أي عصر نعيش فيه الآن إن لم يكن عصر نهاية التاريخ، انظر حولك صديقي المواطن وأتحداك ألا يثار استياؤك، الشمس تزداد حرقة يومًا عن آخر، الزحام يلتهم مدننا، خطوط المواصلات مهترئة، ومجموعات بشرية غضبة تنتشر حولنا في كل اتجاه

سينما المستقبل

قصة لسامح هواري


عن فيلم eraserhead

وُجدت المنشورات التالية مجمعة بهذا الترتيب في 16-02-2584 على أحد الأرشيفات الإلكترونية لمواقع التواصل الرسمية القديمة، بعد شهور قليلة من انتصار الحفريين فيما يدعى الآن بالحرب الأهلية الأولى، في الغالب كانت نواة لمشروع أكبر يؤرخ للحفرية من خلال جمع نصوص حولها ولكن لسبب ما لم يكتمل، أو لم يصلنا منها سوى هذا الجزء.

***

صلاح عبد الحي
شبكة أحوال المواطن
05-02-2510

أي عصر نعيش فيه الآن إن لم يكن عصر نهاية التاريخ، انظر حولك صديقي المواطن وأتحداك ألا يثار استياؤك، الشمس تزداد حرقة يومًا عن آخر، الزحام يلتهم مدننا، خطوط المواصلات مهترئة، ومجموعات بشرية غضبة تنتشر حولنا في كل اتجاه، مجانين ومجرمين وتبشيريين ومعتلين اجتماعيًا، واليوم هو الذكرى السنوية الأولى لوفاة مصدر أساسي لكل هذه المصائب، الرجل الذي في الخلف، الذي يعرفه الجميع ولا يعرفه أحد، لا نعرف له اسم، فقط ألقاب، الخارج الأول، أو كما يطلق عليه أتباعه، السيد المبجل.

ولد السيد المبجل في بلوك رقم 119 من القطاع 21، نشأ في أسرة مستقرة وخرج منها مهندس كهرباء يعمل في الخلايا الشمسية بالخارج، وظيفة لا ينجح باقتناصها سوى أشخاص على قدر من الذكاء والشجاعة، فليس من السهل مواجهة موجات الشمس الحارقة خارج أسوار المدن، وكما تدور الحكايات بين أتباعه وزملائه، كان ما يميزه عزلته الشديدة، وحدث في تاريخ 01-01-2500 (هناك شكوك حول صحة هذا التاريخ)، بينما يعمل السيد بالخارج في إصلاح عطل ما على الأرجح، بينما يسكن لباسه الواقي من الشمس ويتحكم في الروبوتات المتصلة بلوحة التحكم أمام عينيه، بعضها يلحم وبعضها يفكك وبعضها يحفر الأرض كاشفًا أجزاء الخلايا والبطاريات المدفونة بالأسفل، شيء غير مألوف ظهر، طرف خيط قاده لطبقة أعمق، وصندوق مدفون يحمل بداخله شيء وحيد، قرص معدني كبير يلتف حوله شريط بلاستيكي تنطبع عليه صور صغيرة.

في الأيام اللاحقة سيصبح السيد مهووسًا بهذا الشيء، يدور به على المؤسسات التعليمية والمكتبات والدور الثقافية، والأصدقاء والغرباء في التجمعات، لا إجابة سوى أنه يبدو كشكل قديم من أشكال صناعة الفيديوهات، عدة أسابيع أخرى من الهوس استطاع أن يصنع ماكينة يوصل بها هذا القرص فتجعله يدور سامحة للصور بأن تتعاقب أمام شاشة صغيرة بنفس حجم الصور ومن خلال ميكانزيمات أخرى سمحت الماكينة للصور بالتحرك على شاشة أكبر كفيديو يتحكم هو في سرعته، لهذه النقطة كان الأمر هوسًا هندسيًا بتقنية قديمة، ولهذه النقطة لم تكن هناك مشكلة، لكن عندما شاهد السيد المبجل الفيديو شيئًا ما صار خاطئًا، به وبالعالم حوله، لم تعد الأمور كما هي، ولا شيء يصف ما حدث أفضل من كلمات السيد نفسه، في منشور قديم تم اكتشافه حديثًا، كتبه على الشبكة الرسمية للتواصل ولم يقرأه أحد.

