أمّا أبي فلم يكن ليغادر أريكته. كانت أريكته على الدوام شيئًا ملتصقًا به بحيث لا أستطيع تخيُّله واقفًا أو قائمًا بنزهة ما. صورته لا تستقيم في مخيلتي إلا برفقة الأريكة

الأريكة

قصة لحسام قلعجي

نشرت القصة ضمن مجموعة "الدمية ومحاولات أخرى"، الصادرة عن دار هن، 2024


غلاف "الدمية"، مجموعة حسام قلعجي

كان أبي يجلس من غروب الشمس إلى ما بعد منتصف الليل متسمرًا أمام محطته المفضلة. في ذلك الوقت لم يكن ثمة خيارات أخرى، أقصد كانت توجد فقط محطة أرضية واحدة وموجة راديو واحدة ونحن الذين كما كان يقال نشكل شعبًا واحدًا. كان كل شيء حينها يتعلق بالأشياء الفريدة التي لا مثيل لها، مدرسة واحدة، هتاف واحد، حزب واحد وشعار واحد. كان الرقم واحد جذابًا ومحميًا بقوة ولا يمكن لرقم آخر الثبات أمامه.

سمعت مرّة من أحد الأولاد أن ثمة هوائيًا يقوي الاشارة والتردد بحيث يرى المرء قناة ثانية وبذلك يتخلص من المحطة الوحيدة ذات البرامج الواحدة ليشاهد محطة أخرى تعرض أشياء أخرى تصل من بلد آخر.

كانت كلمة أخرى كلمة هجينة وملاحقة ولا تستخدم إلا على نطاق ضيق. بسذاجة الأطفال اقترحت الموضوع على أمي، ولكن كونها أيضا زوجة رجل ذي اتجاه واحد فقد اصفرَّ وجهها عندما سمعت هلوساتي ورفضت أن تفاتح أبي بالموضوع راجية إيّاي إبقاء فمي مغلقًا. لم تكن أيامنا حينها بالأيام التي تمضي بسرعة بل كانت بطيئة للغاية نقضيها إما في التسكع في الحارات المعتمة ومتاهاتها أو في التسلية مع القطط المحمومة بفعل قيظ الصيف الذي يصاب فيه المرء بثقل ودوار، خاصة في المساء عندما تتكاثف الرطوبة ويصبح عبُّ نفس من الهواء عملًا صعبًا للغاية.

أمَّا أبي فلم يكن ليغادر أريكته. كانت أريكته على الدوام شيئًا ملتصقًا به بحيث لا أستطيع تخيُّله واقفًا أو قائمًا بنزهة ما. صورته لا تستقيم في مخيلتي إلا برفقة الأريكة، أريكة وضعت له أمي فوقها بساطًا ملونًا من الصوف فيه ثقوب كثيرة بعدد المرات التي سقطت فيها سيجارته من يده إذا ما غشاه النوم. لا أدري متى اتَّخذ أبي هذه الوضعية، فكلّ صوره بالأبيض والأسود تظهره متربِّعًا على أريكته كملك. في إحدى المرات كاد يهلك لولا أن تداركته أمي وسكبت الماء على البساط في حين كانت يده قد ارتخت تاركة جذوة نار السيجارة تتغذى بصمت وخبث على البساط. يومها صفعها على وجهها فكفت الدم من شفتيها وأسنانها مثل نبع.

ـ تريدين قتلي. قال.

ـ أعوذ بالله. سامحك الله. تاج راسي أنت!

لطالما سيطرت عليه فكرة الاغتيال وكأن ثمَّة أحدًا يتربَّص به الشرور فكلِّ حدث صغير كان يؤوله على أنه محاولة اغتيال أو مؤامرة تستهدف حياته.

حينها حدث أمر طارئ في حياتنا عندما بدأت زوجة خالي تتناوب على زيارتنا كل يوم من الظهيرة إلى قبيل الغروب لأنها تعي قدسيّة هذا الوقت بالنسبة لأبي عندما يكون منهمكًا في أفكاره ثم تتسلل مع أمي إلى غرفة التنهيدات كما كنت أسميها، حيث تتهامسان ساعة إلى أن تظلم السماء ثم تخرجان بعينين منتفختين حمراوين.

