إن أي طبقة تستطيع زيادة حالة القبول بين السكان العاملين ستصبح أكثر أمنًا في سيطرتها. لكن هذا ليس أساس إعادة إنتاج النظام. الآلية الأكثر جوهرية، التي تظل قائمة حتى عندما ينهار القبول والتي تستمر في إعادة العمال إلى عملهم كل يوم -وبذلك تعيد إنتاج النظام- هي ما أسماه ماركس "الإجبار الرتيب الناشئ عن العلاقات الاقتصادية".

أجزاء من "مصفوفة الطبقة: النظرية الاجتماعية بعد التحول الثقافي" (2022)

كتاب فيفك تشيبر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة نيويورك

ترجمة: أحمد طارق عبد الحميد


فيفيك تشيبر، عن verso

القبول والإكراه والانقياد

المشكلة بشأن القبول

إن نظرية جرامشي هي أوجه تفسير لدينا فيما يتعلق بالأساس المادي للقبول (consent). لكن هذا لا يعني أنها كافية لتفسير الاستقرار الرأسمالي. هناك مشكلتان تتجلّيان بوجه خاص: الأولى، هل النمو الاقتصادي كافٍ بالفعل للتغلب على إحساس العمال بالضرر؟ والثانية، هل القبول، حتى لو حصل، هو الآلية المركزية للإبقاء على الوضع الراهن حقًا؟ وفيما يلي أبرهن على أن الإجابة على السؤالين بالنفي. وإذا كان الأمر كذلك -إذا لم يكن القبول، في الواقع، هو الأساس الراسخ الذي يوطّد الرأسماليون عليه سيطرتهم- فإننا نحتاج إلى تفسير آخر لقدرة الرأسمالية على البقاء.

هل يكفي النمو لإنتاج القبول؟

تذكّروا أن تأثير عقد العمل المأجور على سلامة العاملين متعدد الأبعاد. هناك الحقيقة الأساسية بشأن الدخل، طبعًا، فلا يوجد شك في أن الزيادات في الإنتاج تُترجم عادة إلى ارتفاع في الأجور. (هناك أيضًا إمكانية ترجمتها إلى انخفاض في وقت العمل، ولكن تبيّن أن هذا نادر جدًا، ولو أنه حدث على الإطلاق لتطلب مستوى متقدمًا جدًا من التنظيم الطبقي، ما يجعل الاعتماد عليه كمصدر للقبول أقل احتمالًا). لكن ذلك جانب واحد فحسب من وضع طبقة العمال. فسلامتها تتأثر أيضًا بحقائق أخرى: كثافة العمل، وظروف الأمان، وأمان التعاقد، ونحو ذلك كما سبق وناقشنا (في القسمين 2.1 و3.3 من هذا الكتاب). فمن الواضح الآن أن المكاسب وإن تحققت في بُعد من الأبعاد، تظل الأبعاد الأخرى على حالها. ولذا قد يظل العمال مدركين للأضرار رغم ترجمة النمو إلى زيادات في الأجور. إن تجربة العمل يمكن أن تكون شاقة، بل تظل كذلك، حتى لو كانت القوى الإنتاجية تتقدم كما تتطلّب نظرية جرامشي، وبالتالي ستظل العلاقة بين العامل ورب العمل متضاربة وإن ارتفع مستوى المعيشة. إن التحسينات لا تقتصر على بُعد واحد وتترك الظروف في الأبعاد الأخرى ذات الصلة على حالها، بل الأهم أن تحسينات هذا البُعد تأتي غالبًا على حساب تزايد الأضرار المُتكبدة في الأبعاد الأخرى. المُكتسب في أحد جوانب علاقة العمل يوازنه تدهور في ظروف الجوانب الأخرى.

وعلى سبيل الإيضاح، فكّروا في طول يوم العمل. مع نهاية القرن التاسع عشر، فازت الأيدي العاملة في بلاد أوروبية عديدة بمعركتها لوضع حد مفروض على أسبوع العمل. كان هذا مكسبًا واضحًا في بُعد خطير يخص سلامتهم، ذلك لأن يوم العمل قد خضع أخيرًا لبعض التقنين، فخُفّض عما كان، وبعدما بلغ خمسة عشر ساعة في اليوم، صار عشر ساعات، ثم صار في النهاية أربعين ساعة في الأسبوع. كما كان لذلك فائدة إضافية، هي إطلاق موجة ابتكارات تقنية بعد اضطرار أرباب العمل إلى البحث عن طرق جديدة لزيادة الإنتاجية، لأن العمل المضني لم يعد خيارًا متاحًا الآن. أسّس هذا لزيادة أسرع في الأجر الحقيقي. لكن أرباب العمل ردوا على تحديد مدة تشغيل العاملين، بتسريع وتيرة عملهم. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، وجدت عدة دراسات أن العاملين كانوا يعملون أقل، لكنهم أصبحوا يعملون أشد. إن الآلات المضافة وتنظيم العمل الجديد وخلق مهارات جديدة -وكلها كانت مؤشرات على القفزة الهائلة في قوى المجتمع الإنتاجية- كانت مصحوبة بتدهور في تجربة العمل. 

في الفترة نفسها، وبسبب العمليات نفسها، رفض العمال أيضًا الانتهاكات الموجهة ضد استقلالهم. فبينما اضطر أرباب العمل إلى الامتثال للحدود الجديدة المفروضة على يوم العمل وأدخلوا الآلات الجديدة لتجنب انخفاض الإنتاجية، توجب عليهم إعادة تنظيم تقسيم العمل داخل المصنع. لكن هذا الأمر استلزم هجومًا شاملًا على استقلال العمال. ففي الأحياء الصناعية الرائدة في بريطانيا والولايات المتحدة، كانت سيرورة العمل في التصنيع لا تزال خاضعة إلى حد بعيد لتحكم العمال الماهرين المباشر. ولذا كان إدخال آلات جديدة ومعايير عمل جديدة وتطبيق تقسيم جديد للعمل، يتطلب اختراقًا للحواجز التي فرضها استقلال العمال الماهرين على العمال العاديين. لقد جاء معظم الزخم الدافع لتنظيم العمل في نهاية القرن التاسع عشر من جهة العمال الماهرين، وكان حافزهم هو محاولة الدفاع عن استقلالهم الذي يتآكل سريعًا. مرة أخرى، كان المكسب المحتمل في بُعد واحد -الأجور- يُعوَّض بخسارة في بُعد آخر.

من الجدير بالذكر أن آخر انتفاضة كبيرة في علاقات العمل جاءت في نهاية ستينيات القرن العشرين، عندما كانت الأجور والدخول ترتفع بأسرع وتيرة منذ عقود. في الأعوام 1968-1973، عانت أوروبا الغربية والولايات المتحدة من سلسلة إضرابات هائلة، هي الأشد زعزعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن بينما كان السبب في اشتعال الإضرابات بعد الحرب هو ركام المطالب الذي تزايد في ظروف فترة الحرب، كانت الانتفاضات بعد خمسة وعشرين عامًا خاصة بذلك الوضع. في الولايات المتحدة، كانت الانتفاضات مرتبطة ارتباطًا مباشرًا في الواقع بالزيادات في الإنتاجية. فرغم زيادة الأجور، كان العائد الأكبر الذي يسحبون منه المال يأتي من التكثيف المدهش للعمل. إن الإجراءات المزعزِعة في العمل من جانب العمال كانت مثالًا مدهشًا على قاعدة: المُكتسبات في بُعد من أبعاد العلاقة بين العمال وأرباب العمل لا يمكنها موازنة الخسائر في بُعد آخر فحسب، بل إن هذه الخسائر يمكن أن تبدد تلك المكتسبات أيضًا. ويعتمد حدوث هذا أو لا بشكل كامل على التوازن الممكن والمحدد خارجيًا بين رأس المال والعمل. ولا يمكن التنبؤ به على أساس النمو الاقتصادي وحده، كما كانت ستقتضي نظرية جرامشي.