***

الخارج الأول
الشبكة الرسمية للتواصل الاجتماعي
تاريخ غير معلوم يرجح أنه في الشهور الأولى من عام 2500

يتميز سطح الأشياء بقدرته على عكس نور الشمس، يخفي خلال الوهج اللامع حقيقة الشيء الداخلية، يمنع العيون من الاختراق وصولًا للجوهر، ربما لهذا السبب توقف كل شيء حولي عندما شاهدت ما عرض على تلك الشاشة، تقشير سطح الأشياء وإعادة تعريفها، ليس بنور ينعكس عليها بل من خلال انعكاس منها،  رأيت نفسي تضاءلَت حتى لم تعد موجودة، ووجدت العالم متسع لأقصى حدوده، وتم إعادة ترتيب العالم ليلائم رؤية جديدة لم أعرفها من قبل، تركت ذكرى طعم غامض على لساني، ولما انتهى المعروض وحولت عيني تجاه العالم، لم أستطع التعرف عليه، وكأني طفل يتذوق الأشياء للمرة الأولى.

رأس الممحاة، جسد يحمل علامات الآخر متتبعًا حيوانه المنوي، غريزة تجره لإكمال دورته، قيد ألبسته إياه الطبيعة، في أرض ترتفع وتنخفض وتحتفظ في باطنها بفيض من المعاني، تغمرني بها من كل اتجاه، وأنا الأعمى لا أرى سوى القليل، وأول ما رأيت كان رحلة تشبه رحلتي، تشبه رحلتكم، عقل في غرفة مظلمة، والرغبة تحرك التروس، تقوده كسيد أو مندوب لسيد خفي، تحرك عصيان التحكم فيعمل الجسد، وفي الخلفية شيء ما إضافي، إحساس بالعالم يقفز من العيون، اعتراض خفي، يتعجب، يتساءل، ويشعر بالقلق.

يحتل القلق جوهر وجوده، وتتجلى حقيقته في مستويات عدة، أن تلك الحياة التي تغمر الجسد هشة، ذلك التيار المستمر من الأحداث لا شيء يضمن استقراره، لا ضرورة تكشف عن نفسها في مسار التاريخ، وأن هشاشة الحياة ليست حقيقة معزولة عن الفرد، بل حقيقة تقع في مركز وجوده اللاواعي، وأن إدراكه لتلك الحقيقة من آن لآخر، عندما تقفز من أعماقه لسطح الوعي، يضعه في مجال يحاوطه من القلق والوحدة، فتتأرجح طبيعة الوجود للفرد بين وضعين مزاجيين، أن الحياة تيار أحداثه صعبة لا يمكن نفي القلق منها، تبث فيه الحزن والأسى، أو أن تيار الأحداث يستقر على موجة هادئة، أحداث يمكن تحمل العيش معها بقدر من انبساط المشاعر والعضلات، ولكن سيبقى القلق قابعًا في جوهرها، أن ينظر الفرد لأخيه الذي يعاني فيدرك أن المعاناة ممكنة وليست بعيدة عنه، قلق ينتشله من الغرق في التيار المستمر للحتمي.

أرى الآن الغريزة والقلق كوجهين للحتمي والإرادي، ضدين يتذبذب بينهما الإنسان، تسحبه الأولى لأرض الدنس، لطبيعته الدنيا، وينبهه القلق بخطأ ما، يعطي له إشارات لوضع وجودي مختلف، يبث فيه روح الرفض، كالألم الذي ينبه العضو أن شيئًا ما وجب عليه التغير، على الإنسان أن يتخطى غريزته، أن يقتل حيوانه الذاتي، فقط من خلال تحمل الخسارة والاستسلام الكامل لمشاعر الفقد سيتعالى الانسان عن دوائر الحتمية، وعندما يتعالى عن دوائر الحتمية سيتحرر من سجن القلق.

