باريس أن الثقافة "تساهم في بناء مستقبل مشترك، وليس في تفاقم العداءات"، أي أنهم ليسوا ضد الاجتماع، لكنهم ضد حضور بوثلجة، التي حتى لو لم تكن ستتحدث، فإن حقيقة حضورها مع مجموعتها يعد كافيًا.
بحثنا عن أماكن أخرى، لكنها إما لم تكن متاحة بسبب حجوزات مسبقة، أو كانوا يخشون قطع الإعانات عنها، فألغينا الاجتماع على مضض، ونشرنا على الإنترنت رسالة الدعم المصورة التي أرسلتها لنا أنجيلا ديفيس عندما مرت بباريس في 19 أكتوبر بالإضافة إلى الأسئلة التي كنا سنطرحها على بتلر. وفي رسالتها، التي تستحق الاقتباس بالكامل هنا، أكدت ديفيس من جديد على مركزية النضال الفلسطيني من أجل العدالة والحرية:
نحن جميعا مدعوون للوقوف مع فلسطين والتعبير عن تضامننا معها في هذه اللحظة. إن الذين ناضلوا من أجل العدالة طوال عقود عديدة يتعرضون للهجوم في غزة، وفلسطين هي مركز العالم في هذه اللحظة، ومن واجبنا جميعا أن نفهم أنه مهما فعلنا، علينا أن نتضامن مع فلسطين، فكما كانت صديقتي الشاعرة النسوية السوداء العظيمة جون جوردن تقول دائمًا: "تمثل فلسطين مقياسًا لما نحن قادرون على فعله فيما يتعلق بتغيير العالم بأسره". لنقف مع أهل غزة وفلسطين، فلعلنا إذا اجتمعنا ووقفنا معهم، سنصبح كلنا يومًا ما أحرارًا. ثمة سبب وراء تعرض فلسطين لمثل هذا هجمات في هذه اللحظة بالذات، وهو أن الفلسطينيين منخرطون في نضال يعود إلى نهاية العشرينيات من القرن الماضي وعدد اللاجئين منهم تفوق لاجئي أي شعب آخر، أما إسرائيل، فهي حكومة استعمارية استيطانية، وهي لا تقوم على الاستعمار الاستيطاني فحسب، بل هي الحكومة الاستعمارية الاستيطانية الوحيدة التي تحاول الاستمرار في التوسع في القرن الحادي والعشرين. من واجبنا، أينما كنا، ومهما كنا نفعل، سواء كنا منخرطين في النضال ضد العنصرية، وسواء كنا منخرطين في الحركات النسوية أو في النقابات العمالية، يجب علينا أن نمنع الحكومة الاستعمارية الاستيطانية من مواصلة مشروعها التوسعي، يجب علينا الوقوف مع الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والسلام للإنسانية جمعاء.15
كانت هذه هي الرسالة التي حظرتها الأغلبية الاشتراكية في بلدية باريس. في المناسبة النادرة لاشتراك جوديث بتلر في اجتماع عام في فرنسا، كنا سنسألها صراحةً عن تقديرها بشأن ما يحدث في غزة بوصفها أنه "إبادة جماعية" وملاحظاتها بأن "الصهيونية متورطة منذ البداية في مشروع عنصري. قال تيودور هرتزل أنه ما من سكان على تلك الأرض كي يتمكن اليهود، وهم شعب بلا أرض، من الاستيلاء عليها دون تأنيب الضمير. وما عناه ذلك هو أن الفلسطينيين هناك لم يُنظر إليهم كبشر، ولا يمكن احتسابهم منتمين إلى الجنس البشري".16
أردنا أيضًا أن تتوسع بتلر في الرأي التالي: لست متأكدة من أن المناشدة الإنسانية لليهود الإسرائيليين ستفي بالغرض، لأن جذور المشكلة تكمن في تشكيل الدولة التي اعتمدت على عمليات الطرد وسرقة الأراضي لتأسيس "شرعيتها" الخاصة. لا يوجد حل للعنف الذي نراه إلا بعد احترام حق العودة للفلسطينيين، ولم يتمكن سوى عدد قليل جدًا من الإسرائيليين من فهم شرعية هذا الادعاء، وأن يكونوا جزءًا من تصور كيف يمكن أن يتحقق ذلك.
هذا العمل الرقابي ليس استثنائيا ولا هو الأكثر عقابية، فلم يفقد أحد وظيفته، ومن بين حالات الرقابة اليومية ضد الفلسطينيين، لا تعتبر هذه الرقابة هي الأكثر وحشية. لكن ما يهم في قرار بلدية باريس، الذي وصفته بتلر18 بأنه "مهزلة"، هو أنه لا يُظهر من له الحق في التحدث، بل من يوجد في المجال العام من الأساس.