والآن، لا يعني هذا إنكار الصلة بين الدينامية الاقتصادية وقَبُول العمال. لا يوجد إلا قليل من الشك في أن تحقيق السلام الصناعي في اقتصاد دينامي، عند تساوي كل العوامل الأخرى، سيكون أسهل من اقتصاد راكد. لكن حتى في هذه الظروف، يكون إنتاج القَبُول متفاوتًا في النطاق المحدد، ويكون غير ثابت إلى حد بعيد على الدوام. إنه تحت ضغط دائم، ومُعرض دائمًا لأن تضعفه جوانب الارتباط بالأجر التي تستمر في إلحاق الضرر، أو لعله حتى يُكثَّف كجزء من عملية تطوير القوى الإنتاجية نفسها. ما يمكننا افتراضه بشكل موثوق هو أن حصول قبول بين الطبقات العاملة يكون أكبر في ظروف نمو، لكن أن يصبح هو التوجه الرئيس فتلك مهمة أصعب بكثير.

هل يعتمد الاستقرار على القبول على أي حال؟

مشكلة ثانية وأكثر جوهرية فيما يخص الحجة الجرامشية، هي أنه: حتى لو كان الاقتصاد النامي كافٍ لتحصيل القبول، فليس من الواضح أن هذا هو المصدر الأساسي للاستقرار الرأسمالي على أي حال. إن الاختبار الأبسط لحجة القبول هي أن نسأل: ماذا يحدث عندما تغيب الظروف التي تعزّزه؟ تقوم حجة جرامشي على افتراض أن الطبقات المسيطرة يمكنها الاستمرار في الحصول على قبول الطبقة العاملة ما دامت تستطيع تحقيق زيادات في مستوى المعيشة. لكن ماذا يحدث عندما لا تكون هذه الزيادات مُحتملة في المستقبل القريب؟ ماذا يحدث إذا تردّت الرأسمالية في فترة ركود، فيما يخص فرص حياة الطبقة العاملة؟ وضع كهذا لا بد أن يحمل أثرًا مباشرًا على إحراز القبول، سيضعف بدوره الوضع السياسي القائم.

هذا هو ما يبدو أن جرامشي، ومعظم معاصريه، قد آمنوا به تقريبًا. عندما تفقد الرأسمالية ديناميتها، ويتباطأ نمو الفائض الاجتماعي، كان المتوقع هو تفاقم الصراع على توزيع الدخل. لن تصبح الطبقة الحاكمة قادرة على تنسيق مصالحها الخاصة مع مصالح تلك الطبقات الخاضعة لأنها لن تستطيع إثبات انتفاع الجميع من سيطرتها الاقتصادية. ما كان لعبة رابحة لجميع الطبقات في اقتصاد صحي، سيتخذ تدريجيًا شكل لعبة خاسرة للجميع. وسيؤدي هذا في النهاية إلى انهيار القبول. وذلك، بدوره، سيبدد استقرار النظام. في هذه الظروف، لن يكون لدى الرأسماليين خيار آخر غير الاعتماد المتزايد على الإكراه (coercion) للاحتفاظ بحكمهم. سواء في مكان العمل أو في المجتمع بشكل أعم، سيحل الإجبار محل الإقناع كأساس للسيطرة الطبقية.

هكذا، يصف جرامشي الحكم السياسي باعتباره "هيمنة تدعمها درع الإكراه". وبتفصيل أكبر، عندما تنهار الهيمنة، فإن القبضة الأيديولوجية للطبقات المسيطرة على المجموعات الخاضعة تبدأ في الانهيار. النقطة المهمة هي أن المجال السياسي في نظريته، الذي انفتح عند انحسار القبول، يمتلئ بالإكراه:

إذا فقدت الطبقة الحاكمة الاتفاق العام، أي أنها لم تعد "تقود" بل "تسيطر" فقط، وتمارس القهر وحده، فإن هذا يعني بالتحديد أن الجموع الغفيرة قد أصبحت منفصلة عن أيديولوجياتها التقليدية، ولم تعد تؤمن بما اعتادت الإيمان به من قبل.

لكن لماذا يكون الإكراه هو الاستجابة لتحلُّل القبول؟ جاءت الإجابة، مرة أخرى، من مقدمة ماركس 1859. إن تآكل القبول يكون استجابة لبداية ركود اقتصادي، والأخير علامة على أن الطبقة المسيطرة قد توقفت عن لعب دورها التقدمي. هذه هي الظروف التي يُتوقع في ظلها من طبقة صاعدة، تَعِد بنظام اقتصادي جديد، أن تقدّم عطاءها لنيل السلطة. ويُفترض بديناميتها الاقتصادية أن تمكّنها سريعًا من تشكيل تكتل من الطبقات، ثم الإشراف، عند انتزاع السلطة، على عصر جديد من النمو الاقتصادي، الذي سيُحصّل بدوره القبول "التلقائي" من الجماهير. باختصار، تآكل القبول هو نذير بوجود أزمة في النظام وعصر ثورة تحمله على متنها. فبعد فقدان قبضتها على الجماهير، تضطر الطبقة المسيطرة إلى تجنب التحدي الحتمي لحكمها، ولهذا تلجأ إلى الإكراه. إن فقدان هذا يوازنه الاعتماد على ذلك.

لكن ما لم يفكر فيه جرامشي على نحو ملائم هو: ماذا لو تآكل القبول لكن لم يتحقق التحدي المُتوقع للطبقة الحاكمة؟ ماذا لو أن الركود استمر، لكن الطبقات الخاضعة، التي كان يُتوقع منها التكتل في تحالف ثوري، ظلت مقهورة أو عاجزة عن الاتحاد كقوة سياسية؟ لقد كان مدركًا بالتأكيد لهذا الاحتمال، وكذلك أقرانه في الحركة الاشتراكية. لكن بينما كانوا قادرين على التفكير في ذلك كاحتمال، اعتقدوا أن ذلك الوضع لا يمكن الحفاظ عليه لفترة طويلة. عاجلًا أو آجلًا لا بد أن يوجد حل: فإما ستجد الطبقات الصاعدة طريقًا للتغلب على شل حركتها، وإما ستُوطّد الطبقة المسيطرة حكمها- بالإجبار إذا لزم الأمر. وبالتالي، بينما أقروا باحتمال ذلك، بل واستحدثوا مفردات مبدئية لتصوره، إلا أنهم لم ينتجوا نظرية لفهم دينامياته. (وصف جرامشي مثل هذا الوضع بأنه "فاصل" فيه "تظهر أعراض مرضية". والفواصل المقصودة أحوال مؤقتة، تميز الانتقال من حال إلى حال. أما المرضية فليست إلا دليلًا إضافيًا على فوات أوان النظام القائم، وعلى أن معارضيه سيجتمعون عاجلًا أو آجلًا ويقيمون نظامًا جديدًا).

إن إغفال هذا السؤال كان، بالتأكيد، أمرًا مُتفهّمًا إلى حد ما. رغم كل شي، كان هذا هو الجيل الذي اضطلع بخوض غمار عصر الثورة الذي تنبأت به نظرية ماركس تحديدًا. إن فقدان الطبقة المسيطرة لحظوتها أدى إلى منعطف سياسي كانت الطبقات الخاضعة تطلب السلطة فيه، وكان القبول في الواقع يُستبدل بالإكراه، وهو ما تأكد بشكل أعنف في صعود الفاشية. لكن تجربة عصر النيوليبرالية في رأسمالية ما بعد الحرب اختلفت تمامًا، وتدعو إلى تناول أدق للنظرية. من الصعوبة البالغة فهم استقرار الرأسمالية المستمر على أساس نظرية جرامشية، على الأقل بالشكل الذي ورثناه.