عندما أحول نظري من الشاشة للعالم أرى روثًا يلتصق على الجدران، وعيون المارة محبوسة في قفص كبير، وخوف غير مبرر على ذلك البناء الهش الذي يدعى الحياة، أركض في الشوارع صارخًا، ها هي الأرض التي حرم الله، ها هم العباد اللائي سقطوا في بئر الظلام، ها هم تحت رحمة حيوانهم الذي لا يتوقف عن الصراخ، وها هي الحكاية تعاد من جديد، ومن جديد يحتاج الإنسان للخلاص، أبث الرسائل على الشبكات العامة، وأصور نفسي جيئة وذهابًا متحدثًا بالدم، أعلن عن بشارات عالم آخر، الحفرية بين يدي تنقل أنباء من الماضي البعيد، تتحدث عن تجمد الزمن وهشاشة الحياة، والدورة التي لا تمل مطاردتنا، وتاريخنا الطبيعي الذي يلتف حول أعناقنا.

***

أسمهان رشاد
شبكة خوارج القطاعات
13-05-2506

تقول لك وسائل البحث الذكية إنك قطعة من اللحم الحيوي، فقط قطعة من اللحم الفعال الذي يتبادل المعلومات بين خلاياه بشكل ميكانيكي، كل مشاعرك الداخلية هي محض هراء، وسلوكك تجاه العالم، تجاه أخيك الجالس بجانبك، نابع من غريزة بيولوجية وفي أحسن الأحوال ثقافية، تقودك بشكل أعمى لبقاء النوع بشكل عام، أو بقاء هذه الغريزة بالتحديد بشكل خاص، تلك هي حقيقة العالم، حقيقتك، كف عن الصراخ واستمتع بالوجود فليس هناك أبعد من ذلك، تنظر للماكينات ذوات القدرة الحسابية الجبارة، لقدرتها على نمذجة الطبيعة والتنبؤ بسلوكها، فلا تملك سوى الصمت العميق والامتثال للحقائق التي أقرتها، وتحاول الاستمتاع بالوجود، وتنظر بداخلك فتجد قلقًا يتخفى أسفل السطح، يائس وغير مبرر، تنظر من خلال عينيك لاتساع العالم، لحركة الأشياء بلا هدف، فتجد الهشاشة تسكن كل شيء، وتجد نفسك بلا وطن تسكن إليه، سوى ذلك العدم المخيف المتخفي خلف سطح هذا الوجود الهش.

ذلك ما كنت عليه، وما كنت سأبقى داخله، لولا أني عرفت السيد المبجل، ومن خلاله عرفت قلقي وسمحت له بالخروج للسطح، نسجت منه سكين ووجهت الطعنات لحيواني، لغريزة البقاء داخلي، ولفخاخ المجتمع حولي.

ينظر الإنسان أمامه فينفتح له طريقان، مادي وروحي، تزخر لغتنا اليوم بالتشبث بالطريق الأول والتخلي (بحقارة) عن الطريق الثاني، ورغم ذلك، وبالرغم عنّا، سلوكنا في الحياة يعكس طريقًا روحيًا متخفيًا، لا يمكن رد الحكم بجدوى الحياة للوصف الحركي للإلكترونات حول نواة الذرة، لوصف مجال الاتصال بين مجموعة نيورونات مع شبكية العين، هذه القفزة هي قفزة روحية، الإقرار أن محتوى جملة ما يصف بدقة العلاقات بين الأشياء في العالم لا تساوي منطقيًا الحكم بأن هذا المحتوى حقيقي، لكي يخرج المحتوى الوصفي من الحالة العينية لواقعة في العالم إلى الحيز العام لوصف كل حالات العالم يحتاج المرء لقفزة لمستوى وجودي أعلى من مجرد وصف حركة الأشياء، الإقرار بأن الحياة هي صندوق ضخم من الذرات لا يمكن أن يتضمن الحكم بأنها يجب أن تعاش  (أو لا تعاش)، هناك شيء ما حول طبيعة هذا الحكم يتخطى المعرفة الميكانيكية للآلة، يتخطى المادة اللحمية للدماغ البشري، ويضرب بداخل أصل روحي عصي على الولوج، لا نستطيع سوى رؤية ظله.

