بمجرد أن انتهى الكتاب، صارت ضرورة الإخبار عما كتبت هي أشد اللحظات توترًا، لحظة لم أمتلك ثقة كافية لخوضها. بدلًا من أن أتحمس كلما اقترب ميعاد النشر أشعر بطيف من الخوف يحيط تجربتي

كان إخبار عائلتي الجزء الأصعب من كتابة مذكراتي

كيف ساعدني الانغماس في مشاهدة يوفوريا على الاستعداد للمحادثات الصعبة التي احتجت إلى خوضها؟

مقال: إيرين لانر

ترجمة: رحمة راضي

عن Electric Literature

إرين لانر ، كاتبة مؤلفة كتاب "تذكارات من الجنة"


من مسلسل يوفوريا، عن electric literature

"ينبغي أن تشاهدي مسلسل يوفوريا" أخبرتني صديقتي بينما كنا نتنزه حتى تفرغ صغيرتانا من درس الرقص. لم أتأكد لماذا تقترح ذلك، كان سياق حوارنا تحديدًا عن القلق الذي يغلي بداخلي لأسابيع، عندما أدركت أن الوقت يضيق بي لأخبر عائلتي عن كتابي "تذكارات من الجنة"، مجموعة مقالاتي التي ستنشر قريبًا. الكتاب هو مواجهة للحكايات غير المروية في حياتي، التي نبع غالبيتها من الحزن الذي أحاط موت أمي عندما كنت صغيرة. عرفت عائلتي أنني كنت أكتب شيئًا لفترة لكن توقفوا عن السؤال عنه منذ عدة سنوات، إلى أن ذكرت لهم بأنه سيُنشر مع إحدى دور النشر المتواضعة. أدركت أنهم لن يتوقعوا أن يتضمن الكتاب تفاصيل من حياتهم، خاصة أبي، الذي يمثل جزءًا مهمًا من الكتاب، والذي هو من أشد الناس الذين عرفتهم خصوصية.

على الرغم أنني كنت قد سمعت عن مسلسل "يوفوريا" قبل أن تذكره صديقتي، إلا أنني ترددت في مشاهدة المسلسل الذي تنتجه شبكة HBO، والذي يعرض موسمه الثاني حاليًا (2022). عرفت أنه تصوير يتسم بالمبالغة والبهرجة عن مجموعة من طلاب الثانوية، يتمحور في معظمه حول شخصياته النسائية وهن يعبرن مرحلة الثانوية: المعروفة بالعلاقات والهوية والمخدرات والجنس. بلغت صغيرتانا اللتان في درس الرقص أربعة أعوام فقط، أحجمت عن المشاهدة بسبب تحذيرات العرض الكثيرة بشأن المحتوى، التصوير القاسي لإدمان المخدرات والعنف الجنسي، ربما لم تكن الصدامية المتأصلة في العرض هي ما أوقفتني بقدر ما كان الخوف من اضطراري إلى تحمل تأثير تلك الصور عليّ، ما سيكون عليه مستقبل ابنتي، ومدى صدقها معي حياله.

أرقدني فيروس كوفيد بعد عدة أسابيع من هذه المحادثة. فكرت أنه الوقت المناسب لمشاهدة يوفوريا. لم أكن أيضًا قد أخبرت عائلتي عن الكتاب، لكن أقنعت نفسي أن هذا يصب في مصلحة صحتي لأنه يمكن للتوتر المتسبب من إرسالهم المقالات أن يصعب من شفائي بينما يحاول جسدي التعافي من الفيروس. لذا قررت تأجيل إخبارهم إلى حين أن تصبح نتيجة تحاليلي سلبية.

لم أكن أعرف أصول كلمة "يوفوريا" عندما بدأت مشاهدة العرض. وفقًا لقاموس ميريام ويبستر فإنها مشتقة من المصطلح اليوناني "يوفوروس" والذي يعني "معافى". كانت بداية استخداماتها في الإنجليزية في المجال الطبي، لتحمل معنى الراحة الذي يختبره الشخص بعد رحلة علاج ناجحة. لم أكن لأصدق لو أخبرني أحدهم بهذا بينما كنت منغمسة في يوفوريا وكوفيد معًا. وجدتُ نفسي مستغرقة كليًا في تفاصيل القصة التي تدور حول رو بينيت (التي تلعب زيندايا دورها)، بينما أشاهد العرض لساعات في غرفة نومي حيث أمضيت ثلاثة عشر يومًا وحيدة بينما زوجي وابنتي معزولين، كانت رو بينيت شخصية تعاني من إدمان المخدرات الناتج عن وفاة والدها بمرض السرطان. نفس المرض الذي سلب حياة أمي. لم أتورط في تعاطي المخدرات خلال طفولتي، إلا أنني استحضرت أصداء وحدة مألوفة في فترة صعبة مماثلة من الماضي؛ في البداية، اعتقدت أن هذا هو السبب وراء أن صديقتي أوصتنى بالعرض.