إن الحقيقة اللافتة للنظر بشأن الرأسمالية في عصر النيوليبرالية هي أنها تتزامن مع ركود متواصل في مستويات معيشة الطبقات الخاضعة. وهذا صحيح في الاقتصادات المتقدمة كلها، وإن حدث بدرجات مختلفة ولفترات زمنية متفاوتة. يظل نمو الأجور في الولايات المتحدة قريبًا من الصفر على مدار جيلين، وفي ألمانيا وبريطانيا العظمى على مدار ما يقرب من عقدين. ورغم ذلك، حتى مع ما تكبدته مستويات المعيشة والتدهور في ظروف العمل، بالكاد طرأ أي تغيير على الأوضاع السياسية. بمقاييس تقليدية، ضعفت مقاومة الطبقة العاملة مع الوقت، حتى رغم تردي ظروف العمل. تدهور نشاط الإضراب في الولايات المتحدة مع الأجور الراكدة تقريبًا ولم يشهد، حتى صعود دونالد ترامب للسلطة عام 2016، ارتفاعًا كبيرًا منذ ثلاثة عقود. وكذلك الأمر في بريطانيا، فلم تشهد انتفاضة عمال كبيرة منذ آخر انتفاضة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين والتي انتهت بهزيمة لم تتعاف الاتحادات منها.

حتى مستويات المعيشة الراكدة لم تتسبب في تعبئة العمال بالشكل الذي ربما كان منظرو الهيمنة سيتنبؤون به. لكن وفق مؤشرات كثيرة، حتى وإن ظل العمال خاملين، فإن درجة القبول الفعال للنظام الاجتماعي استمرت في التدهور. وبقدر ما نعتدّ بمؤشر استطلاعات الرأي العام، فإن العمال ساخطين تمامًا على الوضع القائم، وبالتحديد على الفجوة المتوسعة بين مُلّاك الأصول وعامة السكّان. كيف لنا إذن أن نفسر استقرار النظام المستمر، إذا كانت الظروف التي تنتج مرساته الأساسية -قبول الطبقة العاملة- قد أصابها الضعف إلى حد كبير؟ بحسب تفسير جرامشي، يُفترض بتآكل القبول أن يؤدي إلى اضطراب سياسي. ألن نفترض هكذا أن قبول الجماهير ليس هو الأساس الذي يقوم عليه حُكم الطبقة المسيطرة؟

إن حجة الهيمنة الثقافية، كما رأينا، محل شك على أساسين: الأول، في افتراضها أن تحسنًا في بُعد من أبعاد تجربة الطبقة العاملة يمكنه تعطيل إدراك الأضرار في الأبعاد الأخرى. والثاني، في رفضها الاعتراف بإمكانية أن يضعُف القبول بشدة دون أن يقع النظام في أزمة. يلقي هذان العاملان معًا شكًا مهمًا على الحجة، حتى في نسختها المادية. لا يمكن لنظرية عن الاستقرار الرأسمالي أن تعتبر القبول هو الأساس الراسخ لها.

إن تفسيرًا أقوى لاستقرار الرأسمالية السياسي لا يكمن في اعتناق الطبقة العاملة لوضعها بل في انقيادها (resigning) له- أي أن العمال يقبلون بموقعهم في البنية الطبقية لأنهم لا يرون خيارًا مُجديًا آخر. كان القبول ليصبح حاسمًا كمرساة للاستقرار السياسي لو كان للعمال في كل الأوقات خيار خروج عملي. لو كانت لهم حرية الانسحاب من الرأسمالية، لأصبح الحصول على قبولهم للنظام الحالي هو الآلية الوحيدة الموثوقة للحفاظ عليه. إن هناك طريقتان قد يختارونهما للخروج من النظام. الأولى لو كانوا قادرين على مغادرة سوق العمل. فلو كان بإمكان كل عامل الاختيار بحرية بين العمل وتركه، لتغيرت عقود العمل حتى تعكس مصالحهم بشكل أفضل، بدلًا من انحيازها لمصالح أرباب العمل. ولأجاز هذا بدوره أن يكون سبب اختيارهم العمل هو إرادتهم ذلك، وليس لأنهم مضطرون إليه. لكن كما حاججت في الفصل الأول [من هذا الكتاب]، فإن الباعث الفعلي على العمل يأتي من حقيقة أن العمال لا يملكون في الواقع حرية اختيار ترك العمل. إنهم يشاركون في العمل المأجور، ليس لأنهم يرونه علاقة اجتماعية مرغوبة بحد ذاتها، لكن لأن وضعهم البنيوي يرغمهم على بيع قوة عملهم.

أما الطريقة الأخرى التي قد ينسحب العمال بها فهي التي تنبأ بها ماركس وأتباعه الأوائل: تغيير النظام من خلال العمل الجماعي. لكن كما حاججت في الفصل الثاني [من هذا الكتاب]، فإن هذه الحجة تستهين إلى درجة بعيدة بعوائق تنظيم الطبقة. إن الرأسمالية لا تكتفي بتوزيع الأصول الإنتاجية بشكل غير عادل، بل تولّد أيضًا، نتيجة لذلك، توزيعًا غير عادل لقدرات الطبقة. وفي انعدام التماثل هذا تكمن حقيقة اضطرار العمال إلى تنظيم أنفسهم لتعزيز مصالحهم، بينما يستطيع أي رأسمالي تعزيز مصالحه على نحو نموذجي دون الاضطرار إلى التنسيق مع نظرائه. هذا بالتأكيد يضع أعباء العمل الجماعي الطبيعية كلها على كاهل العمال، الأعباء التي لم يتناولها الماركسيون الأوائل على الإطلاق بالتنظير الملائم. وعلى الجانب الآخر، فإن خصومهم الطبقيين متحررون من تلك المسؤولية نفسها، لأن نمط الرأسمالي النموذجي قادر على حماية مصالحه في علاقته بالعاملين لديه دون الحاجة إلى التنظيم مع الرأسماليين الآخرين. لكن بالقدر نفسه، لأنه لا يحتاج إلى إنفاق موارده على تشكيل تنظيمات طبقية، يتمتع الرأسمالي بحرية إنفاقها على منع المنظمات التي يبنيها العاملون لديه أو تحطيمها، إذا تمكنوا من إقامتها بالأساس.

العمال إذن أقل منزلة في التنافس السياسي على مستويين متباينين: إنهم يواجهون معوقات أكبر في طريق العمل الجماعي بافتراض ثبات باقي العوامل، وفوق ذلك، يحتاجون إلى الدفاع أمام إستراتيجيات أرباب عملهم المعرقلة، التي تضع طبقة إضافية من الصعوبات. ولذلك، كما أستنتج في الفصل الثاني [من هذا الكتاب]، سيختار العمال بشكل عقلاني نمط مقاومة فرديًا، بدلًا من نمط جماعي، إذا قاوموا بالأساس. إنهم لا يستطيعون خوض صراع طبقي إلا عندما يتمكنون من تجاوز العوائق في طريق العمل الجماعي.