تنبئنا الحفرية عن ماضٍ بعيد، يمارس فيه الإنسان عادته الأزلية في تكوين أفكار ضخمة عن بناء الطبيعة، لا يكتفي بمحاولة إجابة الأسئلة الكبرى، بل يحاول محاكاة طريقة عملها، كنملة دؤوبة لا تمل الحفر في الأساس الخرساني للعالم، ينظر لأفكاره عن العالم وعن نفسه ويختار الأفكار الأكثر سطحية، فقط لأنها الأكثر قدرة على التجسد، ميكانزيم رد الفعل، أن تأخذ إشارة من ناتج العملية ومن خلالها تقوم بتعديل ما يأتي من نتائج، في عملية تحسين أبدية، يمكن تكسيرها لواحد وصفر، يحمل عبئها الترس والترانزيستور اللذان لا يملان التكرار، تزحف الأشخاص بين براز الماكينات في كل الأنحاء، برادة حديد تتطاير في الجو، تختبئ بين خصلات الشعر، تتراكم في أركان المنازل، وتصبح مع الوقت جسمًا أسود يمتص الأرواح، مخزن لخوف وغضب يتخفيان تحت الحديث، تجد إشاراته في الكلمات الخاطئة المبعثرة بين الجمل المنظمة، في توزيع الضغط الإيقاعي للكلمات في الجمل، ولا مجال للتفريغ سوى تلك الألعاب التي تستهلك الفرد، تلك الفخاخ الاجتماعية.

تحتفظ رحلة هنري في قلبها بشيء خام ونقي، شيء ما يقر أن هناك ما يوجب الحياة، يدفعه للبحث عن سبل للتواجد في العالم، في البحث عن حب حقيقي، رفقة تكسر عزلته، وفي خلال الرحلة يبدأ هذا الشيء في الفساد، في الوقوع فريسة للمجتمع الميكانيكي، لعقل الآلة الذي لا يعرف سوى التضاعف على ذاته، وتقف على جانبي الطريق الأنماط الاجتماعية، كأضواء لامعة لا تضيء شيئًا سوى ظلام داخلي، يبتلع البطل في فخاخه، يغربه عن نور غامض في جوهر وجوده، ينزله للأرض، للغريزة الدنيا، للتعلق بعالم يومي يعكس عالم الآلة، يحاول بإصرار أن يصنع ترسًا آخر في الماكينة العظمى، ترانزيستور آخر يخضع للبرنامج، لا يرد سوى بنعمٍ ولا.

والآن حان الوقت لكسر الترس، للتطهر من برادة الحديد والتحرر من عقل الآلة.

***

زين صلاح العشماوي
 شبكة أحوال المواطن
16-09-2028

هناك علاقة مريبة بين ماكينة التصوير وما يتم تصويره، من ناحية نحن نكاد نجزم أن لا وعي داخلي لهذه الماكينة، فقط تسلسل سببي يؤدي للاحتفاظ بعلاقات الضوء على أسطح الأشياء المصورة، ومن ناحية أخرى تستطيع الكاميرا أن تنقل شيئًا ما عن العالم لا تستطيع أن تنقله العين البشرية، تستطيع أن تحتفظ بجوهر خفي داخل الأشياء، تحجبه عن الوعي، تظهر إشارات له على سطحها، ولا نستطيع سوى التفسير وإعادة التفسير، ربما قدرتها على الاحتفاظ بالصورة للعالم بعيدة عن تدخلات العقل هي ما يكسبها هذه العلاقة مع العالم، هي وحدها من يحتفظ للأشياء بخصوصيتها بعيدًا عن تمثيلات الدماغ، هذه العلاقة الساحرة، والمزيفة، هي ما تكسب الكاميرا تلك القوة الجبارة على نفوس البشر، حتى أن اكتشاف فيديو قديم، مبهم المعنى والسياق، قادر على أسر عقول هذه المجموعات الثورية العنيفة التي تحيط بنا من كل اتجاه، هذا الوعد الخفي بالاحتفاظ بماهية الأشياء من الفساد، بتكشُّف حقيقتها المستمر، بإمكانية إعادة تدويره بشكل أبدي، هو ما يقبع في جوهر هذا التأثير العظيم للحفرية على عقول المجموعات الملتفة حولها، وهذا بالتحديد ما نحتاج تتبعه لمعرفة أصل تلك الظاهرة التي تقيد كل جنبات مجتمعنا الحالي.

