النحيبُ فِعلٌ خاصٌّ بالإنسان وحده
"وَإِنَّ شِفَائِي عَبرَةٌ مَهَراقَةٌ": تاريخ موجز للشفاء بالبُكاء
مقال إياد العوادي
مدخل إلى البُكاء
ما الإنسانُ إِن لم يكن بكّاءً؟ أليس البُكاء هو الفعل الأول الّذي يقوم به الإنسان بعد خروجه من رحم أمه؟ وألا يظل هذا البُكاء رديفا مصاحبا للإنسان، يتبعه في لحظاتِ فرحهِ وترحه، في حزنه وسعادته؟ إنه التعبير المفرط عن الحسرة، والألم، وفقدان الحيلة، وخيبة الأمل، كما أنه التعبير الأعلى عن السعادة، والفرح، وتحقيق الرغبة، والفوز بالغنيمة.
يبكي الناس في كل الأحوال، وهناك طائفة بكّاءة متطرفة في بُكائها كُلَّ التطرف، يُبكيها كل شيء، حتى أنها تبكي لرؤية شخص ما يبكي، دون أن تفهم سبب بُكائه. وهناك طائفة أخرى مغالية في جفائها كُلَّ الغلو حتى أنها تكاد لا تبكي ولا تكتفي بعدم بُكائها، أو عدم قدرتها على البُكاء، بل تُنكِر على الآخرين "خاصة الرجال" حق البُكاء، باعتباره دليلا على الضعف وفعلا ينحصر على الأنثى دون الرجل. وطائفة أخرى تتصنع البُكاء اصطناعا، حتى سميت دموعها بدموع التماسيح. ولا يهمنا من هذا كله سوى أن ندرك أن البُكاء ظاهرة عالمية يمارسها البشر منذ القدم، فلا بد للمرء من أن تهرِق عينيه الدمعَ يوما ما.
"والنحيبُ فِعلٌ خاصٌّ بالإنسان وحده فبقدر ما نعلم لا حيوان آخر يمكنه أن يذرف الدموع لأسبابٍ عاطفية. لقد زعم البعض أن الفيلة تبكي وتنتحب، عندما تلتقي بسُيَّاسها، مثلا، أو إذا وبِّخت، لكن لم يؤكّد طرف مستقل حتى الآن حقيقة هذه الدموع الشاذة والنادرة."(1)
لكنَّ السؤال الذي نطرحه في هذا المقال، هو التالي: هل يشفي البكاء؟ أم أن إفراز الدمع وذرفه، مجرد ظاهرة طبيعية يمارسها الإنسان للتخلص من السوائل الزائدة فيه مثلها مثل التعرق، أو التبول، أو غيره من وسائل الإخراج؟
التّطهيرُ بالبُكاءِ
يشير المصطلح اليوناني (التطهير) "catharsis" إلى تنقية المشاعر والتخلص من التوترات العاطفية، وتعود جذور فكرة تطهير المشاعر عن طريق البكاء، إلى الحضارات اليونانية والرومانية القديمة، وقد عبر عنها الشاعر الروماني أوفيد قبل 2000 سنة تقريبا في قوله: "بالبكاء نشتّت غضبنا، ومن المريح أن نبكي، الحزن تهدّئه الدموع وتجرفه بعيدا." (2)
وقبله استخدم أرسطو مصطلح (catharsis) في كتابه "فن الشعر" عندما تحدث عن أن مشاعر الشفقة والخوف التي يشعر بها مُشاهد المسرح التراجيدي، تقوم بتطهيره من هذين الانفعالين، والتطهير هنا كما يوضِّح توم لوتز، لا يعني التنقية والتخلص من هذين الشعورين، بل الحفاظ على مقدار محدد منهما، يسمح لنا بتجربتهما بطريقة صحيّة ونقيّة، بحيث لا تؤثر مثل هذه العواطف مستقبلا على قراراتنا العقلية، ولا تتعارض معها.
