إن سيرة طه حسين وتلك العزاءات قد تعلمنا وتفتح أعيننا على ما قد يعيننا على تحمل ما تضنينا الحياة به

عزاءات طه حسين: قراءة في الأيام

مقال مينا وجدي


طه حسين من موقع Scene Now

بُنِيت حياة طه حسين من أولها على الفقد والعزلة؛ ففقد بصره وأخته الصغيرة وأخاه الذي أوشك أن يكون طبيبا، وساهم المناخ العام من حوله، البناء الاجتماعي للقرية، وفقدان بصره في عزلته وتهميشه، ذلك لأن المجتمع القروي الذي كان فيه يصب اهتمامه على شخصيات معينة مثل أخوه الطالب في الأزهر، ويمكن أيضا القول إن عزلة طه حسين فرضت عليه شيئا من السذاجة الطيبة التي بانت في صدمته المتكررة، مرة في زملائه في الكتاب حينما أخبروا شيخ الكتاب بما يقوله الفتى عنه وعريفه، ومرة أخرى مثلا حينما لم يفِ أبوه بوعده بذهابه للأزهر أو انقطاعه عن الكتاب. 

يمكن القول جملةً أن عالم الصبي كان ضيقا أشد الضيق، وأنه لم يكن من المفروض أن يصل لما وصل إليه من علم ومكانة إذا ما فكرنا بشكل منطقي، وذلك حتى ما فاق طموح أبيه الذي أراد له أن يصبح صاحب عامودٍ في الأزهر يلتف حوله الطلاب.

وبالتالي فإنه لمن المهم الإشارة لما جعل حياة الصبي تستمر بالشكل الذي أوصله في النهاية لكل ما تبوأه من مكانة أدبية وعلمية وعملية، وهنا نرى أن طه حسين نعم بعزاءات جعلت تقدمه ممكنا بل وهي التي فتحت أمامه الأبواب المغلقة، وهي القراءة، والصداقة، والإرشاد، والحب.. وهذا ما سيتناوله حديثنا وعن كيفية الاستفادة منها في حياتنا المعاصرة.

القراءة

يمكننا أن نصرف الكثير من الوقت والمجهود في بيان ذكاء طه حسين الخارق وقدرته على الحصول على هذا الكم الرهيب من المعرفة من خلال السمع فقط وكتابته هذا العدد من الكتب من خلال الإملاء، إلا أننا نركز في هذا الجزء من الحديث على الدور الذي لعبته القراءة في تشكيل عقلية طه حسين وطموحه.

لعب التهميش الذي صاحب طه حسين في طفولته دورا محوريا في التفاته للمعرفة بشكل عام، والعلوم الدينية بشكل خاص، ذلك بسبب الإجلال الظاهر لكل من يحمل شهادة العالمية من الأزهر أو حتى يطلب العلم فيه، وظهر هذا الأمر من خلال الاحتفاء بأخيه الفتى الشيخ وقت العيد، فكان هذا أول الأمر، ثم تعرضه نفسه للعلم في البداية واصطدام ما سمع من علمٍ بجهله وقع في نفسه موقع إعجاب ودهشة.

تطور الأمر بصاحبنا من أول الكتب التي تركها له أخوه ليستعد بها لذهابه للأزهر مثل الخريدة وألفية ابن مالك وغيرها، وصولا لكتب العلوم الفقهية والنحوية، ليصل به للكتب الأدبية في نهاية المطاف، التي استثارة عقله أيما استثارة جعلته يندفع نحو الجامعة المصرية ويحصل منها على الدكتوراة ثم فرنسا.

استطاعت القراءة – بالإضافة لعوامل أخرى – أن تنتشل طه حسين من بؤس شديد وهونت عليه وحدته قدر المستطاع، وذلك لأنه لم يكن يقرأ لمجرد القراءة وإنما يقرأ بفهم ويأخذ فيها وقته ليفهم ما استحال عليه فهمه من قبل.

يجدر الملاحظة أيضا أن قراءات طه حسين، أو اندفاعه نحو العلم كان في أطوار منه غير مشروط والعكس، أو بمعنى أدق في بعض المراحل كان اندفاعا نهما وفي الأحيان الأخرى اندفاعا معتمدا على قوى خارجية، مثل طبع الشيخ الذي يقرأ عليهم الدروس وعلمه أو مثلا ترشيح الشيوخ الذين يحبهم وأترابه، وعلى الناحية الأخرى فإن قراءته كانت شغوفة ملتهبة تتشوق للمزيد والمزيد مثلما حين أعطاه أخوه الشيخ الخريدة وألفية ابن مالك، فلم يكن أمامه غيرها فنزل عليها نزولا، وحينما اصطدم بدروس الأدب أول مرة في الأزهر ثم في دروسه في الجامعة المصرية.

لم تكن القراءة توفر لطه حسين فقط مكانة اجتماعية تجعل الأهل والجيران يفخرون به، وإنما كانت حقا تملأ عليه حياته وتسد الفراغ الكائن بين ضلوعه، الناتج عن عزلته الموحشة التي أوصلته في إحدى المرات للإجهاش في البكاء عند خروج أخيه الكبير من غرفته بالربع، وهو الذي لم يكن يحب أن يبين ما يختلجه من مشاعر أمام أخيه أو أهله، ربما لكبر الضعيف، وفي الأغلب – وهذا ما أميل إليه من رأي – لرقة طبعه فيؤثر أن يكظم فيض مشاعره ويكبتها فلا يثقل كاهل المحيطين بمساعدته، وهذا ما كان واضحا عند سؤال أهله له عن حاله رفقة أخيه فلم يذكر لهم سيئة واحدة من إهمال أو أو...

والواقع أننا لسنا أفضل حالا من صاحبنا، إذ تحيط بنا كلنا الوحدة من كل جانب، يتوقف ذلك بالطبع على عدة عوامل ظرفية وشخصية، إلا أننا نرى أن العوامل الظرفية في وقتنا هذا، وفي جيلي بالذات تغلب على العوامل الشخصية، فلو أردنا مثلا أن نقارن بين شاب معاصر وحيد وبين طه حسين، فسنجد الآتي: كلاهما يمضي وقتا في وجود أشخاص آخرين ووقتا آخر بدونهم، ويفتقران لمن يمكن أن يشاركونهم ما يحبون ويبغضون من أشياء وخواطرهم الحقة في مواضيع ترتبط بهم بجدية، وهذا شديد الانتشار في أيامنا هذه، إذ إننا قد نكون أكثر تواصلا من سابقينا من البشر، ونعرف أناسًا ونتفاعل معهم أكثر من أي جيل عرفته البشرية، إلا أننا رغم ذلك نفتقد لتواصل حقيقي يضرب في أعماقنا ومن خلاله تتلاقى أرواحنا.

يمكن القول كخلاصة إن القراءة هي محرك رئيسي في خروجه عن الطور المعتاد من أطوار المصير لمن هم مثله، وأنها أيضا أعطته مساحة من التواصل الوجداني مع آخرين حتى وإن لم يكونوا حوله فعلا، وهذا كان جليا في ارتباطه وذكره الدائم لأبي العلاء المعري وأشعاره، وإضافة إلى كل ذلك إنها – القراءة – كانت مفتاحا سحريا استطاع من خلاله الصبي أن يفتح الباب ليتعرف على من هم يشبهونه في التوجه المعرفي والأهواء، ذلك الباب الذي ساعد كثيرا في نموه المعرفي والشخصي.

الصداقة

اختلفت أيام الصبي في الربع، بعدما انفتح في البكاء حزنا على وحدته إثر خروج أخيه وأصدقائه دونه، حينما أتاه ابن خالته وسكن معه الربع، ومن هنا تبدل حاله فكانوا يقرأون ويلهون معا، وأشار مباشرة للتأثير الذي تركه دخول ابن خالته ذاك لحياته البائسة في الربع، والواقع أن نمط صداقات طه حسين، أو بشكل أدق الصداقات التي ذكرها، كانت صداقات ذات عمق، إذ يشارك الصديق صديقه ما يهمه حقا، وليس ما يبدو مهما أو مثيرا، غابت سيرة المصلحة و"الروعة" عن صداقاته التي ذكرها، فما كان يُقبل على أحدٍ لأنه محبوب مثلا، أو لأنه "صايع" وإلى آخره من صيحات الشعبية الاجتماعية لجيلنا الحالي، تلك التي تحدد أشياء كثيرة عليها تبنى الكثير من العلاقات تحت شعار الصداقة.

يظهر أيضا في قصة الأيام، أن ذلك لم يكن خاصا به وحده، فكان أخوه وأصحابه يجلسون سويا ويدخل عليهم دخيلٌ، يجالسونه ويسمعونه ويضحكون منه أحيانا وينتفعون منه أحيانا أخرى، إلا أنهم لم يعتبروا أولئك المعارف أصحابا.

ومن المهم الإشارة أيضا لفكرة المشاركة في مسيرة النمو مرات ومرات، إذ إنها تتعارض حتما مع الفكرة المنتشرة كأنها آية إلهية حول فردية الرحلة والطريق وحتمية الوحدة إذا ما أراد المرء أن يصل لشيء ما، أو الخطاب غير الناضج، الذي يكون مبنيا غالبا على ردات فعل ما بعد الصدمة، على كوننا مجرد فترات في حياة بعضنا بشكل لا يشير لسنة الحياة من التغير فقط وإنما يجعل المرء يشكل في الصداقات التي يكونها وينتظر نهايتها بل وينتقل بينها كأنما يبدل فردتي حذائه.

ساهم أصحاب طه حسين في نموه في الأزهر وفي قراءته، إذ كانوا يتشاركون ما يشغفون به حقا سويا وهذا أمر بالغ الأهمية في مسيرة النمو، ثم في الجامعة وفي فرنسا، وكان ذلك ممكنا بسبب المشاركة والتوجه نحو دروس من يعجبون بهم، الذين في نهاية الأمر يرشدونهم إلى ما يروي ظمأهم للمعرفة.

الإرشاد

لعب المرشدون دورا محوريا في طه حسين كلل ما فات من مراحل وساهم بشكل لا يستهان به نهائيا في الآتي، والمرشدون هم أناسٌ أكبر منا في جانب ما، روحيا أو معرفيا أو عمرا وهكذا، وبالتالي فإن الفارق بيننا وبينهم، فارق الخبرة، يتيح لنا أن نرتكن إليهم كلما ضاق بنا الحال مثلا أو كلما حدقنا في المجهول فيمدون لنا أيديهم ويخطون بنا إليه وعبره، وحتى حينما نكون على الطريق وفي المسيرة فإنهم يساعدون جدا في التحسين والتعديل والإعلاء.

يفتقد جيلنا الحالي بشكل كبير للإرشاد، على كل الأصعدة قد يكون أقلها العملي، وذلك بالطبع بسبب تراجع فكرة السلطة الأبوية في العالم لصالح الفردانية وما يسمى بالاستقلال الذاتي والنسوية وإلى آخره، وبالتالي فإننا كثيرا ما نحدق في الفراغ ولا نجد اليد التي تمسك بنا، بل وفي بعض الأحيان نرفضها.

بيَّن طه حسين ذلك التأثير في علاقته مثلا بالشيخ المرصفي في مرحلة معينة، واشتد ذلك التأثير في علاقته بالأستاذ أحمد السيد لطفي والشيخ عبد العزيز جاويش ثم إميل دوركهايم في فرنسا، الأول أدخله في كتابة المقالات وعالم المطربشين، والثاني دفعه ليدرس في فرنسا، والثالث كان معلمه إلا أنه توفيَ قبل مناقشة رسالته، والحقيقة أن أثرهم كان بالغا في حياة طه حسين وكان الشيخ عبد العزيز جاويش بالذات الذي كان كما ذكرت قبلا سببا في سفره لفرنسا، ذلك السفر الذي بدوره قد أعطى طه حسين فرصة لقاء السيدة سوزان التي صارت حبه فزوجته، والتي لعبت دورا مهما جدا أغدق عليها من أجله آيات العرفان بالجميل.

الحب

"منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم" 

تشبه كتابة السيرة الذاتية مراجعة الماضي بشكل أكثر عقلانية، وبالتالي فإنها تعطي الفرصة للتأمل وإعادة تقدير الأمور، وبالتالي فإنها قد تعطي قدرا من الواقعية على الأحكام، وعليه فإن طه حسين بعدما قطع شوطا طويلا من العمر يكتب سيرته تلك ويذكر السيدة سوزان بالجملة المقتبسة تلك، فماذا منحته تلك المرأة؟

لم يصف طه حسين باعتباره عملية مرهفة الحس تملؤها الإرهاصات العاطفية والتشنجات الشاعرية وما إلى آخره مما يميز الحب المعاصر، ذلك الحب الذي يأتي بأوهام وصور يجب تطبيقها لأننا تجرعناها من الأفلام والأشعار والأغاني، مما يجعلنا نهتم أكثر بتطبيق تلك الصور أكثر من اختبار الحب نفسه، كعملية نمو مستمر يتحد طرفاه مع استمرار كل واحد فيهما بالشعور بذاتيته، وقد أحسن إريك فروم الفيلسوف وعالم النفس الكتابة عنه في كتابه "فن الحب".

وبالتالي فإن الحب الذي عاشه طه حسين يكمن في قراءة السيدة سوزان مقرراته الدراسية عليه من ليسانس ودكتوراة ودراسات عليا، وإنه أملاها رسالة الدكتوراة الخاصة به، يتجلى الحب أيما تجلي حينما تترك بلدها وتعيش معه في مصر وفيما عاشاه سويا من شدائد ومن إنجازات سويا، ليس من "لحظات"، وإنما من حياة كاملة سمحت لهما بالنمو سويا، وكان مساعدو صاحبنا في تصريف أمور حياته كثر، إلا أنه قد وصفها هي وحدها بأنها "المرأة التي أبصرت بعينيها!"، وأن قد شعر أنه "منذ اليوم سيخلق خلقا جديدا".

خلاصة القول، إن سيرة طه حسين وتلك العزاءات قد تعلمنا وتفتح أعيننا على ما قد يعيننا على تحمل ما تضنينا الحياة به، وأكثر من ذلك فإن ذلك المربع فهو سماد للنمو الحقيقي، الذي يختلف عن الثقافة المادية والفردانية السائدة.