وينبغي ألا نسمي أي شيء فناً إلا ما ينتج عن الحرية، أي عن إرادة تضع العقل أساساً لأفعالها

الحرية في العمل: عن معنى العمل في فلسفة كانط

مقال تايلر ريه

ترجمة رحاب عيد

تايلر ريه: طالب دكتوراه في الفلسفة في جامعة بنسلفانيا.

نشر المقال على موقع Aeon في سبتمبر 2023


لم يعد العمل مجدياً بالنسبة لنا، أو بالأحرى لمعظمنا. فنظراً لانخفاض الأجور ووتيرة الترقيات، يترك العديد من الأفراد وظائفهم أكثر من أي وقتٍ مضى في العشرين سنة الأخيرة، وينحسر العجب في ذلك بالنظر إلى الأجور الحقيقية (متوسط سعر الساعة المتغيّر حسب التضخم) التي يتلقاها الموظفون دون مستوى المديرين، التي كانت قبل ثلاث سنوات فقط بنفس القيمة التي كانت عليها في أوائل السبعينيات. في الوقت نفسه، أدى انتشار العمل الحر إلى تحويل الوظائف من "درجات" على سلم الترقي الوظيفي إلى "سبوبة" مقلقلة.

يقول ما يقرب من 70 في المئة من النسبة المتزايدة للأشخاص الذين يعملون لدى تطبيقات مثل أوبر أو تاسكرابت أنهم يفعلون ذلك كوظيفة جانبية لدعم دخولهم الرئيسية التي لا تواكب احتياجاتهم الأساسية من قريب أو بعيد. حتى الموظفون الشباب الصاعدون يضطرون إلى تغيير وظائفهم بدلاً من البقاء فيها للتمكّن من الترقي في مساراتهم الوظيفية على النحو الأمثل. ومن قبيل المفارقة، يُنظر لترك مسار وظيفي مستقر على أنه شيء جيّد. وتقول المستشارتان المهنيتان ساره إيليس وهيلين توبر أننا يجب أن نتقبل تلك "المسارات الوظيفية المتعرجة" ونعتبرها المسارات الطبيعية والأكثر "مرونة" الجديدة.

يزعم السياسيون أن الحل لمشكلات العمل التي نعاني منها في توفير "المزيد من الوظائف". لكن مجرّد زيادة عدد الوظائف السيئة لن يُفيدنا في مسعانا لتجنب مشكلات العمل. ما نحتاجه، على ما يبدو، ليس المزيد من الوظائف، بل المزيد من الوظائف الجيدة. ولكن ما هي الوظيفة الجيدة بالضبط؟

تُعرّف وزارة العمل الأمريكية "الوظيفة الجيدة" على أنها الوظيفة التي يتم فيها الامتثال إلى ممارسات التوظيف العادلة، ومراعاة تكافؤ الفرص، وتوفير مزايا شاملة، وأمان وظيفي، وثقافة يشعر فيها الموظفين بالتقدير. في تقرير مماثل على موقع الحكومة البريطانية عن سوق العمل الحديث بعنوان "الوظيفة الجيدة" (2017)، أكد ماثيو تايلور وزملاؤه على حقوق الموظفين في مكان العمل، والمعاملة العادلة، وفرص الترقية، وجودة أنظمة مكافآت الموظفين. وأخيراً، يتضمن إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان قسمين عن العمل ينصان على حرية الأفراد في اختيار العمل والمنظمة التي يرغبون في العمل بها، وحق العاملين في الحصول على أجور عادلة ومتساوية على العمل المتساوي، ووقت فراغ كاف.