يقول لك شيوخ الحفرية، وعلى وجوههم علامات الانفعال، ومن خلال العنف الموسيقي المغوي لأصواتهم، أنك ترس في مجتمع ميكانيكي، آلة صغيرة داخل آلة كبيرة، وفي قفزة غير منطقية يعلنون أن ذاك بالتحديد هو سبب تعاستك، وتتطاير العبارات الرنانة المحفزة في الجو، ثر يا أخي ويا ابن أخي، تغلب على غريزتك الدنيا، فلتكسر الترس لتتعطل الآلة، فلتنجون بنفسك بعيدًا عن هذا الضلال.

وأقول لك أنا، وأنا لست بأخيك، انما مواطن يشاركك نفس الأرض ونفس الحياة، فلتأخذ خطوة للوراء وتأمل الأمر، اعرض المقدمات أمامك ولا تقفز للنتائج سريعًا، فرغ الحفرية من كل ما يحمل عليها من أساطير ولن تجد أمامك سوى مادة مصورة شديدة الهزلية، لا أنكر أنه يحمل عناصر فنية جيدة تستحوذ على خيال المشاهد، ولكن المادة في أصلها، بعزل الأسلوب الفني (الرنان) عنها، هي فقط تصوير لحياة شخص مصاب باكتئاب ما بعد الولادة، وأكاد أجزم أن من قام بصناعتها هو مريض نفسي، ليس هناك في المادة ما يفيد الخلاص الروحي للإنسان أو التحرر من قيد المجتمع وإلى آخر هذا العبث، فقط انفعال فني من مريض نفسي تجاه عالمه الجديد ولا شيء أكثر من ذلك، مهما قال لك هؤلاء عن عالم متجاوز تبشر به الحفرية، رد هذا الكلام إلى مقدماته الأولى ولن تجد سوى استنتاج هرائي منافٍ للمنطق، في النهاية لا خلاص لنا سوى المنطق، وإعمال العقل، رفع رؤوسنا المدفونة في الرمل، التخلي عن الخرافات ومواجهة مشاكلنا بشجاعة.

وعلى غرار إخواننا مهوسي الحفرية، سأنهي كلامي هذا بجملة رنانة، أوجهها لك أيها المواطن العزيز، لن أقول أخي لأني أظن ما يربطنا هي رابطة أكثر تحضرًا، رابطة المواطنة، فأقول لك أيها المواطن: أعمل عقلك ولا تكن خروفًا ضمن القطيع.

***

عبد الحي صلاح
الشبكة الرسمية للتواصل الاجتماعي
05-09-2560

يتغافل كثير من الباحثين الآن أن الحفرية قبل أن تكون موضوعًا للفعل السياسي، فهي موضوع للفعل الفني والمعرفي، فاتحين المجال لنقاد الحفرية لاستخدام هذا الاتجاه، فيصفون الحفرية كتتابع من اللقطات المصورة التي لا تدل على شيء، يصفونها كفعل تاريخي لا يتحمل سوى لحظته المكانية والزمانية المحدودة، ويحول هؤلاء كل أتباع السيد المبجل لمهووسي يدورون حول اللاشيء، وبما أنه لا شيء هناك في الحفرية -حسب كلامهم- ففي الحقيقة يدور هؤلاء المهووسون حول ذاتهم المضطربة ذات الميول التخريبية، وانطلاقًا من هذه النقطة بالتحديد، أريد من خلال منشوري القصير هذا، أن أعيد توجيه أعين هؤلاء الباحثين لمجال خصب تركوه في يد نقاد الحفرية.