كنا جميعًا نرى دموعها التي تكفكفها قبل أن يلمحها أبي، فقد كان يكره البكاء والدموع لأنَّه رجل بأريكة كما سمعتهم يقولون مرَّة. وسألت نفسي مرارًا لماذا تأتي هذه المرأة إلى بيتنا لتبكي؟ أليس من الأفضل لو أنها تبكي في منزلها ثم إنَّ ابنتها التي يسيل مخاطها فوق شفتها تعبث دومًا بألعابي الخشبية دون أن توبّخها أمها ولو بكلمة.

جلستْ مرَّة قبالة أبي وراحت تسترق النظر إليه بين الفينة والأخرى، أمّا هو فقد كان شاردًا كليًّا عنها مصيخًا السمع إلى خطاب الرئيس. كان أبي يلعن الإمبريالية والصهيونية والإخوان المسلمين على الدوام.

ـ عملاء وخونة. ثمّ ينتفض فجأة ويصيح دون أن يكترث لوجودنا وكأننا كرسيٌّ أو صحن سجائره أو كجذع شجرة الليمون في البيت. معارك أبي لم تنته يومًا.

كنت ألعب لعبة خمسة أحجار وكلما رميت الحجر نحو الأعلى تقاطع مع عيني زوجة خالي الدامعتين قبل أن يهوي وتبتلعه الظلمة. أبي يتابع محطته الوحيدة وأمي تستقرُّ أسفل قدميه وزوجة خالي ترمقه خانقة في أعماقها شيئًا ما.

بهذا الشكل كانت حياتنا تمضي موزعة بين هذه الأشياء خطاب الرئيس، الشاي وتبغ أبي واعتراضه على الامبريالية وبين دموع زوجة خالي وعتمة الحارات والدهاليز.

كثيرًا ما فكرت في شكل الامبريالية التي يكرهها أبي، رغبت حقًا بمعرفة شكلها لكي أشاركه هذه الكراهية بحقٍّ ولكنه لم يذكر شيئًا عن صفاتها في يوم أبدًا.

ذات مساء انقطع البث ظهرت تلك الخطوط الطولية البشعة وبدت الصورة وكأن أحدًا يشدُّها حيث تمددت جمجمة الرئيس لتغطّي شاشة التلفزيون بأكملها، وهنا لعن أبي التلفاز والمحطات ولم يترك إلهًا إلا وأنزله من عليائه سبًّا وشتمًا. أشعل سيجارة أخرى بينما كانت سيجارة أخرى بيده دون أن ينتبه.

ـ مرة ثانية. صرخ بغضب وهو يحدِّق من فسحة الدار نحو السماء.

ثم وقعت عيناه على زوجة خالي.

ـ وأنت ماذا تفعلين حتى الآن في منزلي يا قحبة، أصلًا كل البلاء من ورائكم أنتم وأمثالكم. لك تفو.

حينها ذرفت زوجة خالي الدموع لأول مرة أمام أبي. سحبتها أمي على الفور إلى الغرفة.

كان أبي شبه عاجز منذ نحو عشر سنين. ولكنّه إذا ما أراد الخروج من الدار فإنه يستعين بعكَّازه القديمة التي لم تتبرَّم يومًا. كانت أمي عكَّازه.

على كل لم يكن أبي ليخرج كثيرًا إلى الحي وإذا ما أراد الخروج فإنه يتجلبب بالعتمة بعد أن يؤوب الناس إلى بيوتهم. لم يرغب أن يراه الناس بتلك الصورة من العجز والضعف.

عشر سنين كانت وجهة أبي وجهة واحدة وجلسة واحدة لا يغيرها، إبريق الشاي، علبة الدخان، رائحة نيكوتين عالقة بطقم أسنانه وخطاب الرئيس.

في إحدى الليالي ناداني بنزق: ناولني الجفت من الخزانة يا ولد.

كان يملك جفتًا بعينين.

وقفزت كالقرد مسرعًا لأنني أعرف خطورة هذه اللحظات وعواقب التلكؤ. الجفت أسود لمَّاع يخرجه بين الحين والآخر ليلمعه ثم يعيده إلى حقيبته القماشية في طقوس عسكرية مفعمة بالفخر والأبّهة. كان ذلك احتفالًا بالنسبة إليه.

لم يكن أبي ليخرج للعمل، استقال أو سُرِّح كما قيل ولكنه لم يتوقف عن العمل أبدًا.

تركت أمي زوجة خالي لوحدها ثم اتَّخذت طريقها نحو السطح مع أبي وجفته اللماع.