تشترك هذه النصوص الثلاثة في تركيزها على السمات الوظيفية (الاتفاقية التي تبرمها مع رئيسك في العمل) بدلاً من التركيز على العمل نفسه. لكن عناصر مثل مدى إنصاف رئيسك في العمل، ومدة عقدك، ونمو حياتك المهنية، لا تخبرنا شيئاً عن جودة العمل الذي تؤديه.
ومع ذلك، فإن ما نقضي جلّ يومنا في القيام به هو العمل ذاته. لا يزال من الممكن العثور على وظائف توفّر رواتب مرتفعة مع كونها الأكثر مللاً وثقلاً على النفس، إلا أنه لا ينبغي أن نصف تلك الوظائف بالجيدة (لم يرد الحديث عن هذا الأمر سوى مرة وبإيجاز في تقرير تايلور -الذي بلغ 100 صفحة- حيث ذكر ضرورة تمتع العاملين ببعض الاستقلالية في الطريقة التي يؤدون بها وظائفهم، أو ألّا يكون العمل مملاً ومكرراً). هذا لا يعني أن الجوانب الخارجية للعمل مثل الأجور والمزايا غير مهمة؛ فالوظيفة الجيدة هي التي توفّر رواتب مُرضية بلا شك. ولكن ماذا عن المزايا الجوهرية للعمل ذاته؟ هل يوجد معايير محددة لعملية العمل نفسها ينبغي لنا أن نبحث عنها، أم يجب أن نكتفي جميعاً بحياة عملية رتيبة بأجر عالٍ؟

حاول الفلاسفة الإجابة على هذا السؤال من خلال وضع تعريف للعمل. نظراً لأن التعريفات توضح لنا أساس أو جوهر الشيء، فإن وضع تعريف للعمل سيوضّح لنا ما إذا كان يوجد عنصر جوهري للعمل ينبغي أن تُعززه الوظائف التي نعتبرها جيدة. يقول التعريف الأكثر شيوعاً للعمل في الفكر الغربي، والذي وجد في كل الكتابات ذات الصلة في كل مرحلة من مراحل الفكر الغربي تقريباً، أن العمل في الأصل فعلٌ غير مُحبب للنفس ويستمد قيمته من كونه وسيلة لتحقيق غرضٍ ما. إنه أمر غير مُحبب للنفس لأنه يستهلك طاقتها (قارنه بالترفيه)، ويستمد قيمته من كونه وسيلة لتحقيق غرضٍ ما لأننا نهتم فقط بما ينتج عن عملنا، وليس أداء العمل نفسه. من هذا المنظور، لا يُعد العمل شيئّا ذا قيمة تجذبنا إليه، ولكنا بحالٍ أفضل لو كنا نقلل الوقت الذي نقضيه في أدائه إلى الحد الأدنى. من المرجح أن تنص نظرية للعمل مبنية على هذا الأساس أن الوظائف الجيدة هي التي تقدم رواتب مرتفعة (مقابل ضجر العمل) ويستغرق أداؤها أقل مدة ممكنة.

ولكن هذا ليس التعريف الوحيد المتاح في جعبتنا. فهناك تعريف آخر للعمل صكه إيمانويل كانط عُثر عليه بين السطور في فقرتين من كتابه "نقد ملكة الحكم" (1790) الذي يتحدث عن الجمال. في باب بعنوان "حول الفن بوجه عام"، يُعرّف كانط الفن (Kunst بالألمانية) بوصفه جزءاً من قدراتنا على صُنع الأشياء بمهارة وبراعة (مع العلم أنه لا ينبغي حصر تعريف كانط على الفنون الجميلة -يُطلق عليها schöne Künste بالألمانية- مثل الشعر أو الرسم، والتي سيتناولها في الباب التالي من الكتاب). بعبارة أخرى، يعرّف كانط الفن بصفته نوعاً معيناً من العمل الماهر. وتعريف كانط للفن بوصفه عملاً ماهراً سيقودنا إلى سمات العمل الجوهرية التي يجب أن نأخذها في الاعتبار عندما نتصور ماهية الوظائف الجيدة.