ما أقوله هو أن العمال لا يمتلكون خيار خروج عملي في المسار الطبيعي للأحداث. إنهم لا يستطيعون الانسحاب من موقعهم البنيوي أو الإطاحة به كما يرغبون ومتى أرادوا. إنهم يقبلون الرأسمالية لأنهم لا يرون خيارًا آخر كوسيلة يحافظون بها على أقواتهم. وهكذا لا تضطر الطبقة المسيطرة إلى الاعتماد على قَبُول العمال الفعال للنظام. وإن كانوا سينتفعون منه بالتأكيد إذا تيسر. إن أي طبقة تستطيع زيادة حالة القبول بين السكان العاملين ستصبح أكثر أمنًا في سيطرتها. لكن هذا ليس أساس إعادة إنتاج النظام. الآلية الأكثر جوهرية، التي تظل قائمة حتى عندما ينهار القبول والتي تستمر في إعادة العمال إلى عملهم كل يوم -وبذلك تعيد إنتاج النظام- هي ما أسماه ماركس "الإجبار الرتيب الناشئ عن العلاقات الاقتصادية".

لا يعني هذا أن قبول الطبقة العاملة لا يلعب دورًا في إعادة إنتاج الرأسمالية. إنما يقترح أن انتشاره بين الطبقة مؤقت على الدوام لأنه مرتبط بظروف هي نفسها غير مستقرة. في فترات النمو المطرد، التي تتضمن أيضًا آليات تترجِم الزيادات في الإنتاجية إلى مكاسب في الدخل، سيوجد انتشار أكبر للقبول الفعّال للنظام. إن هذا شيء يشبه ما حدث في العقود التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية، عندما مرّت الرأسمالية بأسرع تجربة نمو، وعلى أثرها، نمت دخول الطبقة العاملة كذلك. كان هذا عصر القبول، لو أن عصرًا كهذا وُجد على الإطلاق. لكن مع بداية مرحلة نمو أبطأ وركود في الأجور، وهي التي بلغت ذروتها في ثمانينيات القرن العشرين، دخلت الرأسمالية عصرًا جديدًا. كانت المؤسسات التي مكّنت حدوث مقايضة سياسية بين العمل ورأس المال تتعرض للتفكيك البطيء، وذهبت مكاسب الدخل من الإنتاج إلى الرأسماليين والمدراء بصورة غامرة. في هذه الفترة، لم يكن القبول أو الإكراه هو ما أبقى الوضع القائم على حاله، بل الضغط الساحق المفروض على عامة السكان من الحاجة الاقتصادية إلى البقاء. يوجد الآن أدب غني عن ثقافة النيوليبرالية: التفتيت (atomization)، الإحساس بالعجز، تفتّت الروابط الاجتماعية، التقهقر إلى الداخل. كانت كل هذه أعراض للحالة الأساسية نفسها، أي أن مصدر الاستقرار الاجتماعي قد انتقل بقوة نحو الانقياد.

وبالتالي فإن رأسمالية ذات معدل نمو مرتفع، ستحظى بدرجة قبول أكبر بين الطبقة العاملة من رأسمالية ذات معدل نمو منخفض، ورأسمالية بها طبقة عاملة منظمة بما يكفي لإنجاز مقايضة سياسية مع أرباب العمل، ستحظى بميل أكبر لتوافق جماعي من رأسمالية بها طبقة عاملة غير منظمة. ورأسمالية لا تحظى بأي من هذا سترتد إلى الانقياد وحده. عندما تصبح الطبقة منظمة وتنهار مصادر القبول الطبيعية، ويتجاوز الناس الشعور بالانقياد، يصبح السيناريو الماركسي للتحول الثوري خيارًا سياسيًا. إن الاستقرار هكذا محكوم بتفاعل النمو الاقتصادي والتنظيم السياسي. ويلخص الشكل 3.1 النتائج الممكنة.

الشكل 3.1 النتائج الممكنة للنمو الاقتصادي والتنظيم السياسي

الشكل 3.1 النتائج الممكنة للنمو الاقتصادي والتنظيم السياسي

من الجدير بالذكر أن الصناديق 1 و2 ينبغي أن تُقرأ باعتبارها "قبول يغطي الانقياد". فالقبول لا يزيح الانقياد تمامًا على الإطلاق داخل الطبقات العاملة، بل يزيده. تأتي هذه الحجة من ملاحظتي، في القسم 3.4، أنه لا يمكن افتراض أن يؤدي تحسُّن الظروف المادية في بُعد واحد من أبعاد العلاقة بين العامل ورب العمل إلى تحسين الأضرار المتولدة في الأبعاد الأخرى. هذا يعني أن هناك مستوى أساسي من السخط يُكنّه العمال تجاه وضعهم، ينشأ من العلاقة الطبقية نفسها، التي لا يمكن للقبول الجرامشيّ، أو النوع الأكثر طموحًا الذي وصفه بريزورسكي، تبديده. إن المصدر الرئيس لمشاركتهم في العمل المأجور يظل الإجبار الرتيب الناشئ عن العلاقات الاقتصادية. وما يتغير هو الدرجة التي يعمل بها هذا الإجبار كحافز.

إن التفسير السابق للاستقرار الرأسمالي يختلف عن تفسير جرامشي في أنه يحوّل التفسير من القبول إلى الانقياد. وجدير بالذكر أن جرامشي كان بالتأكيد مدركًا لهذه الظاهرة. إنه يشرح في كراساته أن بالإمكان تفادي الأزمة أحيانًا عندما يفقد الوضع القائم شرعيته لكن الجماهير "تكون إما قد اكتسبت العادات والأعراف اللازمة لنُظُم العيش والعمل الجديدة، وإما استمرت في الخضوع لضغط القهر من خلال الاحتياجات الضرورية الأساسية لوجودها". إن الاعتماد على "العادات والأعراف" التي تشكّلت بين الجماهير من "الاحتياجات الأساسية" الدنيوية "لوجودها" تبدو إيماءة نحو ما وصفته بالانقياد. يبدو أن جرامشي يُلمح إلى إمكانية اعتماد الطبقة المسيطرة على هذه الظاهرة كمصدر لاستقرارها بدلًا من القبول، ببساطة ووضوح. لكن بينما تُطِلّ هذه الفكرة، فإنها تظل على هامش إسهامه الأوسع في علم الاجتماع السياسي. ولم تُدمَج على الإطلاق في تفسيره للسيطرة الطبقية.

مكان الأيديولوجيا

بقي أن نسأل عن دور الأيديولوجيا، إن وُجد، في الإطار العام الذي طوّرتُه. لقد حاججتُ أن قدرة الرأسمالية على البقاء ينبع بالأساس من الضغوط المادية المفروضة على الفاعلين الاجتماعيين من البنية الطبقية. إن هذا على النقيض تمامًا من الإطار العام الثقافي الذي تطوّر في عقود ما بعد الحرب، والذي ترتفع فيه الأيديولوجيا إلى دور رئيس. لكن بينما أوكد أن الثقافيين قد منحوا الأيديولوجيا دورًا مبالغًا فيه دون مبرر، لا أريد أن أجادل بأنها غير ذات صلة. بل على العكس، فالأيديولوجيا يجب أن تمثّل جزئًا من أي تفسير مادي للرأسمالية. لكن كما أحاجج فيما يلي، يختلف موقعها اختلافًا كبيرًا عن ذلك الذي خصّصه لها الثقافيون. بينما تمثّل الأيديولوجيا في الإطار العام الأخير [عند الثقافيين] هذا سببًا لعملية استقرار البِنَى، فإنها تمثّل في دعواي نتيجة لعملية الاستقرار تلك.