إلى أن اكتشفت شخصية جديدة تتشابك معي بشكل أقوى: ليكسي هاورد والتي لعبت دورها ماد أباتاو، صديقة رو الأولى المقربة. بينما لم تكن ليكسي في الموسم الأول إلا شخصية رزينة وثانوية تصبح قصتها نقطة محورية في ذروة الموسم الثاني. تؤلف هاورد مسرحية للمدرسة قائمة على أحداث من حياتها، والتي تنكشف تدريجيًا عبر حوارتها مع تاجر المخدرات العطوف فيسكو (الذي يلعب دوره أنجوس كلاود)، تتساءل ليكسي القلقة بشأن ردة فعل عائلتها "لكن ماذا لو اعتقدوا أن نواياي ليست طيبة، في حين أنها حقيقة طيبة؟" في حوار قريب من الذي خضته مع صديقتي أثناء نزهتنا. يجيب فيسكو "هذا ما أسميه مأزقًا".

يرتبط الاعتراف لمن كتبت عنهم بموضوع الكتابة الإبداعية الواقعية. عشت شعورًا زائفًا بالارتياح أنني أنجزت التحدي الأضخم وهو الكتابة. لأن كتابي قد عالج ما يمكن أن يعتبره كثيرون موضوعات "صعبة"، مثل التعامل مع الموت في الطفولة، ومحاولة فهم الأساليب التي أثر بها على العديد من العلاقات الأخرى في حياتي، خصوصًا وأنني نشأت وسط عائلة تتجنب النقاشات الصعبة.

لكن بمجرد أن انتهى الكتاب، صارت ضرورة الإخبار عما كتبت هي أشد اللحظات توترًا، لحظة لم أمتلك ثقة كافية لخوضها. بدلًا من أن أتحمس كلما اقترب ميعاد النشر أشعر بطيف من الخوف يحيط تجربتي. أحقًا يمكنني أن أفتخر بكتاب ناقش موضوعات صعبة إن لم أزل أخفي مضمونه؟ كان أحد الأسباب التي دفعتني لكتابته هي أن أثبت لنفسي أنه يمكن للعائلة مواجهة أصعب مراحل حياتنا، وربما حتى الخروج من المواجهة على نحو أفضل. تجنبت مع ذلك هذه المهمة. حاولت لأشهر دراسة كل ما كتبه الآخرون، للبحث عن نصيحة تسهل عليّ مهمة إخبار عائلتي عن الكتاب. قابلت من الكتاب من هم أميل للأخلاقية إذ أولوا العاطفة على رؤية الفنان. ناقشت ميليسا فيبوس ما أسمته "الحقيقة السردية" في مجلة كينوس ريفيو، (كما يضمه أيضًا كتابها عمل الجسد  body work)، قائلة "أتخيل موشورًا، أوجهه بعدد من تأثر من الناس، عندما يختار الكاتب نشر روايته، يصبح وجهه مرئيًا دونًا عن أوجه الأشخاص المعنيين".

رغبت في تصديق أنني معفاة من هذا الشأن لأن كتابي مطبوع مع دار نشر بسيطة ومن المحتمل ألا تصادفه عائلتي على إحدى طاولات مكتبة بارنز ونوبل، لكن هذه الرؤية تغفل قصد فيبوس؛ أن كتابتي ما تزال على صفحة مطبوعة وتخرج بذلك من عالم الحوار إلى عالم الحقيقة، بغض النظر عن قرائها المحدودين. كشفت لي هذه المعرفة أنني يجب أن أخبرهم. لكنني ما زلت غير قادرة على فعل ذلك.

كذلك كما لم تقدر ليكسي، التي عُرضت مسرحيتها في الحلقتين الأخيرتين من الموسم الثاني، وهما حلقتا "المسرح وازدواجيته" و"يتوق قلبي طوال حياتي إلى شيء لا أستطيع تسميته". تركز الدراما على الجزئية الخاصة بانكشاف المسرحية بحيث تتقدم كل شخصياتها إلى صالة الجمهور لحضور العرض، بمن فيهم والدة ليكسي. صُورت الحلقة بطريقة تجعل لقطات يوفوريا "الحقيقية" تتلاشى داخل مشاهد الممثلين التي تخرجها ليكسي. بدا خلق نقلات بصرية بين حقائق العرض التلفزيوني وسيناريو ليكسي تمثيلًا بديعًا لكيف تمتزج الذاكرة بالحكي في خلق ما أسمته ميليسا "الحقيقة السردية".