يعرّف كانط الفن من خلال طريقته التحليلية، وهي طريقة لتحديد ماهية شيء من خلال تمييزه عمّا سواه. حيث تمثّل وجه التمييز الأول لديه في هذا الصدد في الاختلاف بين الأشياء التي تصدر بفعل قوى الطبيعة من جهة، والأشياء التي تنتج بفعل جهود بشرية من جهة أخرى. والفن، باعتباره عملاً ماهراً، يُعتبر مثالاً على الأشياء التي تنتج بفعل جهود بشرية. حيث كتب قائلاً:

"وينبغي ألا نسمي أي شيء فناً إلا ما ينتج عن الحرية، أي عن إرادة تضع العقل أساساً لأفعالها. لأنه، ولو كنا نميل إلى نعت نتاج النحل (خلايا الشمع منتظمة الأشكال) بالعمل الفني إلا أن هذا سيكون على سبيل التمثيل فقط وتشبيهها بهذا الأخير. وأننا حالما نفكر بأن النحل لا يؤسس عمله على تمعّن عقلٍ خاص، فسوف نقول للفور إنه نتاج طبيعتها (الغريزة) ولا يُنسب كعملٍ فني إلا إلى خالقها".

إن القدرة التي تمكّننا نحن البشر من صنع الفن هي حريتنا، "قدرتنا على الاختيار". وهذا بعينه هو ما يميز العمل البشري الحر عن عمل النحل الذي يستأنف كانط كلامه عنه واصفاً إياه "بالمقيّد" أو "الآلي". فما يمكّن البشر من الإنتاج بحرية هو أنهم يتصورون الشيء في العالم المثالي أولاً، كمفهوم أو غاية في الوعي، قبل أن يشرعوا في صنعه في الواقع. هذا هو ما ما قصده كانط عندما قال إن فعلنا وعملنا "أعطانا إياه... العقل". يفتقر النحل إلى الغاية في نشاطه، لذلك نعتبر منتجاته آثاراً للطبيعة وليست أعمالاً فنية. فبالنسبة إليه، يُعد قرص العسل نتاج طبيعته (الغريزة). لا يمتلك النحل الخيار، ولا يمكنه سوى الإنتاج وفقاً لمعايير أملتها عليه الطبيعة. ولأن البشر يمتلكون "حرية الاختيار"، فنحن "أحرار" في الإنتاج وفقاً لأي مفهوم أو معيار نريده. وهذا يعني أننا إذا أردنا، فإننا يمكننا الإنتاج وفقاً لمعايير النحل (وهي نقطة سيطرحها كارل ماركس في مخطوطاته (1844)).

ومن ثم، يمكننا القول إن كانط قد أطّر لنا فلسفة أولية عن العمل بتمييزه بين الفن (بوصفه عملاً ماهراً) والطبيعة. فالعمل الماهر له غاية بالضرورة، نتاج عملنا مدفوع بغاية، وهذه الغاية هي ما تصنع المنتج بطريقة تعجز عنها الطبيعة القحة. إن ربط العمل البشري بالغائية يبرز أهمية التفكير في عملية إنتاج العمل. على عكس الحيوانات، التي يُعد العمل بالنسبة إليها مجرد نتيجة طبيعية، فإن العمل البشري نتاج تضافر كل من التفكير والفعل معاً. فكلما انعكست أفكارنا وخططنا في نتاج عملنا، كلما أصبح عملنا أكثر بشريّة.

ولهذه الرؤية تداعيات عميقة على مفهوم العمل الجيّد، وبالأخص فيما يتعلق بالفصل الذي يفرضه نظام الرأسمالية بين تخطيط العمل وتنفيذه. في النظام الرأسمالي، لا يُسمح لمعظم العاملين إلا بتنفيذ غاية أصحاب العمل من العمل، ولا يحددون بأنفسهم الأهداف التي يجب تحقيقها. وباستخدام مصطلحات كانط، يمكن القول إن معظم العاملين لا يملكون "حرية الاختيار" في العمل. وعوضاً عن ذلك، يحتكر رؤساءهم وحدهم هذه القدرة. يجعل هذا الأمر العديد من العاملين مجرد حيوانات في العمل، ذلك لأن ما ينتجونه لا "يستند إلى أى تفكير عقلاني من جانبهم". وعليه، ففي حين أن العمل في الرأسمالية يكون محدداً بغاية معينة (غاية رؤساء الأعمال)، إلا أن العاملين لا يكونون طرفاً في تحديد هذه الغاية.