اختفى خالي قبل مدة. خالي هو أخو أمي ولكن أمي لم تجرؤ أن تقول شيئًا حتى في حق أخيها. هي تعرف وأبي يعرف أنها تعرف وربما كان سكوتها ليرضيه على الدوام، نوع من الإضافة الجديدة لرضوخ كلي يجذّر فيه شعورًا عميقًا بالسيطرة.

وصل أبي إلى السطح بعد ربع ساعة متحاملًا على نفسه. كانت تلك معركته الجديدة. سمعنا صوت إطلاق النار من جفت الصيد ترنُّ في أرجاء الحي في ذات اللحظة التي تردد فيها صوت هديل.

ـ هل أصبتها.

ـ اخرسي بالله عليك. وهل ترين أنني اصطدت أيًّا منها؟

 يرغي أبي ويزبد متوعِّدا أنَّه لن يغمض له جفن حتى يبيدها عن بكرة أبيها.

في كل مساء لم تتغير عادة أبي أبدًا. الرئيس يخطب وهو يتابع بشغف ثم يصعد الدرج ويطلق النار على الحمام ثم ينزل ليدخِّن ويشتم.

في إحدى المرات غابت القناة وتداخلت معها قناة إذاعية فظهر صوت الرئيس متداخلًا مع أغنية يا بنت السلطان، حينها ارتعد أبي، احمرَّ وجهه واصفرَّ وصار يقطر سمًّا ولم يعرف ماذا يفعل، ومع مرور الوقت صار أبي يطلق النار من دون سبب. تحوَّل الأمر لديه إلى هوس وطقس يومي.

كانت خطب الرئيس مقدَّسة عند أبي فلا يفوِّت منها شيئًا، وحتى تلك التي يعيدونها طوال النهار مع ذات الموسيقى الكلاسيكية، وقد اكتشفت مرة أن أبي يتمتم كلمات الخطاب على الدوام، بل إنه قد يسبق صوت الرئيس نفسه، كان قد حفظها حقا، كان هو الرئيس.

استمرَّت حياتنا على هذا المنوال من التكرار اللزج، انتظار ما لا ينتظر. ما من جديد في حياتنا سوى أن نساء أخريات صرن يأتين لزيارتنا تباعًا، يساعدن أمي في أعمال المنزل ويتطوَّعن للقيام بكل شيء عنها، بعضهن كنَّ يحضرن صررًا ملأى بالخضار والفواكه، جبنًا، لحومًا وسواها يقدِّمنها لأمي مع حسرة لا يمكنهن إخفاؤها. من بعيد كنَّ يتابعن أبي بعيون دامعة دون أن ينبسن ببنت شفة، متِّشحات بالسواد لا يأتين بحركة كغربان المقابر.

نساء من كل الحارات التي كتب أبي تقارير بأزواجهن يأخذن مكانهن بصمت أمام زوجة خالي دون أن يعيرهن أبي اهتمامًا كونه منشغلًا على الدوام بالإمبريالية والصهيونية. تحوَّل بيتنا إلى مكان للزيارة، إلى ضريح تتبرك به النسوة. تضع له أمي في المساء طبقه المعهود، كبد خروف نيء مع الثوم والبقدونس فيمضغه بهدوء واستغراق كلِّي بصورة الرئيس غير مبالٍ بالدم الذي دبغ شفتيه بحمرة قانية وسال على الأرض. أمَّا النسوة فكن يعتقدن أن وجوههن الحزينة وانكسارات قلوبهن ستؤثر على أبي، كنَّ يستعطفنه بصمت.

اليوم أنظر إلى أريكته بعد هذه السنوات. أراه لا يزال هناك قابعًا في مكانه يزمجر بغضب مطالبًا بجفته فأنتفض كالمجنون لأجلبه له.

عندما حملوه من أريكته بعد أن اكتشفوا موته سدُّوا أنوفهم بأصابعهم، إذ إن العفونة قد سرت في إليته وفخذيه، قيح وصديد. في البداية ظنُّوا أن جسده فقط هو الذي قد تعفَّن ثم اكتشفوا أن الأريكة ذاتها تفسخت أيضًا تحت وطأة ثقله وجلوسه المتواصل. تآكلت الأريكة وتآكل لحمه وسقط قطعة قطعة. ذاب كليًا في الأريكة أو أن أريكته ذابت فيه وابتلعته.

اختفى أبي ومات الرئيس وجاء غيره، ما من هوائي على السطح فقد ولَّى زمن الانتينات أما الحمام فحدث ولا حرج.