كان باطن هذا المارد، أبي، لينًا ورقيقًا. كان أفضل بطل شاعري وودود شهده حي "گلوبندك" على الإطلاق. وحتى اللحظة الأخيرة، لم يترك ديوان الشعر وقدح العرق المقطَّر القوي. 

اللحظات

قصة لإسماعيل فصيح

ترجمة عن الفارسية: محمود أحمد

إسماعيل فصيح أديب ومترجم إيراني، وُلد في طهران عام 1935، ودرس في أمريكا. كتب عددًا من الروايات الواقعية وترجم كتبًا في علم النفس. وتُوفيَّ عام 2009.


إسماعيل فصيح، عن avangard

من الأشياء الأولى التي علقت في ذهني بوضوح يدا أبي الضخمتان والمعروقتان؛ تصنع يدا أبي المعروقتان لي من سكر النبات حلوى على شكل ديك فوق زجاجة القنديل؛ يصنع أبي حلوى الديك، ويثبتها في عود خشبي.

أذكر أبي يجلسني على فخذه، وأداعب يديه البنيتين الضخمتين والمعروقتين. (لستُ متأكدًا هل تذكرتُ أنا هذا الجزء أم أنني صدقتُه لأني سمعته من خانمجان). لكنَّ يدي أبي المعروقتين والمسفوعتين انطبعتا في ذهني؛ انطبع في ذهني العروق الزرقاء البارزة لتينك اليدين النحيلتين والمسفوعتين والهرمتين والمُكنَبَتين. لم أكد أبلغ الثالثة من عمري بعد.

أذكر كل شيء بوضوح؛ يديْ أبي المعروقتين، والعروق الزرقاء البارزة، وحلوى الديك فوق زجاجة القنديل، وما إلى ذلك حتى الآن.

أذكر البيت الصغير في زقاق "شريف"، وأذكر زقاق "شريف" الذي كان أحد طرفيه عند شارع "فرهنگ" وينعطف طويلًا وضيقًا ليفضي إلى شارع "شاهپور"، وأذكر الأيام الماطرة واللعب بالوحل في الزقاق وصنع حوض بالوحل مع ناصر نجل غلامعلي خان في الفناء، وأذكر صرير الجداجد في الفناء بالليل، وأذكر عزف أمي على التار في الغرفة العليا. بيد أني أذكر تناول أبي للعشاء وانتشائه، أوضح وأفضل من أي شيء.

ذات يوم، كان أبي بطل المصارعة في حيي "گلوبندك" و"درخونگاه"[1]. ويموت عمال دكاكين أبي ونحن –الصغار– فرقًا من "علقاته المبرحة". لكن في باطنه، كان أبي رقيق القلب ورحيمًا. يضرب عندما يغضب فقط. وعندما يضرب، وتتقدم أمي، يضربها أيضًا. ثم يندم.

بالرغم من كل هذا، كان باطن هذا المارد، أبي، لينًا ورقيقًا. كان أفضل بطل شاعري وودود شهده حي "گلوبندك" على الإطلاق. وحتى اللحظة الأخيرة، لم يترك ديوان الشعر وقدح العرق المقطَّر القوي. وعانى في أيامه الأخيرة مجموعة من الأمراض اجتمعت مع السرطان، واحتار خمسة من أطباء شارعي "بوذرجمهري" و"شاهپور" كيف يقتلونه. والآن إذ أسترجع ذلك العهد، أجد أن أبي صنع عالمًا لنفسه.

عند الغروب، تمد أمي سفرة العشاء عند السرير، وتضع عليها الزبادي والخيار و"الدواء"؛ القنينة بجانب الثلج، والبصل المقشَّر في الصحن، والفلفل والملح والهرقلية والسلطة وخبز التفتون الطازج أيضًا على السفرة. وفي الأيام الأخيرة كانت أمي تضع الملعقة والشوكة، وتضع حشية تحته ووسادة لمرفقه.

وبعد مولد يوسف، حين ماتت أمي، صارت خانمجان تفعل هذه الأمور، وتضع مهد يوسف، الذي شغف أبي به حبًا، (وأسماه آخر العنقود)، في زاوية الحجرة خلف أبي. كان يوسف نائمًا في معظم الأحيان.

في الليل، حين يعود أبي، تحضر أمي (وبعد موتها خانمجان) إبريق الماء الدافئ والطست، وتغسل يديه وقدميه. وأقف أنا جانبًا ممسكًا بالمنشفة، ليتناولها أبي ويجفف نفسه. وفي العام أو العامين الأخيرين، حين اشتد عليه المرض وعانى آلام الظهر، صرتُ أجفف قدميه بنفسي. ثم يجلس أبي على الحشية عند السفرة، ويرتفق الوسادة. (وأنا أحوم حول السفرة باستمرار وأستلب اليسير!). وكالعادة ينهرني أبي، فأندس تحت السرير وأختبئ. وإذا خرجتُ مجددًا، يرسلني أبي تحت السرير مرة أخرى بزجرة، وأحيانًا صفعة على القفا. ثم يمسك ديوان الشعر، ويقرأ متمهلًا، ويصب قدحًا، ويتجرَّعه، ويسعل، وتعزف أمي على التار. وعندما يثمل، يحب كل شيء، وكل شيء يحبه، ولا يقضي لحظة أو ثانية في حزن.