لقد حاججتُ بأن مصدر قبول العمال للرأسمالية، بقدر ما يوجد هذا القبول، ليس الأيديولوجيا بل ضغط الظروف- الاختيارات المتاحة لهم في الواقع حسب موقعهم البنيوي وعلاقات القوة المنغمسين فيها. والآن، لا ينفي هذا أن للأيديولوجيا صلة بعملية الاستقرار الرأسمالي. بل يعني فقط أنها لا تستطيع أن تكون حافز العمال لقبول موقعهم في البنية. يأتي التحفيز من مصالحهم المادية. ولكن الأيديولوجيا تظل تلعب دورًا مهمًا ومحددًا- كوسيلة للتسويغ العقلي. ففي حالة كل من الرأسماليين والعمال، يحتاج الأفراد المنغمسون في هذه المواقع إلى وضع قواعد معيارية وثقافية تمكّنهم من استيعاب قراراتهم بإدراك ذاتي. إن عليهم إنتاج مسوغات عقلية لسبب قبولهم قواعد اللعبة. اقترح جوران ثيربورن أن وظيفة الأيديولوجيا الرئيسة هي ضمان منح ممثلي الطبقة إدراكًا ذاتيًا يمكّنهم من "التأهل للأدوار الممنوحة [لهم]" في البنية حتى "يستطيعون تنفيذها". وبالتالي تزوّدهم الأيديولوجيا بموارد ذاتية لتنفيذ الاستراتيجيات المفروضة عليهم من البِنَى.

يوجد الآن، في أي نظرية كهذه، عائق واحد مبدئي لا بد من رصده. إذا كانت الأيديولوجيا، في نظرية مادية، عبارة عن وسيلة يسوِّغ الفاعلون بها موقعهم عقليًا، فيلزمها الشرط نفسه الذي فرضتُه على نظرية الثقافيين- لا بد أن تحترم القدرات الإدراكية الأساسية للفاعلين. لا يمكن للتسويغ العقلي بالتالي أن يكون هلوسة. لا بد أن تعزّز الأيديولوجيا وتزكّيها حقائقُ أساسية خاصة بظروف الفاعلين، لأن الأيديولوجيا إذا أنكرَتها، فلا بد أن نتوقع أنها ستخسر جاذبيتها لدى الفاعلين أنفسهم. إنها لا تستطيع بالتالي أن تعمل كنوع من "الوعي الزائف"- غشاوة تحجب تمامًا الأداء الفعلي للبِنَى الاجتماعية. لكن المسوغات العقلية، بطبيعتها، ليست محض تزييفات- إنها طرق نتعلم بها معايشة الحقائق، وليست إنكارًا عنيدًا للحقائق. وبالتالي تفسير الأيديولوجيا باعتبارها نوعًا من التسويغ العقلي يضع عبئًا تحليليًا شديد الصعوبة على النظرية، مقارنةً بافتراضنا أن الأيديولوجيا ببساطة وعي زائف.

في حالة الطبقة العاملة، رأينا بالفعل أنهم يقبلون القواعد الرأسمالية للعبة ليس لأنهم يرونها شرعية أو مرغوبة لكن لأنهم لا يرون خيارًا آخر. إنها خطوة صغيرة للتنبؤ بأن رد فعل العمال الأيديولوجي سيكون تطبيعًا (naturalize) البنية الطبقية. سيسوغون عقليًا الضغوط المفروضة عليهم باعتبارها حقائق أساسية عن الحياة، مثلها مثل قوانين الطبيعة- شيء مزعج وكريه لكن لا يمكن تغييره. هذا لا يعني أنهم يرون النظام كقوة مستقلة عن السلوك البشري، فهم رغم كل ذلك يواجهونها خلال تجربتهم المعيشة في مكان العمل ومع السلطة المشروعة قانونيًا للمدير/ المالك. إن بصمة المؤسسات البشرية ظاهرة في كل بُعد من أبعاد الملكية الخاصة. لكن العبء الجبار للضغوط الاقتصادية، والتفاوت الهائل في القوة بينهم وبين رب عملهم، وتكاليف العمل الجماعي الرادعة- كل هذه العوامل تجتمع لتمنح البِنَى مظهر الثبات الذي لا يقبل التغيير.

بينما ينتشر تطبيع البنية الطبقية بين العمال، فإنه يجد صدى أيضًا بين أرباب العمل. إنهم رغم كل شيء مُقيدون أشد التقييد بموقعهم [الطبقي]، مثلهم مثل العاملين لديهم. ولذلك، كما في حالة العمال، ينبغي لنا أن نتوقع من الرأسماليين الاعتقاد بأن أدوارهم تعبر عن حقائق عميقة ثابتة في المجتمع البشري، ليست أكثر عرضة للتلاعب من الحقائق البيولوجية. سيكون الاختلاف بينهما، بالإضافة إلى رؤية قوانين الرأسمالية كقوانين طبيعية، أن من الراجح إلى أبعد حد أن يرى الرأسماليون قوانين الرأسمالية أيضًا قوانين شرعية ومرغوبة. إن النظرية الطبقية المادية تتنبأ بأن الفائزين في نظام اجتماعي سيرون العقبات الموجودة في طريقهم على أنها ليست تقييدية فحسب بل مفيدة أيضًا، وأنهم سيقدمون المكاسب الهزيلة التي تتراكم عندهم باعتبارها مكاسب اجتماعية. إن هذا ليس صحيحًا في حالة الرأسمالية فقط- بل في أي نظام اجتماعي، ينبغي أن نتوقع من المجموعة المسيطرة ألا تنتج فقط أيديولوجيا إضفاء شرعية، بل وتقتنع بها تمامًا أشد من أي مجموعة أخرى.

وإذن، ربما للمفارقة، فإن الطبقة التي تقبل الرأسمالية بنشاط ليست الطبقة العاملة، بل الطبقة التي تحكمها. إن مشكلة النظرية الثقافية ليست في إبرازها أهمية القبول، بل في أنها تبحث عنه في الطبقة الخطأ. وبينما سيميل العمال إلى رؤية النظام باعتباره لا يتغير ولا يَعدِل، سيؤيّد الرأسماليون النظام باعتباره التعبير الطبيعي عن الطبيعة الإنسانية- وباعتباره نظامًا مرغوبًا أيضًا. هكذا يأخذ التسويغ العقلي أشكالًا متباينة بين الطبقتين ويعكس الاختلاف في قيودهم وثرواتهم. وفي الحالتين لا يكون ببساطة وعيًا زائفًا. في الحالتين تعكس مسوغاتُ الفاعلين العقلية وضعَهم الفعلي إلى حد كبير. وهكذا أيضًا يختلف المحتوى حسب تجربة كل فريق. بينما ينبغي لنا، في حالة العمال، أن نتوقع منهم التعبير عن رد فعلهم التطبيعي في صورة ارتياب تجاه النظام -فهو فاسد ونحو ذلك- وبنزعة عامة إلى التشاؤم الشديد بشأن التغيير الاجتماعي، ينبغي لنا أن نتوقع بين الرأسماليين نزوع لا يقتصر على تطبيع الرأسمالية بل يحتفي بقربها من الطبيعة الإنسانية، ويرون نجاحهم كدليل على نزاهتها، ويحذرون من تغيير أي شيء يعبر بشكل مباشر هكذا عن دوافع الإنسان العميقة إلى آخره.

هكذا تحتل الأيديولوجيا مكانًا في نظرية طبقية مادية. لكنها تعمل كنتيجة لاستراتيجيات طبقة الفاعلين، وليس كسبب. وبهذه الوظيفة، تتوافق الأيديولوجيا مع القول العام المأثور عن ماركس، أن وجود الفاعلين الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم، وليس وعيهم هو الذي يحدد وجودهم.

