أما ذلك الشيء الذي يسمونه الروح، يقولون بأنه لا يموت أبداً وأنه يعيش للأبد ويمنّي لأبد الأبدين.

كتّاب عشقهم فنسنت فان جوخ

مقال ماريلا جوزوني  

ترجمة: آيم عمر

نشرت المقالة على موقع Literary Hub.


 لوحة الكتب الصفراء لفان جوخ

تشتهر لوحات فنسنت فان جوخ بعالميتها حتى في أبعد أصقاع العالم، لكن كثيرًا ما غطت جوانب قصة حياته المشبوبة بالأحداث الدراماتيكية على الغنى والتعقيد الكامن في أعماله. في كتابي "كتب فنسنت"، حاولت الاستقصاء عن هذا الجانب من فنه بأن تناولت الكتب التي أحبها لأنها تظهر لنا الدور الحاسم الذي لعبه الأدب في حياته وأعماله.

كان فان جوخ قارئًا نهومًا وبلغات متعددة، رجل لا يقدر على العيش من دون الكتب. التهم خلال حياته القصيرة مئات الكتب بأربع لغات، تؤلّف قرونًا من شتى الفنون والآداب. كانت عاداته القرائية بمثابة المرآة التي عكست جوانب شخصيته المتعددة- تاجر أعمال فنية، واعظ، رسام- كما أوحت لنا عن توقه إلى التعلم والحوار وشق طريقه الخاص لمنفعة البشرية.

أي من بين هذه الكتب الأقرب إلى وجدانه؟ لقد انتقيت ستة منها تكشف لنا وجهًا حقيقيًا لهذا الفنان الذي أصبحت مشاهد حياته مخلدة في أذهان محبي الفن. فنسنت هذا، بعيد كل البعد عن الفنان الطائش الذي عرفناه. دعني أصطحبك في جولة تعريفية بهذه الكتب: تمرين للتعرُّف على صورة الفنان على حقيقته. 

جول ميشليه (1798–1874)، تاريخ الثورة الفرنسية (1847–1853)، في 9 مجلدات، باريس: ليفاسور، استِهلالة طبعة 1868

يونيو/ حزيران 1880: "ممتاز -الآن ما عدت أحظى بمثل هذه المناظر- أما ذلك الشيء الذي يسمونه الروح، يقولون بأنه لا يموت أبداً وأنه يعيش للأبد ويمنّي لأبد الأبدين. لذا بدلًا من أن أذبح نفسي شوقًا إلى الديار، أقنعت نفسي أن الأرض كلها بلاد الإنسان ودياره. وبدلًا من تسليم نفسي لوهدة اليأس، تركت نفسي تنقاد إلى الملانْخوليا الفاعلة ما دمت أملك بقية نشاط، أو بمعنى آخر، اخترت الملانخوليا التي تستحث الأمل والإلهام والسعي في النفس البائسة والمكلومة والفاترة. لذا تدارست ذلك الصنف من الكتب الجادة، مثل الكتاب المقدس وكتاب الثورة الفرنسية لميشليه، ثم إنني عكفت في الشتاء الماضي على قراءة شكسبير وبعضًا من ف. هوغو وديكنز وبيتشر ستو..."

هارييت بيتشر ستو (1811–1896)،كوخ العم توم (1851–1852)، لندن: روتليدج وأبنائه، طبعة 1880

حين بلغ فنسنت السابعة والعشرين من عمره شد رحاله إلى المنطقة التعدينية في مدينة بوريناج البلجيكية. اختار العيش وسط عمَّال المنجم، ساعيًا لأن يكون سلوانًا لعمال العالم التحت الأرضي. لكنه بعد مرور عام ونصف عام يصل إلى نهاية مسدودة. يغلبه الإنهاك فيقرر قطع صلته بالعالم الخارجي والانكباب على قراءة الكتب.