ألق نظرة على بعض النظريات البارزة حول الوظائف الجيدة، ستجد صعوبة في العثور على أي إشارة إلى وجود غائية فيها. يرجع ذلك إلى أن الأسلوب الحديث في تنظيم العمل مبني بشكل كامل على هذا الفصل بين العمالة والإدارة. ففي حين تضع الإدارة الخطط والأهداف، يقتصر دور العاملين على تنفيذ هذه المهام بطريقة آلية. وعلى الرغم من اختلاف درجة صرامة هذا الفصل بين أماكن العمل المختلفة، إلا أن فكرة الإدارة نفسها تفترض وجود فئتين: المخططون والمنفذون. ومع ذلك، نرى هنا أن تنظيم العمل بهذه الطريقة يمنع الكثير منا من ممارسة قدرتنا البشرية الفريدة على العمل بغايات محددة، وهذا ما يجعل العمل نشاطاً مقيداً وآلياً بدلاً من أن يكون نشاطاً "حراً".

يُصنف كانط المنتجات التي ينتجها البشر إلى فئتين: تلك التي يتم إنتاجها من خلال اتباع تعليمات محددة مسبقاً، وأخرى تتطلب القدرة على الحكم والإبداع. وصف كانط الفئة الأولى "بالعلمية" والثانية "بالتقنية". فالفن، بوصفه عملاً ماهراً، فهو عمل تقني. واستطرد قائلاً:

والفن، بوصفه مهارة إنسانية، يتميز عن العلم (القدرة على الفعل عن معرفة بكيفية القيام به)، كما تتميّز الملكة العلمية عن الملكة النظرية، والتقنية عن النظرية (المساحة عن الهندسة). ولهذا السبب أيضاً لن نصف ما بقدرتنا فعله بأنه فن، بمجرّد معرفتنا لما ينبغي علينا فعله، ونكتفي بالتالي بمعرفة وافية للنتيجة المنشودة فقط. إلا أنه من باب الفن أيضاً أن نكون على معرفة كاملة بشيء، لكننا لا نملك بعد المهارة الكافية لصنعه في الحال.

يختلف الفن عن العلم لأنه لإنتاج عمل فني، نحتاج إلى أكثر من مجرد فهم نظري لما نحاول إنتاجه. هناك فجوة بين "معرفة ما يجب القيام به" والقدرة الفعلية على القيام به. بعبارة أخرى، يتطلب الفن لا-تعيين منتج.

إن رأي كانط بأن الفن قائم على إنتاج غير متعيّن يُعد نتيجة لادعائه بأنه: "لا يمكن أن توجد قاعدة موضوعية يُعيِّن بها الذوق ما هو جميل استناداً إلى مفاهيم". بالنسبة لرسامتنا، هذا يعني أنه لا يمكن تدوين عملية رسمها لشيء جميل في قواعد محددة. وعلى العكس، يجب أن تستخدم "عبقريتها"، وهو مصطلح كانطي يعبر عن "موهبة إنتاج شيء لا يمكن تقديم قاعدة محددة لصنعه".

