ليس الأناركيين سوى أناس يريدون تشكيل فلسفة اجتماعية وسياسية من الميل الطبيعي والعفوي للبشر في الترابط معًا من أجل نفعهم المشترك

تمهيد الأناركية على أرض الواقع

تمهيد كتاب "الأناركية على أرض الواقع" (1973) لكولن وورد

ترجمة حسين الحاج


"لا شئ لتعلنه؟"، "لا شئ"، حسنًا. ثم أتت الأسئلة السياسية. يسألني "هل أنت أناركي؟"، أجيب "... أولاً، ما الذي نعرفه تحت مصطلح الأناركية؟ الأناركية عملية، نظرية، تجريدية، فردية، اجتماعية؟ عندما كنت شابًا كان لكل ذلك معنى". وهكذا خضنا في مناقشة ممتعة، وقضيت أسبوعين كاملين على جزيرة إليس نتيجة لذلك.

~ فلاديمير نابوكوف، بْنين

بما ستشعر إذا اكتشفت أن المجتمع الذي تود حقًا أن تعيش فيه كان موجودًا بالفعل بغض النظر عن قلة من العقبات المحلية مثل الاستغلال والحرب والاستبداد والمجاعات؟ يحاجج هذا الكتاب أن المجتمع الأناركي الذي ينظم نفسه بدون سلطة موجودٌ دائمًا مثل بذرة تحت الثلج مدفونة تحت ثقل الدولة وبيروقراطيتها، والرأسمالية وفسادها، الامتياز الطبقي وظلمه، القومية وولاءاتها الانتحارية، والخلافات الدينية ونزعتها الانفصالية الخرافية.

يقدم التأويل المطروح هنا بين العديد من التأويلات الممكنة للأناركية أنها تصف أسلوبًا للتنظيم الإنساني راسخ في تجربة الحياة اليومية، حيث تمارس جنبًا إلى جنب مع الاتجاهات السلطوية المهمينة في مجتمعنا ورغمًا عنها، بعيدًا عن كونها رؤية تأملية لمجتمع المستقبل. هذه ليست رؤية جديدة للأناركية. لقد رآها جوستاف لاندور ليست تأسيسًا لشيء جديد بل كإدراك وإعادة لشيء كان حاضرًا بصفة دائمة، حيث عاشت إلى جانب الدولة حتى ولو دفنتها ودمرتها. وأدلى الأناركي الحديث بول جودمان قائلاً أن "لا يمكن للمجتمع الحر أن يكون استبدال المجتمع القديم بمجتمع جديد، لكنه اتساع مجالات الفعل الحر حتى تصبح الغالبة في الحياة الاجتماعية".

قد تظنون أن وصف الأناركية بالتنظيم يجعلني متناقضًا عن قصد، ربما تعتبرون الأناركية طبقًا للتعريف هي نقيض التنظيم، لكن في الحقيقة أن الكلمة تعني شيئًا مختلفًا تمامًا، إنها تعني غياب الحكومة وانعدام السلطة. إنها الحكومات في النهاية التي تصنع القوانين وتفرضها كي تسمح للأثرياء أن يحتفظوا بالسيطرة على امتيازاتهم الاجتماعية من أجل استعباد المعدمين. وإنه مبدأ السلطة في النهاية التي يضمن أن الناس ستعمل عند غيرهم لأغلب حياتهم، ليس لأنهم يستمتعون به أو لأنهم يحوزون أي سيطرة على أعمالهم، بل لأن ذلك وسيلتهم الوحيدة للرزق، إنها الحكومات التي تعد الحرب وتشنها حتى لو كنتم مكرهين على معاناة تبعات ذهابهم إلى الحرب.

لكن هل هي الحكومات فقط؟ إن نفوذ الحكومات حتى في أقصى الديكتاتوريات المطلقة يقوم على موافقة المحكومين. ولماذا يوافق الناس على أن يحكموا؟ إنه ليس بدافع الخوف فقط، ما الذي يمكن لملايين الناس أن يخشوه من مجموعة صغيرة من السياسيين المحترفين ومترزقيهم الأقوياء؟ إنه بسبب أنهم يقبلون نفس القيم التي يقبلها حكامهم، والحكام والمحكومين كلاهما يؤمن بمبدأ السلطة والهرمية والقوة، حتى أنهم يشعرون بأنهم مميزون عندما يمكنهم الاختيار بين تصنيفات بديلة للنخب الحاكمة مثلما يحدث في جزء صغير من العالم، ورغم ذلك، يواصل المجتمع نشاطه في حياتهم العادية بفضل العون المتبادل والترابط الطوعي.

