تصبح الحرب مع كل دقيقة أكثر رعبًا وترويعًا ومأساة حقيقية ماثلة أمام عيون الجميع.

ما بعد عقدة الناجي

مقال مهاب محمود


الحرب على غزة من الأسوشيتيد برس

لعلنا جميعا بشكل ما أو بآخر نتابع مستجدات القصف الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة. وفي أثناء أحداث مذهلة كتلك، نعجز عن الاستيعاب والفهم، ونتساءل أين الله من كل ما يحدث، وربما أيضا تشككنا في حقيقة وجوده، ولو للحظات.

منذ عدة قرون، ظهر في السجال الفلسفي، جدالًا مهمًا بين الفلاسفة والمفكرين حول" مسألة الشر" أو ما عُرف حديثًا بالثيودوسيا، أي؛ الشر الساقط على رؤوس الأبرياء دون ذنب منهم كالظواهر الطبيعية المجحفة التي تخلف خسائر فادحة. وأطلق الباحثان إسماعيل فايد وفؤاد حلبوني بعد مذابح الثورة السورية مشروعًا فلسفيًا ينظر إلى ضحايا الشر الواقع دون ذنب منهم يحمل اسم الأيوبون الجدد نسبةً لأمثولة النبي أيوب الذي وجد نفسه أمام ابتلاء مفاجئ غير مبرر ودون ذنب منه وواجهه بصبر ملحمي بحسب النصوص الإبراهيمية المقدسة. خرج المشروع أخيرًا إلى النور في مجموعة من المقالات جُمعت في كتاب بعنوان "أيوب ثائرًا: سؤال المعاناة في الثورات العربية" من تحرير الباحثين عن دار هن عام 2023. في الكتاب المذكور تسلسل النقاش الفلسفي حتى وصل إلى توجيه السؤال نحو كنه الإله وعن حقيقة العدالة الإلهية، وانتهى السؤال إلى: أين الله في ظل كل ما يحدث!

في مقالة "تاريخ التغول: سفر أيوب وسؤال الثيودوسيا" (ص. 17 - 34)، تناول الباحث فؤاد حلبوني سؤال ليبنتز- الفيلسوف الألماني- الجريء بشأن هذا الموضوع، وأشار إلى فكر فيه ليبتنز بما يعني، أن وقوع هذه الشرور القاتلة، لو سلمنا مسبقا بحقيقة وجود إله يحكم العالم، لا يعني سوى إما أن هذا الإله غير كُلي القدرة، وهذا في حد ذاته منافٍ لمفهوم الإله فيقع الشر رغم إرادته أو أنه -الإله- ليس خيّرًا كليًا. وفي مقالة "خرائب الضجر" (ص. 35 - 51) أفاض عدي الزعبي بناءً على ذلك إلى ما ذهب إليه ستيوارت مل -الفيلسوف والاقتصادي البريطاني- من أن الإله غير كليّ القدرة، وعرض رأي ديفيد هيوم -فيلسوف واقتصادي أسكتلندي- القائل بأن الإله كليّ القدرة لكنه غير معنيّ أصلًا بالأمور الأخلاقية! (ص. 41)

في الحقيقة يعد الخياران أسوأ من بعضهما البعض. ولعل لذلك بالتحديد يلجأ الكثيرون إلى نفي وجود الإله من الأصل، كأنه هو الذي في حاجة إليهم وليس العكس، لأنهم ببساطة، من وجهة نظرهم، يرفضون الاعتراف بإله غير كلي القدرة، أو إله شرير يسمح بوجود الشر وبوقوعه على رؤوس الأبرياء. لكنهم في الحقيقة يغفلون في الوقت نفسه عن أن عالمًا دون إله أسوأ من أن يكون بإله غير كُلي القدرة أو إلهًا شريرًا من منطلق المثل الشعبي نصف العمى ولا العمى كله؟

يشير فؤاد حلبوني أن ليبنتز نفسه، صاحب السؤال، تراجع عن قوله وصرح بأن الإله ليس شريرًا ولا غير كامل القدرة، لكن "للخطايا دورًا في حياة البشر أشبه بالظلال في الرسوم الفنية" وأن "الخطايا في ضوء سلسلة كونية كبرى تجعل خطيئة آدم ضرورية حتى ... يظهر المسيح ويخلص العالم" (ص. 23) وأن هذا هو "أفضل العوالم الممكنة".

يبدو رد ليبنتز غير مُرضي بالمرة. لقد طرح ليبنتز سؤالًا عجز هو نفسه عن الإجابة عليه.. يمكننا أن نعطي النصوص الدينية -حتى لو كانت في محل شك بالنسبة للبعض- أحقية فرصة للرد، ولو بدت منطقية، فلا بأس بها إذن..كيف إذن يمكن أن نجيب على ليبنتز وهيوم ومل من المنظور الإسلامي؟

خلق الله الكون على ناموسه الحالي ولم يعدنا قط بأنه عالم مثالي، ولا حتى بأنه" أفضل العوالم الممكنة" كما ادعى ليبنتز، بل على العكس، لقد أخبرنا أنه عالم يطغى فيه الشر على الخير، بسبب نزوع الإنسان نفسه إلى الشر أكثر من نزوعه إلى الخير. وحسب النص القرآني أيضًا، فقد اِختار الإنسان -بكل كبرياء وجهل- أن يحمل تلك الرسالة على عاتقه في ظل رفض كل الكائنات الأخرى حملها. ومن ثم، طلب الإنسان حريته الكاملة، فأعطاه الله إياها. لكنه في كل مرة تخرج فيها الأمور عن سيطرته، ينشد الله بالتدخل العاجل لإصلاح الوضع، وينسى أنه بحقيقة تدخل الله في كل مرة لينقذ الموقف الذي أفسده الإنسان بدوره، هو نفي حقيقي، وكامل لحرية الإنسان التي طلبها هو نفسه، ونفي لناموس الكون المتفق عليه.

ويبدو أيضا أننا، بحسب النصوص الدينية، لن نصل إلى فهم الإله أبدًا لقصور في عقولنا. فهي بذلك تعارض عرض أي أطروحة منطقية لمحاولة فهم الله. ويبدو أن رغم الآف السنين لهبوط الإنسان على الأرض، فإننا حتى الآن لم ندرك كارثية ما فعلنا بأنفسنا، وهول حقيقة ما نحن حياله.

إذن أين الله من كل ما يحدث؟ في التصور الإسلامي الله موجود. وكلي القدرة، على عكس ما استنتجه مٍل، وكامل الخير، على عكس ما اعتقده هيوم. وعدنا بأنه يسمع ويرى، لكنه لم يعدنا قط، كما رأى ليبنتز، بأن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، بل على العكس تماما، ولم يعدنا مرة بحتمية التدخل الفوري، حتى نتساءل عن حقيقة وجوده فعلًا، في كل مرة تخرج الأمور فيها عن سيطرتنا. وهنا يبدو الإيمان بالله كإله خير كامل القدرة لم يعد رفاهية أو خيارًا، ليس فقط لننجو من هول الآخرة، إنما لننجو من براثن الجنون. ويتبقى سؤال واحد: لماذا خلق الله الإنسان من الأصل رغم علمه بأنه سيفسد ويطغى؟ سؤال جدلي قديم قدم الإنسان نفسه، لم يجد له الإنسان جوابًا، ولم يفصح الله عن السبب. 

وهذا يقودنا لطرح أسئلة أخرى مثل: لماذا لا يتوقف عن الإفساد والطغيان بدلًا من استمراره في توجيه الاتهامات نحو طبيعة خالقه ونواياه وقدراته؟ هل حان الوقت إذن لنفقد الثقة في الإنسانية وبالتالي نفقد الثقة في العالم؟ تصبح الحرب مع كل دقيقة أكثر رعبًا وترويعًا ومأساة حقيقية ماثلة أمام عيون الجميع. يمكننا أن نعيد الاستشهاد بمقولة كوفي عنان، وهي مناسبة تمامًا لوصف الوضع الراهن؛ أخشى أنه عندما ينخفض العنف، ينخفض لأنه لم يتبق هناك شيء لتدميره. فقد تآمرت كل الأطراف السيادية على شعب أعزل إما بالمشاركة، رسميًا، في المجزرة بإمدادات آلية أو إقتصادية، أو بإعطاء الضوء الأخضر، أو حتى بالتخاذل من قِبل أطراف تمسها الحرب الدائرة الآن بشكل غير مباشر، وستمسها -لا محالة- في القريب العاجل بطريقة مباشرة من الطرف المعتدي نفسه.

ولطالما نصب الغرب نفسه وصيًا على العالم وعلى القيم والأخلاقيات. وسمح وبرر لنفسه مرات التدخل العسكري غير المشروع في الكثير من الدول بادعاء أسباب مصاغة في عبارات وشعارات ضخمة ورنانة تبدو من الخارج خيّرة، لكنها في الحقيقة، تُخفي وراءها الأسباب الحقيقية الدنيئة. وتُسقط حقائق الجرائم الشنيعة المرتكبة أثناء تلك التدخلات العسكرية السرطانية، فيما بعد، الأقنعة عن الوجوه الحقيقية المتخفية وراء الأقنعة الإنسانية.

ما الجديد إذن؟ الجديد هذه المرة أن الغرب لم يعبأ حتى بصياغة الشعارات اللازمة للمشاركة في حملة إبادية جديدة من حملاته. لقد ضرب كل رموز الغرب وكل رؤساء العرب المتخاذلين بالقيم التي طالما ادعوها لسنوات أمام شعوبهم عرض الحائط، وأمهلوا جيشًا نظاميًا متطورًا فسحة من الوقت لإنهاء مهمته في أسرع وقت ممكن في إبادة شعب وتهجيره.

لكن ماذا عن موقفنا المتأزم أمام إنسانيتنا؟ ربما لا نشهد الآن أول إبادة جماعية عرقية في التاريخ البشري الدموي، لكننا بالتأكيد نشاهد أول إبادة جماعية عرقية ممنهجة مرصودة بأعلى التقنيات صوت وصورة على الهواء مباشرًة. وهذا لا يهدد فقط -ولو من منظور أناني محض- الضحايا والمُنذرين بالموت، بدورهم، في القائمة الطويلة للذبح والإبادة والتهجير، إنما يهددنا جميعًا ويهدد صلتنا بأنفسنا ويهدد صلتنا بالعالم ويهدد العالم نفسه.

أظن أن هذه المرة لن تتوقف مشاعرنا عند أعتاب ما يعرف بمتلازمة أو عقدة الناجي Survivor Syndrome فقط وهو الشعور بالذنب لنجاتك من كارثة أو حدث استثنائي أودى بحياة الكثيرين، لأنك ببساطة لا تفهم ماذا قدمت كي تنجو، أو كي لا تشملك هذه الكارثة، أو ماذا ارتكبوا هم كي ينتهوا بهذه الطريقة؟ أظن أننا سوف نذهب لأبعد من ذلك بكثير.

إننا نولد بنقاء هائل لا يوصف. نمتلك -نحن الصغار- رغبة في احتضان العالم. نكبر وننمو، ثم نلاحظ أعطاب العالم وثغراته، فنوعد أنفسنا، عبثًا، أننا سنغير العالم. وفي فترات الشباب والعنفوان، نصب قدرًا هائلا من التنظير على كل الأجيال السابقة لأنهم لم يفعلوا ما كان ينبغي عليهم فعله في الوقت المناسب. ونتساءل حين يصل إلى مسامعنا جرائم مهولة سابقة، ارُتكبت في حق مجموعة من البشر؛ أين كان العالم حين حدث ما حدث؟ ونظن أن العالم، عبثًا، سيكترث لمآسينا لو كان ذلك قد وقع لنا أو مسنا بشكل أو آخر. وإنه حتى لو لم يكترث العالم لمآسينا، بالطبع سنكترث نحن لمآسي العالم، وسنتحرك من أجله ولصالحه.

لكن الحياة، على طريقتها الخاصة، تبتسم وتفهم هذا الغضب الطفولي الثوري والأرعن، وتفهم حالة رفضنا أن يكون العالم بهذا الشكل. وعلى طريقتها الخاصة أيضًا، تعلمنا كيف نتحول إلى نسخ متشابهة تمامًا من الأجيال التي سبقتنا عن طريق سلسلة طويلة من المفاجأت والصدمات، وتهدم كل أفكارنا الطوباوية الطفولية البريئة والساذجة، ومن ضمنها ظننا الطفولي أن العالم سيكترث بدوره لمآسينا ومآسي أفراده. لكننا نتعلم مع الوقت أنه من الممكن جدًا ألا يكترث أحد لنا. وبمنتهى الابتذال، ولكن بمعنى شامل، "لن تتوقف الحياة لأحد" والعالم لن يتوقف عن الدوران، ولن يتوقف عن روتينه، ولن تختل وتيرته، حتى في ظل كبرى جرائم التاريخ، ربما فقط، وأحيانًا على استحياء، ربما يعلن الحداد.

أين الطمأنينة إذًا؟ في ظل كل ما يحدث هذا. في ظل إبادة جماعية ممنهجة تجاه شعب ما -حتى بغض النظر عن انتماءاته العقائدية أو عن أصوله العرقية من وجهة نظر العالم الآخر- دون أي تدخل فوري من أحد لوقف هذه المهزلة التاريخية، ومع عجزنا الكامل لإيقافها. كيف لنا أن نعاود الشعور بالطمأنينة في هذا العالم؟ 

بعد هذه الطامة سنشك في حقيقة الإنسانية. وسيضطر كل فرد منا أن يعيد النظر إلى نفسه، وإلى الآخرين، وإلى العالم، وإعادة تشكيل وصياغة علاقته بنفسه وبالآخرين وبالعالم. لأننا صرنا، أمام بعضنا بشكل معلن وفاضح عاجزين تمامًا على أن نضمن للآخرين حمايتنا لهم، وصاروا هم أيضًا عاجزين عن الدور نفسه؛ عن وعدنا بحمايتهم لنا. وجميعنا غير قادرين، في الوقت ذاته، على أن نعد أنفسنا، بعد ذلك، بأن هناك سقفًا للاحتمالات وحدًا للمهازل، أو أن هناك أشياء من المحال أن يرضى بها العالم في ظل غياب قانون واحد متفق عليه، أو قيم آدمية ثابتة لا يمكن المساس بها، وباكتشافك أن العالم قادر في كل مرة على أن يفحمك بتصورات أفجع من كل مخيلاتك، وأن أكبر الجرائم في تصورك، هناك احتمالية قائمة لما هو أفجع منها. وسنكتشف فعلًا أن الناجي الوحيد هو من مات. هو من نجى لا من الموت، إنما من الشبحية والرهاب" الجماعي".