يبدو للوهلة الأولى أن التمييز بين الفن والعلوم لا علاقة له بقضية العمل. حيث يمكن تعليم تركيب الأسلاك الكهربائية للمنزل وفقاً لقواعد محددة، بينما لا يمكن فعل ذلك لتأليف قصيدة جميلة. ومن المحتمل هنا أن تشوش رؤيتنا التقليدية للعمل في استيعاب تعقيدات وسيولة العملية الفنية. يختلف كانط مع هذا الرأي، حيث يستشهد بصناعة الأحذية كنوع من العمل الذي يقع على جانب "الفن" من التمييز بين الفنون والعلوم. ويُفهم من هذا أن أي نوع من العمل يتضمن سيولة في كيفية إنتاج الشيء المعني منه، فإنه يحتوي على عنصر فني.

فكّر في مثال ميكانيكي الدراجات النارية الذي قدمه ماثيو كروفورد في مقالته "الحرف اليدوية: رحلة نحو العمل المُرضي" (2006): يجب على الميكانيكي التحقق من حالة بدال قابض السرعة في دراجة نارية قديمة متهالكة عمرها 50 عاماً. ولكنه ليفعل ذلك، عليه إزالة أغطية المحرك المثبتة ببراغي بالية الرؤوس. وقد يؤدي حفر البراغي إلى إتلاف المحرك. يكتب كروفورد: "تخبرك أدلة الاستخدام بأن تكون منهجياً في إصلاح الأعطال المحتملة، لكنها لا تفصّل لك طرق إصلاح كل الأعطال المحتملة".

فبالنسبة لكروفورد، يعرف الميكانيكي ما هو "الهدف المطلوب" -إصلاح الدراجة- ولكن طريقته للوصول إلى ذلك الهدف ليست مكونة من قواعد محددة. وفقاً لكانط، يفتقر الميكانيكي إلى "المهارة لفعلها". قد يكون لديه معرفة كبيرة بأدلة استخدام الدراجات النارية، ولكن كما قد يقول كانط "حتى المعرفة التامة بدليل استخدام دراجة نارية لا تعني بالضرورة القدرة على إصلاحها".

فقد تظهر مشكلات أثناء العمل -مشكلات التنفيذ، والمشكلات التي تنشأ في ظروف طارئة وغير متوقعة- لا يمكن التنبؤ بها علمياً (نظرياً) قبل الشروع في العمل. هذا يعني أنه لا تُكتسب مهارات حل تلك المشكلات من خلال اتباع خطوات في دليل أو من مشرف أو حرفي ماهر، بل يتطلب اكتسابها خوض غمار المشكلات عملياً. وهنا يكمن الفرق بين "معرفة" شيء ما و"القدرة العملية" على القيام به.

المصطلح الذي استخدمه لوصف هذا النوع من المشكلات العملية التي يواجهها المرء في العمل هو "اللاتعيين المنُتِج" يخبرنا تمييز كانط بين الفن والعلم أن العمل -الذي يقع على جانب "الفن" من هذا التمييز- هو بطبيعته "لاتعيين مُنتِج" لأن عملية العمل أوسع من تأطيرها بتعليمات صريحة. بعبارة أخرى، هناك دائماً فجوة بين القواعد والإرشادات حول كيفية أداء العمل من ناحية، وما هو مطلوب فعلياً لإنتاج المنتج أو تقديم الخدمة المطلوبة من ناحية أخرى. وفي هذا السياق، يتشابه العامل مع الفنان. عندما تشرع فنانة ما في صنع شيء جميل، فإنها تكون في حالة من "اللاتعيين المُنتِج" المتمثلة في معرفة النتيجة المطلوب تحقيقها ولكن من دون امتلاك قواعد محددة لتتبعها لتحقيق هذه النتيجة. وبدلاً من اتباع القواعد، يجب عليها استخدام حكمها (مصطلح كانط) للتفكير في القواعد، والتقنيات الفنية والأساليب وما إلى ذلك، التي تُعد الأنسب للنتيجة التي ترغب فيها. وباستخدام كلمات كانط، يجب عليها استخدام "عبقريتها".