كتابان لعبا دورهما الحاسم في تشكيل فترة ولادته الجديدة كفنان: تاريخ الثورة الفرنسية (في تسع مجلدات)، بقلم جولز ميشليه أعظم مؤرخي فرنسا الرومانتيكيين، وكوخ العم توم لهارييت بيتشر ستو، الرواية التي مهدت طريق الحرب ضد العبودية في الولايات المتحدة وخارجها.

صبغ ميشليه أسلوبًا جديدًا في الكتابة التاريخية، وبمزية بعدها الواقعي الفريد مكَّن لشعبه الوقوف في مركز النشاط الثوري. كذا فعل فنسنت أيضًا حين نهج نهجه، بأن وضع وجوه أناس رسمهم في مركز لوحاته التصويرية. ميشليه نفسه وصف بيتشر ستو بأنها "المرأة التي سطَّرت أعظم نجاح في زمنها، وقد تُرجم إلى لغات كثيرة وحقّق مقروئية سعت العالم كله، بعد أن أصبح إنجيل حرية بالنسبة لعرق مضطهد."

ما القاسم المشترك بين هذين العملين؟ الكفاح لأجل الحرية والاستقلال؛ تأكيد أهمية الأدب الأخلاقية؛ وتصوير محنة الفقراء والمحرومين. كلا الكتابين مثّلا إنجيلي حداثة لفنسنت في فترة شكٍ عظيم أعقب رفضه لـ"المؤسسة الدينية"؟

"خذ ميشليه وبيتشر ستو كمثال، إنهما لا يقولان أن الكتاب المقدس لم يعد صالحًا لهذا الزمان، لكنهما يبيّنان لنا مدى انطباقه على يومنا هذا وعصرنا، الذي هو حياتك أنت وحياتي...".

ألفريد سينسيه (1815–1877)، سيرة حياة وعمل ج. ف. ميليه، باريس: كوانتين، 1881

مارس/ آذار 1882: "أرعني سمعك ثيو، أي داهية هو ميليه هذا! بحوزتي مؤَلَّف سينسيه الكبير استعرته من دي بوك. ما أغبطني حين يجن الليل فاستيقظ وأشعل النور ثم انكب على قراءته.. إليك بعض الكلمات التي أذهلتني وأثّرت فيّ مما لفظه سينسيه على لسان ميليه. وهو أن الفن كفاح يلزمك أن توهب حياتك كلها لأجله".

في هذه الحقبة من حياته كان فنسنت يعيش في لاهاي. تتأثر نفسه بمقولات جان فرانسوا ميليه بحسبما جاء في سيرة حياة وعمل ج. ف. ميليه الذي أهداه مؤلفه ألفريد سينسيه إلى الرسام الفرنسي الواصف لحياة الفلاحين. شخصية ميليه المَلَنْخوليا شحذت بصيرة فنسنت لأنه وجد أوجه تشابه بينه وبين مُلهمه. حبه لميليه دفعه إلى وضع جدول عمل طموح مكرس حول رسم الفلاحين.

جي دي موباسان، بيل آمي، باريس: فكتور هافارد، 1885

أكتوبر/ تشرين الأول 1887: "بإمكاني أن أحصي لك سنوات كثيرة في حياتي فقدت فيها أدنى رغبة للضحك، فلننح جانبا ما إن كنت المُلام على ذلك أم لا، فأنا في الأخير محتاج إلى الضحك القوي. وقد وجدت ضالتي في نصوص جي دي موباسان...".

وجّه فنسنت رسالته هذه من باريس إلى أخته فيلامين، العمل المقصود هو تحفة موباسان (بيل آمي)، الكتاب الذي احتّل مكانه الرئيس في عمل فان جوخ الحياة الساكنة مع تماثيل الجص (Stilleven met gipsbeeldje, 1887). يعطي فنسنت أخته "الصغرى" نصائح حول القراءة، مقترحاً عليها بعض المؤلفين الفرنسيين الطبعانيين أمثال إيميل زولا وإدموند دي جونكور وجي دي موباسان الذين ضمّن أعمالهم إلى عمله الفني أكداس الروايات الفرنسية Piles of French Novels.