حماقة اليسار الجديد

ثمة مفارقة عميقة وباقية في برنامج البحث الذي أطلقه اليسار الجديد في حقبة ما بعد الحرب، التي ينتسب إليها مباشرة التحول الثقافي. شخصيات مثل ستيوارت هول وبعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت والجرامشيين الثقافيين كانوا يتفقون على أن مشروعهم يتركز على إصلاح واحدة من أعمق الفجوات في الماركسية الكلاسيكية- هي وجهة النظر الأخروية للرأسمالية. فحسب فهم اليسار الجديد وفروعه، كانت نجاة النظام واستقراره أمرًا شاذًا من منطلق النظرية الأصلية. كانت المشكلة، حسب اقتراحهم، هي أن النظرية أفرطت في تركيزها على العوامل التي كانت تدفع النظام نحو الانهيار، وهو ما أضر بدراسة مصادر الاستقرار نظريًا. كان هذا نتيجة طبيعية لرفع النظرية من شأن البنية الاقتصادية على مساهمة الثقافة- "للبنية التحتية" على "البنية الفوقية". ومن أجل فهم كيف نجت الرأسمالية، سيتوجب على النظرية النقدية اللجوء إلى مسرحية المؤسسات الثقافية- دور الأيديولوجيا والهوية والقيم وهلم جرا.

لكن باتخاذ هذه الخطوة، كان منظرو ما بعد الحرب في الواقع مقتنعين بنقطة ضعف الماركسية الكلاسيكية، وليسوا معالجين لها. لقد كانوا يقبلون ضمنيًا الحجة القائلة إن البنية هي مكان آليات زعزعة استقرار الرأسمالية وأن مصادر استقرارها بالتالي لا بد أن توجد خارج تلك البنية. مثل الماركسيين الكلاسيكيين، رفضوا الإقرار بإمكانية أن يكون للبنية الطبقية منطق مزدوج، هو الذي خلق بالتأكيد الصراع الاجتماعي لكنه أيضًا احتواه داخل حدود يمكن التحكم بها. كان اليسار الجديد مصيبًا في اتهامه الماركسيين الكلاسيكيين بعدم الانتباه بما يكفي للقوى التي تُضعف تنظيم الطبقة وبالتالي تدعم الرأسمالية مع مرور الوقت. لكن في النهاية، كان للبرنامج الذي أطلقوه التأثير نفسه. ومن ناحية مهمة، بغض النظر عن تقديم أنفسهم كمغردين خارج السرب -كمنظرين يتحررون من المذهب التقليدي- فقد كانوا يعملون في نطاق الافتراضات التأسيسية للنظرية التي كانوا ينتقدونها.

الحجة التي أسوقها في هذا الفصل تخالف برنامج الثقافيين من وجهين. الأول: أنها تقترح أن المصدر الحقيقي لاستقرار الرأسمالية هو البنية الطبقية نفسها. ويستتبع هذا الوجه الثاني والنقطة الأهم: أنه على النقيض من الميل نحو الانهيار الوشيك، تكفل الرأسمالية استقرارها نفسه. إن هذا الاستنتاج ينبع بصورة طبيعية من منطلق توزيع الرأسمالية للقدرات الطبقية بين أرباب العمل والعاملين بشكل غير متساوٍ. إذا كان الأمر كذلك، فحتى وهي تولّد العداء والصراع بينهم، فإن حسم الصراع سيميل لصالح أرباب العمل. وبما أن الطريق إلى استبدال الرأسمالية يمر عبر تنظيم الطبقة، وبما أن الاحتمالات تتراكم ضد هذا التنظيم، يصبح الاستنتاج أن النظام سيميل إلى توجيه العداء الطبقي إلى شكل يمكن التحكم به والحفاظ على شدته داخل نطاق مقبول- وبالتالي الحفاظ على إعادة إنتاج الاستقرار. إن هذا جزء من البنية نفسها وليس نتيجة الفاعلية (agency) الثقافية للمجموعات الحاكمة. هكذا كان اليسار الجديد مصيبًا في اعتقاده أن الماركسيين الكلاسيكيين لم يتناولوا مصادر استقرار الرأسمالية نظريًا كما يجب. لكن المشكلة كانت أن التراث الكلاسيكي لم يكن طوّر مقتضيات نظريته الخاصة. وبسبب الإخفاق في إدراك هذا، واللجوء بالتالي إلى المجال الثقافي للبحث عن حل للمشكلة، لم يكن منظرو ما بعد الحرب قد انقادوا في طريق فكري ملتبس فقط، بل وفقدوا فرصة لتطوير برنامج البحث نفسه الذي ادّعوا دقته.

مصفوفة الطبقة اليوم

اقترحت في القسم 5.2 أن هناك ثلاثة أنواع من العوامل قد اجتمعت لتسهيل إنشاء مؤسسات عمالية في بداية القرن العشرين- عوامل بنيوية ومؤسسية وتنظيمية. من المعقول أن نتوقع من أي جهد لإنعاش العمال أن يحاول الاعتماد على هذه العوامل نفسها، فهي النموذج المتوفر لدينا للنجاح. وتظل الحقائق البنيوية العميقة للرأسمالية سارية، تلك التي تولد العداء بين العمال ورأس المال وتحفز العمال المأجورين على تنظيم أنفسهم. لكن الطريقة التي تجتمع بها هذه الخصائص البنيوية والشكل الذي تعيد إنتاج نفسها به قد تغيَّرا بطرق لا يُستهان بها. وفوق ذلك، تبدلت بشكل أعمق البيئة المؤسسية والتنظيمية الأغنى بالإمكانيات، مسرعة نحو بيئة سياسية قد لا يتعرف عليها المنظمون الذين أقاموا المؤسسات العمالية أول مرة إلا بالكاد.

في البداية، لقد حدثت نقلة شاملة في البنية الوظيفية- من بنية تصنيعية في عشرينيات القرن العشرين، إلى أخرى لاغية للتصنيع في عشرينيات القرن الواحد والعشرين. بدأ العالم الرأسمالي المتقدم في الانتقال بعيدًا عن الصناعة نحو الخدمات بحلول ستينيات القرن العشرين، وكان إيقاع ذلك الانتقال شديد السرعة بنهاية القرن. إن هذا التحول الشاسع في البنية الوظيفية كان مصحوبًا بتباطؤ في وتيرة النمو أيضًا- حتى أن التحول نحو الخدمات جرى يدًا بيد مع التباطؤ في نمو العمالة. وأخيرًا، تحولت أيضًا الرأسمالية اللاغية للتصنيع الأبطأ نموًا إلى مؤسسات أصغر وأقل مركزية، على النقيض من المؤسسات الصناعية الضخمة الكلاسيكية لسنوات ما بين الحربين العالميتين. ما يثير الاهتمام أكثر هو أن ذلك التحول إلى الخدمات قد مد جذوره أيضًا في الجنوب العالمي- وهي ظاهرة أطلق عليها الاقتصاديون اسم "إلغاء التصنيع المبكر". ويوصف بالمبكر لأن ظاهرة [إلغاء التصنيع] حدثت في اقتصادات أساسية بعد انتقالها من الزراعة بشكل كامل بدرجة أو بأخرى، لكنها تحدث في الجنوب بينما نسبة كبيرة من القوة العاملة لا تزال في نشاطات ريفية- أي أن هذه البلاد على الأرجح لن تحظى على الإطلاق بأهمية فرص العمل في التصنيع مثل سابقاتها في الغرب. بدلًا من أن تشفط الصناعة الفلاحين من الزراعة إلى العمالة الحضرية المستقرة، تستغني الأخيرة عن العمال بالجملة، فتضخّم صفوف أشباه الموظفين أو هؤلاء العاملين في وظائف مهلهلة غير رسمية تكاد تزودهم بالكفاف.

