باول امتلكت صوتا وكان لها أسلوبها الخاص، وانبعثت من العتمة بتفرسها في مدينة نيويورك ذاتها وفي شخصياتها المحورية.

دون باول وأدبها اللذان نسيهما العالم

مقال مايكا هايزل

ترجمة أسامة حماد

نشر المقال في أكتوبر 2023 ويعد القصة الثالثة في سلسلة قبور مجهولة: قصص من هارت أيلاند في راديو دياريز (إذاعة اليوميات)


باول 1930، وجزء من مذكراتها 1914. تيم بيج، مقتنيات دون بول

تسللت دون باول إلى عالم الكتابة بالتسكع في بارات وحوانيت قرية جرينتش في نيويورك في عشرينات القرن العشرين، حيث قضت وقتها بصحبة أمثال إرنست همنجواي وإدموند ويلسون. "ظهرت من العدم، ولم تكن ذات أهمية،" كما وصفتها الكاتبة فران ليبوويتز لراديو دياريز.

لكن باول امتلكت صوتا وكان لها أسلوبها الخاص، وانبعثت من العتمة بتفرسها في مدينة نيويورك ذاتها وفي شخصياتها المحورية. كتبت باول في العقود التالية روايات ومذكرات والكثير من المسرحيات –مما أكسبها شهرة ورشحها لنيل الجائزة القومية للكتاب كذلك. ثم توفيت عام 1965. ما حدث بعد ذلك لم يكن وفق ما نص عليه السيناريو المتوقع.

صوت نسيه العالم

كانت وصية باول واضحة: أرادت أن تتبرع بجسدها لمركز ويل كورنيل الطبي للأبحاث. لكن بعد مرور خمس سنوات على موتها، عندما سأل مركز كورنيل القائمة على تنفيذ الوصية، جاكلين رايس، عما يجب فعله ببقايا جسدها، تركت رايس القرار للمركز.

هكذا دُفنت باول في مكان غير معلوم لعائلتها وأصدقائها على جزيرة هارت أيلاند في نيويورك –أكبر مقبرة عامة في أمريكا. بعدها، توقفت طباعة كل أعمالها ودُفنت موهبة فريدة في جيلها في قلب نيويورك، ونسيها العالم ومن عرفوها.

دون باول على الشاطئ، 1914. تيم بيج، مقتنيات دون بول

تقع هارت أيلاند قبالة ساحل برونكس، ولا تحتوي قبورها على شواهد أو لوحات. عادة اعتبرها الناس مكانا لمن رحلوا دون أن يعرفهم أحد في حياتهم –لكن ليس للكتاب المعروفين.

كتبت باول القصص منذ كانت طفلة. عانت من إساءة عاطفية جسيمة من زوجة أبيها أثناء نشأتها في أوهايو وكانت الكتابة وسيلتها للهروب عادة. ثم تركت أوهايو عام 1918، إلى نيويورك مع حلم أن تصبح كاتبة. قالت ليبويتز، «كانت تعلم أنها ذكية بالقدر الكافي وجيدة بالقدر الكافي لتكون جيدة جدا في نيويورك، المكان الأكثر تنافسية في العالم».

تحولت بدايات باول المتواضعة في حانات قرية جرينتش إلى مسيرة مهنية. في السنوات التالية، كتبت مقالات بارعة حول الحياة في نيويورك لمجلات مثل النيويوركر وإسكواير. تسارعت مسيرتها المهنية عندما بدأت في كتابة الروايات حول نيويورك: قصص ساخرة وماجنة حول أشخاص أتو من بلدات صغيرة إلى المدينة لينغمسوا في مباهجها ورزائلها. تتضمن أشهر رواياتها للولادة وقت Time to Be Born 1942 وسرادق الشر Wicked Pavilion 1954.

قال عنها تيم بيج، الناقد ومؤلف كتاب دون باول: سيرة حياة، «كانت امرأة ذكية جدا وقوية وساخرة وعكست كل هذا في كتبها. سخرت من المليونيرات والشيوعيين. كانت تعتقد ببساطة أن البشر سخفاء ورعناء، لكنها أحبتهم».

عكست كتابات باول حياتها الشخصية. كانت معظم شخصياتها أناس في مقتبل الحياة أعيتهم الرغبة في النجاح وأن ينالوا التقدير، لكنهم نادرا ما حققوا ذلك. بالرغم من أن أعمالها كانت محط أنظار العامة (وصلت روايتها الأخيرة المهماز الذهبي The Golden Spur إلى المرحلة النهائية للجائزة القومية للكتاب عام 1963)، إلا أنها لم تصل لنفس مستوى شهرة كتاب أخرين، من الذكور أو الإناث، ممن عاشوا في نفس المرحلة.