اسم رواية موباسان (بيل آمي) هي كنية بطلها جورج دوروي، الذائع صيته لدى أوساط نساء الطبقة الراقية beau-monde في باريس. يستعمل نجاحه مطيّة لبلوغ غاياته الاجتماعية. من بلدة آرل، يكتب فنسنت إلى أخيه ثيو مازحاً "لم أبلغ بعد شطارة بيل آمي،" قاصداً معاناته لإقناع نساء بروفنس بالجلوس أمامه لتصويرهن.

بيير لوتي (1850 - 1923)، مدام الأقحوان، باريس: طبعة دي فيجارو، كالمان-ليفي، 1888 

يونيو/ حزيران 1888: "لتوي قرأت مدام الأُقْحُوَانُ Madame Chrysanthème لبيير لوتي، به بعض الطرائف الهامة عن اليابان..". كتب فنسنت رسالته من بروفنس إلى صديقه إيميل برنارد القاطن بباريس، التي اجتاح دوائرها الفنية موجة الهوس الياباني.

اختار لوتي أن تجري وقائع الدراما الرومانسية (التي ألهمت عمل بوتشيني مدام بترفلاي) في ناجازاكي اليابانية يروي فيها قصة ضابط فرنسي يتزوج امرأة يابانية. صار فنسنت يعتبر بروفنس قطعة من اليابان مثلما غزت مدام الأُقْحُوَانُ مخيلته بقوة- يحتاج الواحد فقط الإطلاع على واحدة من أشد رسوماته الذاتية إذهالا، بورتريه ذاتي مُهدى إلى بول جوجان 1888.

تشارلز ديكنز (1812 - 1870)، أعمال تشارلز ديكنز، كتب عيد الميلاد، طبعة هاوسهولد، تشابن آند هول بلندن، 1878

أبريل/ نَـيْسَان  1889: "في هذه الأيام القليلة الفائتة كنت منكبا على قراءة ترنيمة عيد الميلاد لديكنز، أشياء عظيمة قيلت فيه إلى حد يوجب على المرء إعادة قراءتهم لمرات كثيرة...".

في أشد لحظات حياته ظلاما- بعد أن أدخل نفسه مصحة سانت ريمي-دي-بروفنس – يجد فنسنت سلوانه في كاتبه البريطاني المحبب تشارلز ديكنز، "أحد أولئك القادرين على بعث الحياة في شخصياته..."، في ربيع 1889 يقرر العودة إلى مجلد حكايات عيد الميلاد لديكنز وإلى رواية بيتشر ستو. هذان الكاتبان اللذان جمعهما صداقة قديمة بعثا الأمل في نفس فان جوخ وأحيا العاطفة الإنسانية فيه. الزخم المعنوي والسياسي في فن ديكنز وبيتشر ستو (الأدبي) ينسابان بسهولة طبيعية في رواياتهما كأمثولات للحس الأخلاقي العالي. اتخذ فنسنت شعاره الفني الجديد، الفن لأجل البشرية جمعاء.

كثيرة هي الكتابات التي خرجت وتناولت ثورة فان جوخ الفنية، التي تمت في خلال فترة وجيزة تقدر بعشرة سنوات فقط. لم يعد خافيا عنا الإسهام البارز لشغفه بالكتب في إثراء قريحته الفنية والرؤوية. أصدقاء أوفياء، مصادر إلهام وعزاء، مرافئ أمان في بحر الحياة المضطرب- بالنسبة إلى فنسنت مثّلت الكتب كل هذه الأمور وأكثر. في هذا درس عظيم لنا أيضا، لنتعلم إدخال المسرة إلى نفوسنا في هذه الأوقات العصيبة.