وينطبق الأمر ذاته على العامل. لنعد إلى ميكانيكي الدراجات النارية. لدى الميكانيكي مجموعة من "القواعد" -التقنيات والاختبارات المعروفة- التي تعلمها عندما كان متدرباً. ولكن عند العمل على دراجة نارية حقيقية، يجب عليه التفكير فيما يجب أن يستخدمه من هذه القواعد والتقنيات ليطبقها على بيئة عمل غير محددة. في البداية، لا يعرف الميكانيكي في الواقع أي تقنية هي الصحيحة. يجب عليه استخدام حكمه لمعرفة أيها أكثر ملاءمة بالنظر إلى الظروف.

والحكم والإبداع ليسا مطلوبين فقط في العمل اليدوي، حيث يتخلل جميع الوظائف بعض جوانب الغموض والتحديات التي تتطلب مهارات تتجاوز اتباع القواعد. تنص النظرية النفسية الديناميكية للعمل، وهي أطروحة بارزة حول العمل في النظرية الاجتماعية الفرنسية المعاصرة، على أنّه لا يمكن لأيّ تعليمات أو توجيهات، مهما بلغت من الأهمية والدقة، أن تتنبأ بجميع التحديات والمتغيّرات التي قد تواجهها مهنة معيّنة في سياقها العملي الواقعي. بالنسبة إلى مؤيدي النظرية النفسية الديناميكية، فإن التكيّف مع هذه "المتغيّرات" هو جوهر تجربة العمل.

ماذا تخبرنا فكرة كانط عن "اللاتعيين المُنتِج"، المستمدة من تمييزه بين الفن والعلوم، عن العمل الجيد؟ وفقاً لكانط، فإن التغلب على "اللاتعيين المُنتِج" من خلال ملكة الحكم بدلاً من اتباع القواعد هو جزء أساسي مما يعنيه أن تؤدي عملاً. إن استخدام ملكة الحكم في العمل، يجعلنا أكثر تحرّراً وإبداعاً وقدرة على اتخاذ قرارات مدروسة في مهامنا. وفي المقابل، قد تقلل إعاقة مهارات الحكم لدينا في العمل من شعورنا بالمتعة والإبداع وتجعل غايتنا منه كغاية "المرتزقة" من أعمالهم (كما يوضح كانط في الفقرة التالية).

لا يُعد اتباع القواعد بكثرة في أي وظيفة معيّنة بالضرورة أمراً سيئاً في تعريفنا للعمل الجيد. فبعض الوظائف الضرورية للمجتمع لا تتطلب الكثير من مهارات الحكم، أو لا يمكن القيام بها إلا وفقاً لقواعد موحّدة. مهنة مثل جمع القمامة تبدو وكأنها تتّسم بكلتا الخاصيتين. فمن المنطقي أن تتولّى جهة مركزية تحديد قواعد جمع القمامة، مثل متى تُجمع مخلفات البناء على سبيل المثال، في جميع أنحاء المدينة، بدلاً من ترك هذه المهمة لقرارات عمال النظافة الفردية. إذا كان كانط على صواب، فإنّ توحيد ضوابط عملية جمع القمامة قد يُشعِر العاملون بالملل والرتابة. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن جمع القمامة "عمل سيئ". تذكّر أنّ استخدام الحكم ليس هو المعيار الوحيد للعمل الجيد. تعويضاً عن القيام بأعمال ضرورية للمجتمع ولكنها مملة، يُفترض أن يُكافأ عمال النظافة بأجور إضافية ومزايا وظروف عمل آمنة ومنتظمة. 

إلا أن المشكلة في اتباع القواعد تكمن في أن تنظيم العمل الحديث يبدو أنه يقلل، بشكل عام، من مستوى قدرة العاملين على الحكم في أعمالهم. حيث ينظم المديرون عملية العمل بذريعة الكفاءة وتوحيد الضوابط، ولكنهم بذلك يحتكرون العديد من القرارات التي كان من الممكن أن يتخذها العاملين. بعبارة أخرى، يحوّل الإداريون العاملين من مُصدرين للأحكام إلى مُتّبعين للقواعد.