صرح بيج، «اعتقد بعض النقاد أنها كانت قاسية. اختارت كل الكاتبات المشهورات عادة أن ينهين قصصهن برجل وامرأة يقعان في الحب ويعيشان في سعادة أبدية. رأت دون ما يكفي في حياتها لتدرك، أن، حسنا، قد يحدث هذا في بعض الحالات لكن هذا لا يحدث غالبا في العالم».

عانت باول من مشاكل مادية معظم حياتها. أنجبت مع زوجها جوزيف جوشا، ابنا معاقا احتاج عناية طبية مكلفة. واحتاجت هي كذلك إلى رعاية طبية في نهاية حياتها، عندما أصيبت بسرطان الأمعاء الذي أدى إلى وفاتها.

فيما كانت وصيتها محددة حول التبرع بجسدها لمركز ويل كورنيل الطبي، إلا أنها لم تحدد ما الذي يجب فعله بجسدها بعد التبرع. بالإضافة لكونها قائمة على تنفيذ وصية باول عامة، كانت جاكلين رايس قيمة مشاركة على أعمالها الأدبية، مسئولة بشكل عام عن مقتنياتها الأدبية. توقفت رايس ببساطة، عندما ماتت موكلتها، عن الرد على استفسارات الناشرين وصناع الأفلام. كان قد مضى بعض الوقت قبل أن تُعلم رايس عائلة باول بمثواها الأخير.

بعدها بسنوات، علمت واحدة من حفيدات أخت باول، فيكي جونسون، من أمها مكان دفنها في هارت أيلاند، والتي تعرف كذلك ببوترز فيلد. قالت جونسون، «أخبرتني أمي أنها كانت في بوترز فيلد، وهو مكان يدفن فيه من لم يملكوا المال ولم يكن لهم عائلة تعتني بهم. من المؤكد أنه كان بإمكان جديّ دفنها في مكان أفضل من المكان الذي دُفنت فيه».

جهود إعادة إحياء أعمال باول

باول ليست الوحيدة بين المشاهير المدفونين في هارت أيلاند. هناك دفن الممثل بوبي دريسكول، الذي اشتهر كطفل بأدواره في أكثر أفلام ديزني أيقونية على مر الزمن، كجزيرة الكنز وبيتر بان –حتى إنه فاز بالأوسكار لصغار السن بعمر 13 عام. وقع دريسكول في دائرة إدمان المخدرات ومخالفة القانون في مراهقته والتي تراوحت ما بين تهريب المخدرات والاعتداء. وجد ميتا في شقته في قرية جرينتش بعمر 31 عاما، وانتهى المطاف بجثمانه في هارت أيلاند عندما لم يطالب به أحد. 

تعد المقبرة كذلك موطنا لريتشل همفريز –ملهمة وحبيبة لو رييد، والتي كانت مصدر وحي للعديد من أغاني ألبومه كوني أيلاند بيبي. بالرغم من أن السبب الرسمي لوفاتها ما زال غير معروف، إلا أن همفريز توفيت عن عمر يناهز 37 عاما في مستشفى سانت كلير المعروفة بإيواء مرضى الإيدز. كان جثمانها من بين العديدين ممن أرسلوا إلى هارت أيلاند خلال وباء الإيدز.

تصر جونسون وآخرون على أن باول لم تكن لتمانع دفنها في هارت أيلاند. يقول بيج، «أظن أنها كانت لتكون مبتهجة قليلا لأنها دفنت إلى جوار نجم أفلام ديزني ومحبة للروك أند رول. لقد أحبت نيويورك. لقد قالت الحقيقة عن نيويورك ولا أعتقد أنها كانت لتريد أن تكون في مكان أخر».

دون باول في أواخر أربعينات القرن العشرين أو مطلع الخمسينات. تيم بيج، مقتنيات دون بول

بالرغم من أن أحفاد باول اختارو ألا ينقلوا جثمانها من هارت أيلاند، إلا أن جهودا عظيمة بذلت لإزاحة التراب عن أعمالها. نشر كاتبها وصديقها جوري فيدال، مقالا عام 1987 في ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، أثنى فيه على باول كواحدة من عظماء الأدب المفقودين. أثار المقال الاهتمام بباول في عالم الكتابة.

نشرت ستثفورث برس كذلك مجلدا ليوميات باول، حررها بيج عام 1998. طبعت المكتبة الأمريكية تسعة من رواياتها عام 2001. في وقتنا الحالي، اكتسبت باول متابعين أشبه بطائفة دينية، وحاولت ممثلات شهيرات كجوليا روبرتس وأنجيليكا هيوستن تحويل كتبها إلى أفلام وحصلت على تحية خاصة في المسلسل التليفزيوني جليمور جيرلز. قال بيج، «سيأتي الوقت الذي يدرك الناس فيه أنها واحدة من كتاب أمريكا العظام».