يخطئ نقاد الحفرية في الكثير ولكنهم يمتلكون نقطة واحدة لها وجاهة حقيقية، أن الحفرية هي انفعال فني تجاه العالم، وبالرغم من تحقيرهم لهذا النوع من الفعل مقابل تأثيره، إلا أني أريد أن أقترح العكس، أن هذا الانفعال الفني هو الأساس القوى الذي تستند له الحفرية وهو الجوهر الذي نُقل من قلب الفنان/الصانع لقلب السيد المبجل مباشرة، تلك الصرخة المكبوتة في قلب هنري تقول شيئًا ما هامًا عن انعدام العدالة، هي أكبر من أن تتجلى بشكل واضح، لا يمكن سوى نقلها من خلال انفعال فني يهرب من اللغة المنطقية، ولكن ما أنتج تلك الصرخة؟ ذلك الانفعال القوي تجاه العالم، هو السؤال الكبير الأول، السؤال الثاني الذي لا يقل أهمية، هو تأثير هذا الانفعال في سيكولوجية من ينقل لهم، كيف يعدل من رؤيتهم لأنفسهم وللعالم ومن ثم من سلوكهم تجاهه، يوجد السؤالان السابقان على أهميتهما على هامش سؤال أساسي، ما هي الطبيعة النهائية لهذا الانفعال الفني؟ هذا السؤال الخادع، الذي يختبيء جزء كبير منه تحت قناع صانعه، وهناك جزء آخر لربما خرج عن صانعه شخصيًا، هو السؤال الأساسي الذي يجب أن تدور حوله كل الدراسات حول الحفرية.

هناك ثلاثة عناصر في قلب الحفرية يعطونها أهميتها التبشيرية، هناك وعد بالخلاص من وضع هنري المتأزم، وعلى الإنسان أن يقتل غريزته ليتحقق الوعد، وهناك شكل للحياة يمكن تأسيسه استنادًا للحفرية يختلف عن الشكل اليومي لها، حياة أخلاقية لا تستسلم لذكاء الآلة التحليلي، يتأسس عليها رباط اجتماعي يتواجد خلاله الفرد ويذوب فيه، يكتسب من خلال هذا التواجد أهمية أكبر من ذاته، ليست أهمية ترس في ماكينة لا غاية واضحة لها سوى الإنتاج وإعادة الإنتاج، ولكن أهمية المساهمة في خلاص الجنس البشري من الظلم والبؤس و محاولة الارتقاء به لوضع أفضل، وأخيرًا أن الحفرية تفتح إمكانية دائمة من التفسير وإعادة التفسير فيمكنها التأقلم مع التطورات الحادثة للاجتماع البشري من خلال التأويلات المختلفة لها، هذه العناصر الثلاثة يمكن ردها لطبيعة الانفعال الفني نفسه، ولا يمكن فهمها بشكل عميق سوى من خلال فهم الانفعال، ظروف إنتاجه، وتأثيره على المتأثرين به.

وفي الخاتمة أريد تذكر هذا الشعار السياسي الملهم الذي أطلقته السيدة أسمهان رشاد من سنوات عديدة، "لا تدعهم يقطعون رأسك، ولا تكن رأس ممحاة"، وجدت الحفرية في ظروف اجتماعية استثنائية، في التحول من العصر الصناعي الكلاسيكي للعصر الصناعي الذكي، وتبعه تحول في سيكولوجية الفرد وبالتالي سيكولوجية المجتمع، ومن أفضل من الفنان لينقل لنا صورة صادقة عن هذا التحول، ليست صورة تحليلية يمكن التمرد عيلها لاحقًا ولكن خبرة ذاتية تنفجر في وجه العالم، يحاول من خلالها نقل هذه الخبرة للمشاهد، للأجيال اللاحقة التي لم تعِ هذا التحول، شكل حياة آخر لا يستطيع هذا المجتمع الذكي للغاية أن يوفره، رفض الفنان أن يكون رأس ممحاة، ورفض السيد المبجل أن يكون رأس ممحاة، والآن أدعو مواطنين مجتمعي الأعزاء، الباحثين منهم وغير الباحثين، أتباع السيد المبجل أو نقاده، لا تكونوا رأس ممحاة.

***

شخص مجهول يلقب نفسه ثائر ثوري
26-07-2578
شبكة جنود الحق

غدًا ستتحقق نبوءة السيد المبجل، غدًا ستنير السماء بدمائهم احمرارًا.