وكما صرحت أنجيلا ديفيس، فإن فلسطين هي لحظة حاسمة، لأنها تظهر الحاجة الملحة إلى إلغاء الدول القومية الاستيطانية التي تشن حتمًا حربًا ضد حياة البشر وغير البشر. تقوم الأنظمة الاستيطانية على العسكرة والقمع والرقابة. وإن إنهاء الاستعمار في القرن الحادي والعشرين هو إلغاء الرأسمالية الأبوية العنصرية وعلاقتها الحميمة بالتوسع الاستعماري، ولا يمكن أن يكون هناك سلام مع الاحتلال. يعني مستقبل إنهاء الاستعمار في فلسطين العدالة والسلام للجميع، وبالتالي نهاية الاحتلال الاستعماري حتى يختفي المستوطن ويبقى الإنسان. نطالب بإلغاء السياسة الاستيطانية لأن المستوطن يريد أرض الآخر ومحو وجوده، وهذا يعني الحرب الدائمة. لكن مستقبلنا مرتبط بتحرير فلسطين.
الهوامش:
1.To read the poem in full, see poetryfoundation.org, accessed 21 December, 2023.
2.See Virginia Pietromarchi and Usaid Siddiqui, ‘Israel-Hamas war updates: Gaza death toll surpasses 17,700’, Al Jazeera, 9 December 2023, aljazeera.com; BBC Verify team, ‘How the dead are counted in Gaza’, BBC News, 16 November 2023, bbc.com; and Julian Borger, ‘Civilians make up 61% of Gaza deaths from airstrikes, Israeli study finds’, The Guardian, 9 December 2023, theguardian.com, all accessed 14 December 2023.
3.The vote took place on 12 December and was passed by a majority of 153 in favour and 10 against, with 23 abstentions. ‘UN General Assembly votes by large majority for immediate humanitarian ceasefire during emergency session’, UN News, United Nations, 12 December 2023, news.un.org, accessed 15 December 2023.
4.Mallory Moench, ‘U.S. Receives Backlash for Vetoing U.N. Resolution Calling for Gaza Ceasefire’, Time, 9 December 2023, time.com, accessed 14 December 2023.
5.‘Peace Utopias’, 1911 (first published: Leipziger Volkzeitung, 6 and 8 May 1911, reprinted in shorter form in Die Internationale, January 1926), marxists.org, accessed 14 December 2023.
6.Cited in Laleh Khalili, X, 6 December 2023, twitter.com, accessed 14 December 2023.
7.Alyosha Goldstein, ‘Where the Nation Takes Place: Proprietary Regimes, Antistatism, and U.S. Settler Colonialism’, South Atlantic Quarterly, 107/4 (Fall 2008): 834.
8.‘Joe Biden says if Israel didn’t exist, the US would have to invent one to protect US interests’, Senate Session, YouTube, 6 June 1986, youtube, accessed 14 December 2023.
9.Aimé Césaire, ‘Letter to Maurice Thorez’, Social Text 103, 28/2 (Summer 2010): 149, abahlali.org, accessed 14 December 2023.
10.See Michele Wieviorka, ‘Anti-Semitism, an old demon of the French left’, La Tribune, 13 October 2023, latribune.fr; Arthur Chevalier, ‘The origins of left-wing anti-Semitism’, Le Point, 14 November 2023, lepoint.fr; Pascal Meynadier, ‘Left-wing anti-Semitism: “The socialism of fools”’, Le Journal de Dimanche, 12 November 2023, lejdd.fr; and Camilla Brenni, Memphis Krickeberg, Léa Nicolas-Teboul, and Zacharias Zoubir, ‘The non-subject of anti-Semitism on the left’, Revue Vacarme 1/86 (2019), cairn.info, all accessed 19 December 2023.
11. من بين النساء والرجال الذين أسسوا الجبهة الوطنية (التجمع الوطني الآن) في عام 1972، كان هناك المتعاونين السابقين مع الاحتلال النازي (إيمانويل ألوت وجان ماري ديماركيه)، وفافن إس إس (ليون غوتييه)، وأعضاء منظمة العمل المدني (التي عارضت استقلال الجزائر واغتالت القوميين الجزائريين وحلفائهم، مثل روجر هوليندر)، والمقاومين السابقين للنازية (رولاند بيرجي وسيرج جانيريت)، وأعضاء الجماعات الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية.
12.Information about the meeting, communiqués, questions for Judith Butler, and clip of Angela Davis, see the blog we created, Guerre permanente ou paix revolutionnaire, il faut choisir!, 6 December 2023, guerrepermanente-paixrevolutionnaire.blog, accessed 19 December 2023.
13.Judith Butler in Georges Yancy, ‘Judith Butler: Palestinians Are Not Being “Regarded as People” by Israel and Us’, Truthout, 31 October 2023, truthout.org, accessed 14 December 2023.
14.Juliette Cerf, ‘Annulation du débat sur l’antisémitisme avec Judith Butler: les raisons de la polémique’, Télérama, 6 December 2023.
15.Recorded by Françoise Vergès, 19 October 2023 © copyright Françoise Vergès.
16.G. Yancy, ‘Judith Butler’. We also took excerpts from Judith Butler’s On Anti-Semitism: Solidarity and the Struggle for Justice (2017), Parting Ways. Jewishness and the Critique of Zionism (2013), and Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence (2006).
17.G. Yancy, ‘Judith Butler’.
18.Mathieu Magnaudeix, ‘Conférence sur l’antisémitisme annulée par la Mairie de Paris: “regrettable, voire une farce”, selon Judith Butler’, Médiapart, 5 December 2023.