وقد تُصبح مجرد متّبع للتعليمات إذا كانت وظيفتك تحت إدارة علمية، والتي تُعد أقصى درجات اتباع القواعد في العمل. تتمثل فكرة فريدريك تايلور الأساسية في "الإدارة العلمية" في أنّه يجب على مديري العاملين، وليس العاملين أنفسهم، السيطرة على عملية العمل بأكبر قدرٍ ممكن. يقول تايلور: "تخطط الإدارة عمل كل عامل بالكامل ... ويتلقى كل عامل ... تعليمات مكتوبة كاملة تصف بالتفصيل المهمة التي يتعين عليه إنجازها، وكذلك الوسائل التي يجب استخدامها في أداء العمل".
رؤية تايلور لقوة عاملة تُدار علمياً هي رؤية يسيطر فيها الإداريون مسبقاً على ماهية العمل وكيفية القيام به على وجه التحديد. وتسلب مثل هذه السيطرة العاملين أي حرية في العمل، وتجبرهم على الخضوع لقواعد الإدارة دون مناقشة، حيث تُولي الإدارة العلمية اهتماماً بالغاً بتوقع جميع الحالات التي قد تسبب عدم وضوح في خطوات العمل، وتُدرج حلول لها مسبقاً في التعليمات التي تمليها على العاملين. ويُعني ذلك أن المدير، وليس العامل، هو من يستخدم مهارات الحكم في العمل. والنتيجة هي أن العاملين يتعرضون إلى حالات أقل من "اللاتعيين المُنتِج" ويُحرمون من أي فرص للحكم والإبداع التي كان يتيحها لهم عملهم في السابق.

على الرغم من تراجع مصطلح "التايلورية" في مجال الإدارة، إلا أن جوهر الإدارة العلمية للعمل، كما يشير إليه هاري برافرمان في كتابه "العمالة ورأس المال الاحتكاري" (1974)، يظل راسخاً كركيزة أساسية لتصميم جميع الأعمال.
وتُقدم إميلي جوندلسبيرجر في كتابها "الدوام" (2019) أمثلة على تطبيق الإدارة العلمية بشكل متطرف في أماكن العمل ذات الأجور المنخفضة، مثل مستودعات أمازون ومطاعم ماكدونالدز. لكن هذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض، حيث تتغلغل مبادئ الإدارة العلمية في مختلف القطاعات وتُشكل ملامح بيئة العمل الحديثة. لا تخلو حتى الوظائف المرموقة من عناصر الإدارة العلمية، مثل وظائف المبيعات التي يُحدَد لشاغليها نصوصاً جاهزة وأهدافاً معينة. والأهم من ذلك، يتخذ المديرون في هذه الوظائف القرارات مسبقاً، فلا يتسنى للعمال استخدام مهارة الحكم.

لطالما كانت الحرية والحكم في العمل من عوامل الصراع بين العمالة والإدارة. فإن ألقيت نظرة على تاريخ حركة العمل، ستجد أمثلة لا حصر لها على الصراع بين العمالة والإدارة حول من يملك سلطة تحديد طريقة أداء العمل. ومع ذلك، نادراً ما يؤثر هذا الصراع على نظرياتنا حول الوظائف الجيدة. يُمكن لتطبيق فلسفة كانط التي تدعو العاملين إلى استخدام الحكم، وليس مجرد اتباع القواعد، في حالات "اللاتعيين المُنتج" في وظائفهم، أن يحل هذه المشكلة. ولكن بالطبع، لا يكفي توفير حرية الحكم في الوظيفة لاعتبارها جيدة. فالوظائف التي توفّر فرصاً ومساحة للحكم والتفكير برواتب زهيدة ليست أفضل من نقيضتها. ولكن تُنبهنا نظرية كانط لمخاطر التسرع في خلق المزيد من الوظائف دون تقييم جودتها، وإلا سنواجه نتائج سلبية.