ليس الأناركيين سوى أناس يريدون تشكيل فلسفة اجتماعية وسياسية من الميل الطبيعي والعفوي للبشر في الترابط معًا من أجل نفعهم المشترك. في الحقيقة، الأناركية هو الاسم المعطى للفكرة القائلة بأنه من الممكن والمرغوب للمجتمع أن ينظم نفسه بدون حكومة. يعود أصل كلمة أناركية إلى اليونانيين، وهي تعني "بلا سلطة"، ومنذ زمن اليونانيين ظهر دعاة للأناركية تحت مسمى ما أو آخر. كان ويليام جودوين أول منظر في العصور الحديثة يطور نظرية منظمة حول الأناركية مباشرة بعد الثورة الفرنسية. ثم أتى بعده الفرنسي جوزيف برودون في منتصف القرن التاسع عشر وطور نظرية أناركية عن التنظيم الاجتماعي ينشأ بين وحدات صغيرة متحدة معًا لكن بدون سلطة مركزية، ثم تبعهم الثوري الروسي ميخائيل باكونين الذي عاصر كارل ماركس واختلف معه. مثل ماركس أحد أجنحة الحركة الاشتراكية التي ركزت على الاستيلاء على سلطة الدولة، بينما مثل باكونين الجناح الآخر الذي سعى إلى تحطيم سلطة الدولة. سعى روسي آخر بيوتر كروبوتكن لتأسيس قاعدة علمية للأفكار الأناركية عن طريق إثبات أن العون المتبادل والتعاون الطوعي هو ميل قوي في الحياة الإنسانية مثل العدوانية والرغبة في السيطرة.

ترد تلك الأسماء الأناركية الشهيرة في هذا الكتاب، وذلك لأن ما كتبوه يعبر عن أوضاعنا ببساطة. لكن هناك آلاف الآخرين المجهولين من الثوريين والدعاة والمعلمين الذين لم يكتبوا كتبًا لأقتبس منها لكن حاولوا نشر فكرة وجود مجتمع بلا حكومة في كل بلد في العالم تقريبًا، وخصوصًا في الثورات التي وقعت في المكسيك وروسيا وإسبانيا، لكنهم هزموا في كل مكان، وكتب المؤرخون أن الأناركية ماتت عندما اقتحم جنود فرانكو برشلونة في 1939.

لكن الأعلام الأناركية رفعت من جديد في جامعة السوربون في باريس 1968، وفي نفس العام شوهدت في بروكسل وروما ومكسيكو سيتي ونيويورك وحتي في كانتربيري. وفجأة صار الناس يتحدثون عن الحاجة إلى نوع جديد من السياسة يقرر فيها الرجال والنساء والأطفال العاديون مصيرهم ويصنعون مستقبلهم، ويتناقشون حول الحاجة إلى اللامركزية الاجتماعية والسياسية وسيطرة العمال على الصناعة وسلطة الطلاب في المدارس وتحكم المجتمع في الخدمات الاجتماعية. أصبح للأناركية موقفًا في التنظيم الإنساني أكثر صلة بنا اليوم عما بدت عليه في الماضي كانحراف تاريخي رومانسي.

طور التنظيم ومشكلاته قائمة طويلة وممتدة من الأدبيات بسبب أهمية الموضوع لتراتبية الإدارة الحكومية والصناعية. قليل من تلك الأدبيات الواسعة تقدم أي شيء ذي نفع للأناركيين إلا بالنسبة لدوره كناقد أو مخرب محطم للتنظيمات التي تتحكم في حياتنا. وبينما هناك آلاف من طلاب الحكومة ومعلميها، قليلاً ما نجد طلابًا أو معلمين للأناركية. ثمة كم هائل من الأبحاث في أساليب الإدارة، لكن لا نكاد نجد بحثًا في التسيير الذاتي تقريبًا. هناك مكتبات كاملة ودورات تعليمية باهظة في الإدارة الصناعية، ومستشارين إداريين يتقاضون أتعابًا كبيرة جدًا، لكن نادرًا ما نجد أي كتاب أو دورة أو أجر لمن يريدون التخلص من الإدارة وإحلال سلطة العمال الذاتية محلها. تباع العقول إلى المنظمات الكبيرة، وعلينا أن نقيم نظرية اللاحكومة واللا-إدارة من ذلك التاريخ وتلك التجارب التي بالكاد جرى تدوينها لأن لا أحد ظن أنها مهمة إلى هذه الدرجة.

يقول المؤرخ المعماري ويليام ريتشارد ليثابي، "يكتب الناجون التاريخ، ويكتب الأثرياء الفلسفة، أما الغارقون والمفلسون فليس لديهم إلا التجربة". لكن بمجرد أن تبدأ في النظر إلى المجتمع الإنساني من وجهة النظر الأناركية تكتشف أن البدائل موجودة بالفعل، في صدوع بنية السلطة المهيمنة. إذا أردت بناء مجتمع حر، فالأجزاء كلها بين يديك.