إن هذه الحقائق البنيوية عن رأسمالية اليوم تتجه سريعًا نحو بيئة تشكيل طبقة مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت تواجه الاتحادات العمالية قبل قرن. اقتصاد نموه بطيء ومكان عمله صغير ويقوم على الخدمات يقدّم تحديات جديدة تمامًا ومختلفة عما قدّمه الاقتصاد الأقدم التصنيعي الكلاسيكي، لأسباب واضحة. إن وفورات الحجم التي قدّمتها أماكن التجمع الكبيرة تلك للمنظّمين صار نوالها الآن أصعب، فبدلًا من الوصول إلى آلاف العاملين مرة واحدة، يجب عليهم الآن جمعهم في مجموعة قليلة من العشرات أو المئات في المرة الواحدة، ومؤسسة واحدة في المرة. علاوة على ذلك، صار الاعتماد على توريد العمالة يعني أن أماكن الاجتماع أصغر وأن الموظفين الذين يديرون المنشآت يتحكمون بقدر قليل في قرارات الاستثمار ومكان العمل، التي تظل في الغالب تحت سيطرة المنشآت الأعلى في سلسلة القيمة، التي قد لا يملك المنظّمون ضدها أي تأثير مباشر. في حالات كثيرة، لا يكون حتى من الواضح إلى مَن يستطيع المنظّمون توجيه مطالبهم. وأخيرًا، يؤدي خفض العمالة والنمو الأبطأ إلى أمن وظيفي أقلّ بكثير -ما يسمّونه عادة "الهشاشة"- وهو ما أعاد الخوف النموذجي المتعلق بالتوظيف في العصر الفيكتوري، الذي كان يبلغ فيه العمال حدًا بعيدًا في الحذر عند تقديم أي مطالب لأرباب عملهم.

هذه الظروف شديدة الانتشار الآن في العالم المتقدم. لكن واقع إلغاء التصنيع المبكر في الجنوب يعني أنه أيضًا على نطاق عالمي في حقيقة الأمر. ما يجعل هذا مهمًا على نحو خاص، هو أنه يبدد أي أمل في أن تدهور الظروف المواتية لتنظيم الطبقة في العالم المتقدم قد يوازنه تحولها في البلدان النامية. لعل المرء كان ليفترض أنه: كما تخرج البنية الطبقية من داخل الصناعة في الاقتصادات الأساسية، فإن التحول الصناعي السريع في الجنوب العالمي، على أقل تقدير، قد ينقل مركز تنظيم الطبقة إلى الجنوب- وبهذا يحافظ على قوة دافعة لإعادة ظهور العمال في الاقتصاد العالمي، حتى لو انتقلت إلى مناطق جديدة.

إن التغييرات لا تقتصر على البنية الطبقية. بل تُضاف إليها بعض التغييرات المؤسسية بالغة الأهمية، مقارنة بقرن مضى. إننا إذا اقتصرنا على الظّرفَين اللذَين وصفتُهما بأنهما يؤدّيان إلى تنظيم الطبقة في الفترة المبكرة، فمن الواضح أنهما لم يعودا يؤدّيان الوظيفة نفسها. في مطلع القرن الماضي، كانت طبقة العمال لا تزال مُستبعدة سياسيًا علاوة على استغلالها اقتصاديًا، وقد رسّخ ذلك الاستبعاد السياسي الإحساسَ بالظلم الذي يسبّبه الاستغلال الاقتصادي. لكن بحلول منتصف القرن، كان العمال في أرجاء العالم المتطور قد أصبحوا مواطنين كاملي الحقوق. وكانوا يوظِّفون نطاق الإدماج الأكبر في النظام السياسي ببراعة سعيًا وراء مصالحهم- لكنهم فعلوا ذلك من خلال المنظمات التي شُيدت خلال عصر الحرمان من الحقوق السياسية السابق. التحدي اليوم هو بناء منظمات مثيلة مرة أخرى، لكن في سياق لا يصل فيه الشعور بالاستبعاد السياسي إلى الحد نفسه بأي درجة. لا شك في أن عددًا كبيرًا من البالغين العاملين قد انفصل عن النظام بسبب الشعور بانعدام الجدوى في مواجهة سيطرة النخبة، لكن الانسحاب مختلف عن مواجهة حظر قانوني. بينما كان الحظر يوقد شعورًا بالحنق وبالهدف المشترك، يميل الانسحاب إلى أن يكون تعبيرًا عن اليأس، وبالتالي، أن يكون فرديًا.

وكذلك، أيضًا، توجد حقيقة مؤسسية أخرى كانت تغذي الإدراك الطبقي: الأنماط السكنية للمراكز الحضرية. لقد حاججتُ أن التخطيط المادي للمراكز الصناعية الكبرى قد دفع العمال معًا إلى مساحات مزدحمة بينما فصلهم عن أرباب عملهم. لكن بحلول ستينيات القرن العشرين، لم تعد الحال كذلك. في مقال فارق عام 1987، صاغ إريك هوبزباوم ما سيصبح نوعًا من المنطق السليم المشترك بين مؤرخي القوة العاملة: إن هروب الصناعة من المراكز الحضرية، والذي تبعه من هجرة أُسر الطبقة العاملة ذات الوظائف الآمنة إلى الضواحي، قد أثّر بشكل عميق على الهويات الطبقية. بينما مالت التجمعات والشقق السكنية المحيطة بمراكز التصنيع العملاقة، في العقود المبكرة، إلى ترسيخ الشعور بالحالة المشتركة المتشكلة في العمل، لم تعد الحال كذلك بحلول منتصف القرن. بعدما أصبح التوظيف نفسه مُشتتًا وامتد انتشار الإسكان نحو حدود المدينة وفيما وراءها، غدت الحياة العملية أشد انفصالًا عن الحياة الاجتماعية مما كانت عليه. وكما يلاحظ هوبزباوم فإن "التطور الحضري، العام والخاص، كان يدمّر الأسسَ نفسها التي أتاحت تشكيل 'القرى الحضرية' التي قام عليها قدرٌ كبير من قوة العمال... تأثير كل هذا على الحركات العمالية في المدينة العظيمة [كان] لحرمانهم من ترابطهم السابق".

إذا فكّرنا في هذين العاملَين معًا، سنجد التناقض مع الظروف التي كانت قائمة منذ مئة عام تناقضًا صارخًا. كانت مكانة العمال الانتخابية وظروفهم الاجتماعية تعين البنية الطبقية على دفع العمال إلى الأمام نحو هوية مشتركة من قبل، لكن الحال لم تعد كذلك، فالآن تأثير نفس هذه الأبعاد من حياة الطبقة العاملة تأثير مضاد- إنها ترسخ أوجه التذرية في البنية الطبقية، فتُباعد بين العمال بدلًا من حشدهم معًا، وبالتالي تعمّق الميل نحو المقاومة الفردية. وبينما ساهمت الظروف الاجتماعية والسياسية في ذلك الوقت جزئيًا في حل مشاكل عمل العمال الجماعي، فإنها الآن تميل إلى ترسيخ القيود.

مربط الفرس هنا ليس أن عوائق التنظيم الطبقي قد صارت منيعة. بل بالأحرى أن الأرض تحت أقدام العمال قد تبدلت بطرق جديدة وغير متوقعة. والظروف التي مكّنت أساليب التنظيم من العمل في الماضي لم تعد تنفع اليوم، وإذا كانت تنفع، فإلى جانب تطورات جديدة تطرح تحديات جديدة. ولذلك فإن إستراتيجيات التنظيم التي كانت فاعلة في الماضي لا يمكن افتراض أنها تنفع اليوم. بينما تقدِّم أحداثُ الماضي القريب دليلًا دامغًا على سخط الطبقة العاملة على الوضع الراهن ووجود دافع مماثل إلى السعي نحو طرق جديدة للتمثيل في الاقتصاد السياسي، فإن ترجمة هذا الدافع إلى عمل جماعي سيتطلب إبداعًا تكتيكيًا.