 يتفاعل الجميع في يوفوريا مع سمة المسرحية كما هو متوقع، باستثناء ملحوظ لشخصية واحدة. والدة ليكسي، التي ظهرت دائمًا بزجاجة نبيذ بجوارها بينما تشارك بناتها وأصدقائهم النميمة. مثّل صبي  شخصيتها المدمنة للكحول بشكل ملفت، وقابلها الجمهور بكثير من الضحك. بخلاف أغلب الشخصيات الأخرى، التي انكمشت ورفضت اللحظات التعيسة التي التقطتها المسرحية من حياتها، تضحك والدة ليكسي دومًا في أحلك لحظاتها، تسبق شهقاتها المبتهجة الضحك الذي يملأ الغرفة. بينما يستجيب الآخرون لعرض ليكسي بالاختباء بهدوء في الخلف. عندما تطلق  ليكسي العنان لما تشعر به حقًا تجاه كل شخص في حياتها من خلال العرض، فقط والدتها هي من تقف على المسرح لدعمها. شعرت بتمزق مألوف في صدري عندما شاهدت هذا الانكشاف من فراشي، ، تمنيت لو أجد مثل هذه النهاية وقتما أصرح عن كتابي؛ أردت تصديق أن والدتي لو كانت على قيد الحياة ستلعب دور أم ليكسي، وتحميني من التداعيات الحتمية المتوقعة من وراء كتابي، وإن لم أصرح عنه بالطريقة الصحيحة، تمامًا كما كان واضحًا لي، كمتفرجة، أن ليكسي لم تفعل.

الحقيقة، أنني لا أعرف لو كانت أمي ستتصرف كما تصرفت والدة ليكسي، أو لو كانت ستحميني، لأنني لم أعرفها بهذا المستوى من القرب. لا يمكنني حتى القول بأنني سأستجيب جيدًا لو كتبت ابنتي عني؛ من نواح عدة، بدت هذه نهاية مصممة للتليفزيون. ليكسي في المرحلة الثانوية أيضًا، وأنا بالغة ومسؤولة عن طفلة. إحدى نواياي وراء إتمام كتابي هي خلق طريقة تجعل الحياة العائلية أكثر صدقًا. الرغبة في منقذ مثالي ليست سبيلًا لتحقيق ذلك. لكنني تذكرت أيضًا ما كتبته سارة بوتون في هذا الشأن، باعتباره أمرًا  تألمت منه لفترة طويلة خلال عملها، تحدثت عن ردة فعل والدها المحبطة عن مقالة نشرتها على موقع نيويورك تايمز، وكيف غيرت هذه التجربة من الطريقة التي تكتب بها عن عائلتها، كتبت "حدث هذا التحول البطيء داخلي على مدار خمسة عشر عامًا منذ أن نشرت هذا المقال، وهو التحول الذي ساعدني بقوة على كتابة مذكراتي ومراجعتها" . كانت تشير إلى تغيير مماثل حدث في روح ميليسا فيبوس أدى فى النهاية إلى الأفكار التي قرأتها في كتابها "حفلة كبيرة دنسة" A Big shitty party. كان لكلا الكاتبتين نهج أولي في الكتابة عن الآخرين والذي تطور بمرور الوقت.

أرسلت لوالدي الكتاب عبر البريد الإلكتروني في اليوم الذي اختبرت فيه أخيرًا نتيجة سلبية للفيروس كوفيد، مع علمي أنها لم تكن طريقة جيدة كفاية لإخباره. وكما هو متوقع، استجاب للأمر مستاءً ومجروحًا بكل الطرق التي خشيتها. بينما لم أمتلك عذر أنني لم أزل في المرحلة الثانوية، لجأت لحقيقة أنه كتابي الأول. على الرغم من أنني أعلم بأنه كان يجب عليّ أن أشرك الأشخاص الذين كتبت عنهم في وقت أبكر مما فعلت، إلا أن اجتياز هذه التجربة، من بعض النواحي، كان ضروريًا لفهمها. لن أقول إن الارتياح الحاصل فيما يتعلق بكتابي هو الشعور الأبرز الذي أشعر به الآن، ولم أنجح تمامًا في خلق طريقة لعائلة أكثر صدقًا. لكنني اقتربت من أسلوب أفضل في العيش مما كنت عليه قبل الكتاب وما تضمنه وأنا مصممة أن أقترب أكثر من تلك الحالة المثيرة المرغوبة بينما أكتب عملي التالي.