"إن الدموع التي نبكيها في التراجيديا هي علامة على أننا ننظف منزلنا النفسي من أجل السماح للعقلانية والانفعالات باستئناف وجودهما في مكانهما الصحيح، وعلى هذا النحو يقدم أرسطو البعد المعرفي في التجربة التطهّرية." (3)
وسبقَ أبقراط أرسطو إلى استخدام التطهير للتنقية من الأخلاط أو سوائل الجسم الأربعة: الدم، والبلغم، والسوداء، والصفراء. وكان يُعتقد أن اختلال التوازن بين هذه الأخلاط الأربعة التي تفرزها الغدد يؤدي إلى المرض، فكان العلاج منها هو التطهير من خلال: النزف، الحقن الشرجية، المقيئات، أو البُكاء للتخلص من فرط الأخلاط، مع الحفاظ على مقدار محدد من هذه الأخلاط في حالة صافية ونقية في جسم الإنسان. والبكاء يساعد على طرد البلغم الزائد من الجسم، وكان أبقراط يرى أن الدموع نفسها يجب أن تُطهر، فالدموع حسب أبقراط "أخلاط تفيض من الدماغ" وهي كأي أخلاط أخرى يجب تطهيرها والتخلص من الزائد منها.
التطهير في العصر الحديث
عاد مفهوم التطهير إلى الظهور حديثا وبشكل واسع على يد سيغموند فرويد الذي كان يرى أن الدموع عبارة عن (رد فعل منعكس) "Involuntary reflexes" تؤثر على التفريغ. فرويد اقترح كذلك التعبير عن المشاعر بأشكال مختلفة بُغية الشعور بالراحة، وأثبتت دراسات وجود الأثر التطهيري للبكاء والأشكال الأخرى من التعبير عن المشاعر خلال جلسات العلاج النفسي. (4)
وتُشير دراسة (5) قامت بناء على مجموعة من التقارير الذاتية التي قدمها 2181 طالبا و2915 طالبة من 35 دولة مختلفة عما يسمى بحلقات البكاء "crying episode" إلى أن هناك عوامل تؤثر في حدوث التطهير بالبُكاءِ، مثل المساندة الاجتماعية "social support" خلال البكاء، أسباب البكاء، وخصائص الوضع الذي يحصل فيه البكاء، وتشير الدراسة إلى أن حلقات البكاء التي يحدث فيها كبح للبكاء أو تُظهر شعورا بالخزي من البكاء، فإنه من غير المرجح أن تؤدي إلى التطهير بعد البكاء.
فكرة البكاء التطهيري لم تنحصر فقط في مجال العلاج النفسي، بل امتدَّت وتوسّعت في مجالات علمية مختلفة، فهناك الكثير من النظريات المختلفة والمتباينة وأحيانا المتعارضة حول الأثر التطهيري للبكاء في مجالات التحليل النفسي، والعلاج الديناميكي النفسي، وعلم النفس الحديث، والفسيولوجيا وغيرها من العلوم، مما لا يسع المقال التطرق لها والحديث عنها، ومن رغب بالاستزادة فنوصيه بالعودة إلى البحث باللغة الإنجليزية الموجود بالمراجع، والذي عدنا إليه في كتابة هذا القسم.
شِعرُ البكاء
البُكاءُ في الشَعر ِالعربي كثير جدا، والشعراءُ البكّاءون كثر، فالشاعر يبكي لفراق حبيبته عندما يقف على أطلالها، أو يبكي عندما يتذكر حبيبته، أو يذكّره بها أحد رِفاقه، وهو يبكي حنينا على أيام الصبا، وشوقا للأهل والبلاد، وحزنا على فراق أهله وأحبابه، لكنَ أصدقَ البُكاءِ وأعذبه في رأيي المتواضع هو بُكاء الرثاء، والموت حقٌّ وهو مصير كل حيٍّ، لكن الإنسان لم يزل لا يعلم كيف يتقبل هذا الموت، فهو مع موتِ كل حبيب أو قريب، يشعر وكأنه فقد جزءا من روحه، ومع كل ذكرى تعيد له ذكرى فقيده يشعر بغصّة في قلبه، وحزن في فؤاده.
"قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ"، قيل: إنما هو يخاطب نفسه، أو صاحبه، أو صاحبيه، ومن عادة العرب إخراج خطاب الاثنين على الواحد. وسواء كان يخاطب نفسه، أو يخاطب صاحبه، أو يخاطب صاحبيه، فإن ما يهمنا هو أن امرؤ القيس شاعر العرب الأعظم، افتتح معلقته الشهيرة، بدعوة إلى البُكاءِ، ولا أحبَ عندي من أن أعتقد أنه إنما يدعو البشرية كلها للوقوف معه والبكاء من ذِكرى حبيبٍ ومنزل، فالإنسان بطبعه يسعد أن يشارِكهُ الناس كُلُّ الناس أحزانه وهمومه.
يعود امرؤ القيس بعد ذلك ليوضح سبب بكائه وحزنه، فيقول: "وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول". أي أن عِلةَ شفائه مما أصابه هو العبرة المهراقة، والمهراق تعني المصبوب، فهو يكثر البكاء لعل كثرة بكائه تشفيه من ألم الوجد والفراق، ثم يعود فيقول "وهل عند رسم دارس من معول"، أي هل من معتمد ومفزع عند رسم قد درس، وهو استفهام يتضمن الإنكار، ومعناه: لا جدوى من البكاء عند هذا الموضع، فالبكاء لا يرد محبوبا، وامرؤ القيس يدرك أن لا جدوى مادية من بُكائه فإن بكاءه لن يرد له محبوبته، لكن هناك فائدة معنوية من البُكاء، فالبكاء يزيل الهم ويحسِّن المزاج. (6)
ويقول ابن الرومي في داليته "بُكاؤكما يشفي إن كان لا يجدي" التي تعد من عيون الشعر العربي، وقد قالها في رثاء ابنه الأوسط محمد الذي توفي في طفولته بين الرابعة والخامسة من عمره (7)، وابن الرومي هنا يخاطب عينيه في مطلع القصيدة، قائلا: "بُكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي". وهو مثل امرئ القيس يرى أن البكاء لن يرد له ابنه المتوفى، ولكنه قد يخفف عنه الحزن ويشفيه من الهم، وهو يحث عينيه أن تجودا بالدمع، فكثرة البكاء قد تخفف عنه المصاب الجلل.
ومثل امرئ القيس وابن الرومي كثير، ممن يرون لا جدوى الدمع في استعادة من فقدوا لكنه على كل حال يبعث على الراحة ويخفف من حدة الألم، فالبكاء يريح من كل هم.
خاتِمةُ البُكاءِ
حتى الآن لا يوجد دليل علمي قاطع على أن البكاء يشفي، ويرى البعض أن التحسن الّذي نشعر به بعد البكاء، يشبه التحسن الذي نشعر به بعد تناول وجبة دسمة، أو بعد تدخين بعض العقاقير المشروعة وغير المشروعة، أو بعد الصراخ، وهذا لا يجعل من كل هذه الأشياء بالضرورة فعلا تطهيريا.
وبالرغم من أن هناك الكثير من الدراسات والأبحاث في مجالات علم النفس، والعلاج النفسي، التي ترى أن للبكاء أثرا إيجابيا في التخلص من المشاعر السلبية، والتوترات العاطفية، والشعور بالراحة، فإن مجال البكاء لا يزال يعتريه الغموض، ولا تزال هناك الكثير من الأسئلة المعلقة التي تنتظر العلم للإجابة عنها.
المراجع:
- تاريخ البكاء "تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي" لتوم لوتز ترجمة: عبد المنعم محجوب، صفحة سبعة للنشر والتوزيع، الرياض. صفحة 17
- المرجع السابق. صفحة 145
- المرجع السابق. صفحة 145
- When is crying cathartic? An International study by: Lauren M. Bylsma| AD J. J. M. Vingerhotes I Jonathan Rottenberg
- المرجع السابق
- شرح المعلقات السبع للزوزني، دار المعارف، بيروت. صفحة 21
- ابن الرومي حياته من شعره للعقاد، دار هنداوي، القاهرة. صفحة 73
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه
