كان شوبنهاور باحثًا عن المتعة لكنه تحرر من ذلك الوهم، ومن ثم حطَّم أوهام البشر واعتقاداتهم وآمالهم ومُثُلهم الشاعرية

بجوار جثة شوبنهاور

قصة لجي دي موباسان

ترجمة: رامي قطب

عن الترجمة الإنجليزية لقصص موباسان المنشورة على Gutenberg

جي دي موباسان (1850 - 1893) روائي فرنسي يعد أبًا للقصة القصيرة الحديثة، حتى قال عنه بعض النقاد "إن القصة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة القصيرة"، كتب ديوان شعر ونحو مائتي وخمسين قصة قصيرة وست روايات.

تميز بسخريته اللاذعة وتشاؤمه تجاه الناس، مع تعاطفه الواضح مع الفقراء.

أما شوبنهاور الذي تتناوله القصة فهو الفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور (1788 – 1860)، والذي كان صاحب فلسفة تشاؤمية واشتهر بكونه محطمًا للعقائد والأفكار بلا شفقة.

وقد كتب موباسان هذه القصة التي تحكي عن أحد تلاميذ شوبنهاور حينما قابله الراوي ورآه يحمل كتابًا فيه تعاليم شوبنهاور وتعليقات بخط يده، وحكى له قصة حدثت بعد وفاته لا يعرفها الكثير، فهل الموت كان نهاية شاعرية فعلًا؟ وهل نجح شوبنهاور في نقل أفكاره في تحطيم المقدسات إلى تلاميذه؟


شوبنهاور، عن school of life

بجوار جثة شوبنهاور

كان يحتضر ببطء كالمعتاد لدى مرضى السل، وكنت أراه يوميًّا في تمام الساعة الثانية جالسًا أسفل نوافذ الفندق على مقعد في المنتزه يتأمل البحر الهادئ.. يمكث بعض الوقت لا يتحرك رغم حرارة الشمس ملقيًا ببصره إلى البحر الأبيض المتوسط، وبين الحين والآخر ينظر تجاه الجبال التي تنطح السحاب بقممها الشامخة في مدينة (منتون)، بعدها وبحركة بطيئة للغاية يضع إحدى رجليه الطويلتين فوق الأخرى، تلك الرجلين اللتين تبدوان كعظمتين ترفرف حولهما قماشة بنطاله من شدة نحولهما.

وبعدها يفتح كتابًا، دائمًا نفس الكتاب ثم يكف عن الحركة وينهمك في القراءة بعينه وعقله، بل كل جسده الضعيف يبدو كما لو كان يقرأ، كل روحه تذوب في هذا الكتاب، قرابة الساعة حتى يدفعه الهواء البارد للسعال قليلًا، حينئذ يقوم ليدخل الفندق.

كان ألمانيًّا طويل القامة ذا لحية فاتحة اللون.. كان يفطر ويتعشى داخل غرفته، ولم يكن يتحدث إلى أي أحد.

جذبني فضول غامض إليه، ويومًا ما جلست بجانبه ومعي كتاب أيضًا حتى يبدو الأمر طبيعيًّا، وكان الكتاب يحوي بعض قصائد موسيه، وبدأت أتصفح قصيدته "رولا"، وفجأة قال جاري بفرنسية جيدة:

- هل تعرف الألمانية يا سيدي؟

- لا يا سيدي، على الإطلاق.

- يؤسفني ذلك، حيث إن الصدفة قد جمعتنا جنبًا إلى جنب وكان يمكنني أن أعيرك وأريك شيئًا لا يقدر بثمن وهو هذا الكتاب الذي بين يدي.

- وما هو إذا سمحت؟

- إنه نسخة من كتاب معلمي شوبنهاور، بتعليقات كتبها بيده على كل الهوامش كما ترى، كلها بخط يده.

أخذت منه الكتاب بتقدير ونظرت إلى تلك الأشكال غير المفهومة بالنسبة إليّ، ولكنها كشفت عن الأفكار الخالدة لأعظم محطم أحلام عاش على الأرض.

وكلمات موسيه تطرق عقلي:

"هل وجدت يا فولتير أن الموت نعمة؟

وهل تحوم ابتسامتك المرعبة فوق عظامك البيضاء؟"

وقارنت لا إراديًا بين السخرية الطفولية والسخرية الدينية لفولتير وبين السخرية اللافتة للفيلسوف الألماني الذي صار تأثيره لا يمحى!

فلنغضب ولنحتج، هيا نستاء أو ربما نتحمس، فشوبنهاور قد وصم الإنسانية بختم احتقاره وخيبة أمله!

كان شوبنهاور باحثًا عن المتعة لكنه تحرر من ذلك الوهم، ومن ثم حطَّم أوهام البشر واعتقاداتهم وآمالهم ومُثُلهم الشاعرية، كما أسقط عبادة النساء باسم الشهامة، وقتل الحب. لقد سحق وهم القلوب وأتم أضخم مهمة حاول الشك إتمامها يومًا. لم يدَع شوبنهاور شيئًا على حاله بروحه الساخرة، فقد استنزف كل شيء.

وحتى اليوم فإنه حتى الذين يكرهونه يحملون في نفوسهم بعضًا من أفكاره.

قلت للرجل الألماني: "إذن، كنت تعرف شوبنهاور عن قرب؟"

ابتسم في حزن وقال: "حتى وقت وفاته، يا سيدي".

وحدثني عن الفيلسوف وعن الانطباع الخارق للعادة الذي كان يتركه هذا الكائن الغريب على كل من اقترب منه.

وأخبرني عن لقاء ذلك العجوز المحطم للاعتقادات مع سياسي فرنسي، جمهوري متعصب، كان قد أراد أن يقبس قبسة من هذا الرجل، فوجده في حانة صاخبة، جالسًا وسط تلاميذه، جافًا، مجعد الوجه، يضحك ضحكة مميزة لا تُنسى، يهاجم ويمزق بكلمة واحدة الأفكار والمعتقدات، كما يمزق الكلب بعضة واحدة من أسنانه الجسد الذي بين يديه.

نقل إليّ تعليق ذاك الفرنسي على هذه المقابلة عندما غادر مندهشًا ومرعوبًا: "ظننت أني قضيت ساعة مع الشيطان".

ثم أضاف:

"كان له، بالفعل يا سيدي، ابتسامة مخيفة، كانت ترهبنا حتى بعد موته. أستطيع أن أحدثك عن حادثة لا يعرفها الكثيرون إن كانت تهمك".

وبدأ بصوت متعب، تقطعه نوبات السعال المتكررة.

"كان قد توفي شوبنهاور للتو، واتفقنا على أن نحرس الجثمان دوريًا، اثنين اثنين، حتى الصباح.

كان مضطجعًا في شقة كبيرة، بسيطة، واسعة ومظلمة، وكانت هناك شمعتان تحترقان على الطاولة بجانب سريره.

عند منتصف الليل توليت المراقبة، برفقة أحد رفاقنا، بينما غادر الصديقان اللذان حللنا محلهما الشقة، وجئنا وجلسنا عند قدمي السرير.

لم يتغير وجهه. كان يضحك. ذلك التجعيد الذي كنا نعرفه جيدًا ما زال يحوم حول زوايا شفتيه، وبدا لنا أنه على وشك أن يفتح عينيه، وأن يتحرك ويتكلم. أحاط بنا فكره، أو بالأحرى أفكاره. شعرنا بأنفسنا أكثر من أي وقت مضى منغمسين في جو عبقريته، مسيطرًا علينا، وبدت سطوته أكثر سيادة الآن بعد موته. امتزج شعور الغموض مع قوة هذه الروح الفذة.

تختفي أجساد هؤلاء الرجال، لكن أنفسهم تبقى؛ وفي الليلة التي تلي توقف نبضات قلوبهم أؤكد لك، سيدي، إنهم مرعبون.

وبهمسات أخذت أتحدث مع رفيقي عن شوبنهاور، مستحضرين بالذاكرة بعض أقواله وصياغاته، تلك المقولات المذهلة التي تشبه شعلات من اللهب تضيء، بكلمات قليلة، في ظلمة الحياة المجهولة.

قال رفيقي: "يبدو لي أنه سيتكلم".

وحدقنا بقلق يمتزج بالخوف في الوجه الساكن، ذاك الوجه الذي لا يفارقه الضحك الأبدي وتدريجيًا، بدأنا نشعر بالقلق حتى صرنا على حافة الإغماء. تلعثمت:

"لا أدري ما يحدث لي، ولكنني أؤكد لك أنني لست على ما يرام".

وفي تلك اللحظة لاحظنا أن هناك رائحة غير طيبة تنبعث من الجثة.

اقترح رفيقي أن نذهب إلى الغرفة المجاورة، ونترك الباب مفتوحًا؛ ووافقت على اقتراحه.

"أخذت إحدى الشمعات التي كانت تحترق على الطاولة، وتركت الثانية خلفي. ثم ذهبنا وجلسنا في الطرف الآخر من الشقة المجاورة، في موضع يسمح لنا برؤية السرير والجثة مرئية بوضوح تحت الضوء.

"ولكنه ما زال يسيطر علينا. كأن جوهره غير المادي، صار حرًا، عظيمًا ومسيطرًا، يحوم حولنا. وأحيانًا أيضًا، كانت رائحة الجثة المتحللة تصعد إلى أنوفنا وتخترقنا، مثيرة للاشمئزاز وغير مفهومة.

"فجأة سرت في عظامنا قشعريرة فقد انبعث صوت خافت من غرفة الموت. فثبتنا نظراتنا على الجثمان فورًا، ورأينا، نعم يا سيدي، رأينا جلِّيًّا، نحن الاثنان، شيئًا أبيض يتحرك على السرير، ويسقطُ على السجادة، واختفى تحت الكرسي ذي الذراعين.

"قبل أن نفكر في أي شيء قفزنا من مقاعدنا، منبهرين بالموقف المرعب، مستعدين للهروب. ثم حدقنا في بعضنا البعض. كنا شاحبين بشكل مروع. كانت قلوبنا تخفق بقوة تكفي لرفع ملابسنا على صدورنا. كنت أول من تكلم قلت:

"هل رأيت؟"

"نعم رأيت".

"هل يمكن أن يكون لم يمت؟"

"كيف والجسد يتحلل؟"

"ماذا نفعل؟"

قال رفيقي بصوت متردد:

"علينا أن نذهب وننظر".

أخذت الشمعة ودخلت أولًا، ناظرًا في جميع الزوايا المظلمة في الشقة الكبيرة. لم يكن هناك شيء يتحرك الآن، واقتربت من السرير. لكني توقفت مصدومًا بالذهول والخوف:

لم يعد شوبنهاور يضحك! كان يعبس بطريقة مروعة، بشفتين مضغوطتين وفجوات عميقة في خديه. تلعثمت:

"لم يمت!"

ولكن الرائحة الفظيعة صعدت إلى أنفي وخنقتني. لم أتحرك من مكاني، وظللت أحدق به بثبات، مرعوبًا كأني أمام شبح.

ثم اقترب رفيقي، بعد أن أخذ الشمعة الثانية، وانحنى إلى الأمام، ثم لمس ذراعي دون أن يقول كلمة، فتبعت نظرته، ورأيت على الأرض، تحت الكرسي بجانب السرير، شيئًا أبيض على السجادة المظلمة، ومفتوحًا كأنه يعض، إنه طقم أسنان شوبنهاور الصناعي.

تحلل الجثة، خفف ضغط الفكين عليه مما جعله يقفز من الفم.

"لقد ارتعبت يومها حقًا يا سيدي".

وبينما كانت الشمس تهبط نحو البحر المتلألئ، نهض الألماني المصاب بالسل من مقعده، وودعني بإشارة رأس، وانسحب إلى الفندق.