هذا كله ثانية واحدة:

مساء الجمعة، عند الغروب (في الليلة السابقة ضربني أنا وفرنگيس)، عطف أبي وأرسل إلى البيت ثمرتي شمام وكيلوجرامين من الرمان مع صبي أحد دكاكينه. وبعد ساعتين، عندما عاد هو بنفسه، بمعطفه البني المعهود وقبعته البهلوية[2]، ما كان ثمة خبر عن الأوقات العصيبة في البارحة. في الحقيقة، بعدما بدَّل ملابسه، وجلس، وصبَّ أول قدح من "الدواء" من القنينة، وسكب جرعة منه في تربة الأصيص كعادته، وتجرَّع البقية، كان مبتهجًا جدًا. نهرني، فزحفتُ تحت السرير. ثم أخذ رمانة ضخمة، ودحرجها إليَّ. تناولتُ الرمانة، وشرعتُ أعتصرها تحت السرير، لكني لم أرفع عيني عن أبي وسفرة العشاء وديكورها الدائم.

بعد قدحين أو ثلاثة، انحنى أبي ناحية مهد يوسف، وقال بلهجته الخاصة:

"الشلام الشلام يا شاقورى پاقور!"

فترك يوسف المِرضعة، وأطلق ضحكة باهتة وهزيلة.

"وعليك الشلام يا شاقورى پاقور!"

"قق... قق... قق…"

"الشلام الشلام يا شاقورى پاقور!"

"آقون".

مدَّ أبي يده، وقال: "شلِّم عليَّ يا بابا".

"آقون، آقون".

"شلِّم عليَّ يا بابا. شلِّم عليَّ يا بابا".

 أخذ يوسف يرمق أبي بعينين مفتوحتين وواسعتين.

وكنتُ قد خرجت من تحت السرير ممسكًا بالرمانة المعصورة. شاهدتُّ المنظر، وفمي مفغور. فرآني أبي، وقال متصنعًا العبوس، دون انزعاج: "تحت السرير، يا جلال يا ابن الكلب".

فأعود تحت السرير زاحفًا كالسحلية.

انحنى أبي مجددًا ناحية مهد يوسف، ومدَّ يده. "شلِّم عليَّ يا بابا. يا من ينصب ألمك وبلاؤك على رأس جلال اللعين هذا. شلِّم عليَّ يا بابا".

"آقون".

"شلِّم عليَّ يا بابا".

"آقون".

"أقول شلِّم عليَّ".

"آقون".

"شلِّم عليَّ يا لعين".

"آقون".

أحيانًا كان يوسف يمسك يد أبي، ويهز أبي يده، ويقول "الشلام عليكم يا شاقورى پاقور". ويرتج كتفاه ضحكًا. مثل هذه الليلة.

أخذ أبي لقمة خبز و"كفتة"، ومدَّها ناحيتي تحت السرير، فأخذتُ اللقمة، وابتلعتُها. لكني لم أتناول الرمانة المعصورة، وادَّخرتُها لصباح الغد.

كنَّا–نحن الصغار– قد تناولنا العشاء مع خانمجان في أول الليل؛ في الليالي التي يأتي فيها أبي، يتعيَّن علينا أن ننام مبكرًا. فلم يكن أبي يحب أن يزدحم الأطفال حوله. كان مهد يوسف فقط في زاوية الحجرة، وأنا صامت تحت السرير، وإسماعيل في القبو يقرأ كتابًا لفرنگيس وخانمجان.

حمل أبي صينية، ووضع عليها شريحتين كبيرتين من الشمام وأربع رمانات، ثم ناداني. فحملتُ الصينية، وأحضرتُها إلى القبو، وناولتُها لخانمجان، التي قسمتها؛ أعطتني خانمجان شريحتي شمام، ولكنها لم تعطني رمانًا، لأن واحدةً في يدي.

عندما صعدتُّ من القبو، أخافني صرير الجداجد في ظلام الفناء. صعدتُّ الدرج راكضًا، حافي القدمين. فانغرست شظية زجاج صغيرة في قدمي وسط الدرج. لم أتوقف بسبب الخوف. صعدتُّ الدرج بيديَّ وقدم واحدة، وجلستُ خلف باب الغرفة العليا، وانتزعتُ الشظية من قدمي، وتفلتُ على الجرح.

في الغرفة، أمسى أبي منتشيًا الآن، واحتضن مهد يوسف، وأنشأ يهدهده، ويترنم بأنشودة لم تبرح أذني حتى الآن.

"آخر العنقود، ملعون ملعون!"

"آخر العنقود، ملعون ملعون!"

ثم التفت: "تحت السرير يا جلال يا لعين!"

فغطستُ تحت السرير، لكني أخرجتُ رأسي، وراقبتُ أفعال أبي.


[1] حيَّان في طهران.

[2] قبعة فرضها الشاه رضا بهلوي