ومرة أخرى، يقع عبء تنظيم الطبقة مباشرة ودون إنصاف على عاتق العمال. إنهم لا يستطيعون ببساطة العودة إلى السيناريو القديم، لكن لا يوجد أيضًا سيناريو جديد جاهز وصالح. كتابتُه، وصياغةُ بُنيانه وشكله، يقع بالكامل على عاتقهم. وإنما يقع العبء عليهم دون إنصاف، لأن طبقة أرباب العمل لا تتحمل عبئًا مماثلًا في المقابل على عاتقها. لا توجد حاجة بهم إلى تكوين منظمات للدفاع عن مصالح طبقتهم أو تعزيزها لأن البنية الطبقية تكفل لهم ذلك باستمرار. وما دام موظفوهم يستمرون في الحضور للعمل يوميًا، وما دامت ربحية مشاريعهم التجارية مصونة -ما دامت عناصر النظام الأساسية تدور تروسها يومًا بيوم- فإن مصالحهم المادية الأساسية تتقدم بالمقابل. إنها لا تتطلب تنظيمًا سياسيًا. ويمكن لطاقاتهم بالتالي أن تُوجه ببساطة إلى تبديد جهود موظفيهم في التنظيم، ويراكم هكذا طبقات أخرى من القيود فوق تلك التي تضعها البنية الطبقية من تلقاء نفسها.

حتى الآن، لم يتمكن العمال من حل معضلة التنظيم الطبقي في هذا الإطار الجديد. إن أفضل ما تمكّنت منظماتهم من فعله هو محلك سر، أو التردي بوتيرة أبطأ. حتى أن أعضاء الطبقة عبّروا عن سخطهم، وذلك بالوسيلة المتاحة لهم، والوسيلة الوحيدة المتاحة عالميًا في الوقت الحالي هي صندوق الاقتراع. لا عجب إذن من أن السخط قد مال إلى اتخاذ شكل انتخابي وأن انفجاره كان شعبوي المحتوى، سواء في جانب اليسار أو اليمين. إن الموجة الشعبوية الجديدة في العقد الماضي هي الوجه الجديد لتمرد الطبقة العمالية اليوم. أما تطورها إلى شيء أرسخ فمسألة تعتمد على قدرة العمال على حل معضلة تنظيم الطبقة في الإطار الجديد.

ما يجعل ذلك أمرًا صعبًا على نحو خاص في ظل الظروف الحالية هو أن الآليات السياسية المُخصصة لحل معضلة التنظيم في العصر السابق مفقودة اليوم أيضًا- أحزاب اليسار ونقاباته واتحاداته الراديكالية ومنظماته الشعبية ونحو ذلك، تلك التي كانت محفزات على تنظيم الطبقة. وبقدر ما كان تنظيم العمال إنجازًا سياسيًا، وليس نتيجة من ضروريات الظروف البنيوية، كان الفضل لطبقات المنظمين المتفانين المنغمسين في مجتمعات العالم الرأسمالي وأماكن عمله. اليوم، بقدر ما يوجد اليسار في الاقتصادات الأساسية للعالم الصناعي المتقدم، فإنه أبعد ما يكون في انفصاله عن الطبقة العاملة. إنه منحصر بالأساس في الأطر الاحترافية مثل الحرم الجامعي والمنظمات غير الهادفة للربح، وليس في الأحياء والمؤسسات الإنتاجية حيث العمال يواجهون رأس المال. حتى على المستوى الانتخابي، كما بين توماس بيكتي بشكل مقنع، لم تعد الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في الغرب تنظر إلى الطبقة العاملة كقاعدة لها وأصبحت تعتمد إلى حد بعيد على طبقة خريجي الجامعات الاحترافيين. وبالتالي، بينما كانت هناك علاقة عضوية وطبيعية من قبل بين من يعلنون أنفسهم "يسارًا" والطبقة العاملة، لم تعد الحال الآن كذلك.

هناك دون شك مقدار من تأثير المتغيرات الداخلية في هذه العلاقة. بكلمات أخرى، إن التغير نفسه في الظروف البنيوية مسؤول بشكل جزئي على الأقل عن غياب يسار عمالي على شاكلة ذلك الذي نما بسرعة شديدة في القرن الماضي. الروابط السببية الدقيقة غير مفهومة جيدًا. لكن يبدو من المعقول تصور أن ثقافة المقاومة التي وطّدها الإطار البنيوي والمؤسسي في مطلع القرن العشرين قد وطّدتها أيضًا المنظمات السياسية التي منحتها الشكل والوجهة. حدث ذلك جزئيًا من خلال خلق ظروف لدمج المناضلين العماليين في أحياء المراكز الصناعية الحضرية النامية وأماكن عملها وأنديتها. لكنها كانت تجذب أيضًا أعضاء من الطبقة الوسطى -راديكاليين وطلاب ومثقفين- ألهمتهم المثاليات التي عبّرت عنها منظماتُ العمال النامية، ووفّروا صلة بين الطبقة العاملة وقطاعات تقدمية من الطبقة الاقتصادية الوسيطة. إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أنه بينما تغيّرت الظروف البنيوية وآثر العمال أشكالًا من المقاومة أكثر فردية، أضعفت هذه الظروف أيضًا العناصر التي اجتمعت لتنتج طبقة المناضلين والمنظمين العماليين المبكرة. وبينما قلّت كثافة المنظمين العماليين، صارت الآليات التقليدية للعمل الجماعي أشد ندرة- وبذلك توطد الميل التلقائي إلى الاحتياط والمقاومة فرديًا.

وهكذا فإن مصفوفة الطبقة اليوم تقيّد التضاريس السياسية وتشكّلها كما فعلت منذ قرن- لكن بطرق تختلف جوهريًا عن تلك الفترة المبكرة. في معظم العالم الفكري، يوجد إجماع متنامٍ على أن تدهور منظمات العمال أحد أهم العوامل وراء التركيز الفاحش للثروة والدَّخل في جانب، وكساد مستويات المعيشة عند الأغلبية العظمى. ولذلك أيضًا يوجد إدراك أنه إذا كان سيحدث تعافٍ يشبه بأي درجة التحسينات المشهودة في حقبة ما بعد الحرب، فإن إحياء مؤسسات الطبقة العاملة سيلعب دورًا مهمًا فيه. وأمام السؤال عن الطريقة التي يمكن بها إحياء تلك المؤسسات نجد حيرة كبيرة. لا يوجد سبب لافتراض أن الإستراتيجيات والآليات التنظيمية التي كانت فعالة منذ قرن يمكن ببساطة إحياؤها وإعادة استخدامها في العالم الذي يسكنه العمال حاليًا.

مهما تكن الإستراتيجيات والمؤسسات الجديدة، فهي لن تُكتشف إلا من خلال الفحص الدقيق للقيود الفعلية التي يواجهها العمال ثم تخطيط مسار مُستدام لإرشادهم. وتلك هي الخطوة الأولى فحسب. وتأتي بعد ذلك المهمة المضنية لاجتذاب جموع الأُسر العاملة الغفيرة إلى البرنامج، وتسخير طاقاتها له، والحفاظ على المُنظمات على مر الزمن بينما يدافعون عن مصالحهم. هناك خطوة صغيرة ولكنها أساسية لتحقيق هذا، وهي إحياء تراث التحليل الاقتصادي السياسي الذي كان أنصار العمال الأوّلون يسلّمون بصحته - قناعة أن الرأسمالية نظام قائم على بنية طبقية، وأن البنية تفرض قيودًا حقيقية على الفاعلين الاجتماعيين، وأن هذه القيود حقائق لا سبيل إلى تغييرها، وليست بناء رمزيًا، وأن المنافسة السياسية تدور بالأساس على تسخير المصالح السياسية للأهداف السياسية. إذا كان تراث التحليل هذا في الواقع ضروريًا لإحياء حركات تقدمية، فسيلزم النظريةَ الاجتماعية العثورُ على طريق للعودة من شطط التحول الثقافي.