يبحث عن البلوفر في الصوان ويشرع في ارتدائه أمام المرآة. ليس بالأمر الهين، ربما لأن قميصه يلتصق بصوف البلوفر، لكنه يجد مشقة في إدخال ذراعه

لا ذنب لأحد

قصة لخوليو كورتاثار

ترجمها عن الأسبانية: محمد أبو العطا

ضمن مجموعة "كل النيران" الصادرة عن دار هن


غلاف المجموعة

يُعَقِّد البرد الأمور دائمًا، ففي الصيف يكون المرء أقرب إلى العالم الجلد فوق الجلد، لكن زوجته الآن، في السادسة والنصف مساء، تنتظره أمام المتجر لاختيار هدية زواج؛ لقد تأخر، ينتبه إلى أن الجو بارد، يجب أن يرتدي البلوفر الأزرق، أي شيء يناسب البذلة الرمادية، فالخريف ليس سوى لبس وخلع بلوفرات، انغلاق، تناءٍ. بلا رغبة يصفر أغنية تانجو فيما يبتعد عن الشرفة المفتوحة؛ يبحث عن البلوفر في الصوان ويشرع في ارتدائه أمام المرآة. ليس بالأمر الهين، ربما لأن قميصه يلتصق بصوف البلوفر، لكنه يجد مشقة في إدخال ذراعه، شيئًا فشيئًا تتقدم يده حتى تطل إصبعه في النهاية خارج أسورة الكم، لكن الإصبع، في ضوء المساء، تبدو متغضنة ومطوية إلى الداخل بظفرها الأسود المدبب. بجذبة واحدة يخلع عنه كم البلوفر ويتفحص يدًا كأنها ليست يده، لكنه الآن، بعد أن أمست خارج البلوفر، يلاحظ أنها يده المعتادة فيتركها تسقط في نهاية ذراعه المرتخية ويعن له أن الأفضل أن يدخل الذراع الأخرى في الكم الآخر عسى أن يكون أسهل. يبدو أن الأمر ليس كذلك؛ لأن صوف البلوفر سرعان ما التصق مرة أخرى بنسيج القميص، فعدم اعتياد البدء بالكم الآخر يزيد من صعوبة المهمة، وعلى الرغم من أنه راح يصفر كي يهدأ يشعر بأن يده لا تكاد تتقدم وأنه بغير مناورة مكملة لن يتمكن البتة من أن يجعلها تصل إلى الخارج، الأفضل أن يؤدي كل العملية في وقت واحد، أن يحني رأسه ليكون في مستوى رقبة البلوفر وفي ذات الوقت يدخل ذراعه الطليقة في الكم الآخر ويتقدم بها ثم يشد في آن واحد من الذراعين والرقبة.

في الظلمة الزرقاء الفجائية التي تلفه يبدو من العبث أن يواصل الصفير، ينتابه شعور بالحر في وجهة ولو أن جزءًا من رأسه لا بد أن يكون في الخارج، لكن جبهته ومعظم وجهه ما زالا بالداخل، ولا تكاد يداه تتقدمان في منتصف الكمين، مهما يجذب لا شيء يخرج من البلوفر، والآن يجول بخاطره أنه ربما أخطأ في ذلك الضرب من ضروب السخرية الحانقة التي استأنف بها العملية وأنه ربما ارتكب حماقة إدخال رأسه في إحدى الكمين وإحدى يديه في رقبة البلوفر.

لو كان الأمر كذلك لكانت تلك اليد خرجت لي في يسر، ولكن رغم أنه كان يجذب البلوفر بكل قواه لا تتقدم أي من اليدين، فيما يبدو رأسه على وشك شق طريقه لأن الصوف الأزرق يضغط أنفه وفمه الآن بقوة تكاد تثير حنقه، يخنقه أشد مما كان يتخيل ويجبره على التنفس بعمق بينما يبتل الصوف الذي لصق بفمه، ومن المحتمل أن يبهت ويلوث وجهه باللون الأزرق.

من حسن الطالع أن يده اليمنى في هذه اللحظة أطلت على الهواء، على برد الخارج، على الأقل هنالك واحدة في الخارج، ولو أن الأخرى ما زالت حبيسة الكم، ربما كان صحيحًا أن يده اليمنى كانت في رقبة البلوفر، لذا ما كان يعتقد أنه الرقبة يضغط وجهة على هذا النحو ويخنقه شيئًا فشيئًا في حين تمكن يده من الخروج في يسر.

على أية حال، ولكي يتأكد، فإن الشيء الوحيد الذي يستطيع فعله هو أن يواصل شق طريقه متنفسًا بعمق وتاركًا هواء الزفير يخرج رويدًا رويدًا، رغم أن ذلك قد يكون من السخف فلا شيء يمنعه من أن يتنفس جيدًا فيما عدا أن الهواء الذي يستنشقه يمتزج بزغب صوف الرقبة أو كم البلوفر، وهنالك أيضًا مذاق البلوفر، ذلك المذاق الأزرق للصوف الذي قد يكون لوث وجهه الآن فيما يزداد امتزاج رطوبة نفسه بالصوف، ورغم أنه لا يراه، لأنه إذا فتح عينيه تصطدم أهدابه بالصوف على نحو أليم، هو متيقن من أن اللون الأزرق أصبح يغطي فمه المبلول وفتحتي الأنف ووصل حتى صدغيه.

كل هذا يصيبه بالجزع ويرغب لو أنه انتهى من ارتداء البلوفر مرة واحدة، فضلًا عن أن هذا الوقت قد يكون تأخر جدًا وأن زوجته ربما نفد صبرها أمام باب المتجر. يقول لنفسه إن من العقل أن يركز اهتمامه في يده اليمنى لأن هذه اليد، خارج البلوفر، تتصل بهواء الحجرة البارد، وهي كالبشير بأنه لم يتبق سوى القليل، كما أنها يمكنها أن تساعده، يمكنها أن تصعد حتى ظهره وتمسك بالطرف الأدنى للبلوفر بتلك الحركة التقليدية التي تساعد في ارتداء أي بلوفر فتجذبه بقوة إلى أسفل، بيد أن الشيء الغريب أنه على الرغم من أن يده تتحسس ظهره بحثًا عن حافة الصوف يبدو أن البلوفر التف كاملًا حول رقبته، والشيء الوحيد الذي تعثر به يده هو القميص الذي يزداد تجعده بل وخرج جزء منه من السروال، ولا طائل تحت محاولة الشد من مقدمة البلوفر؛ لأنه فوق الصدر لا يحس إلا بالقميص، يبدو أن البلوفر لم يكد يتعدى الكتفين ملتفًا ومشدودًا كأنما كتفاه أعرض من هذا البلوفر، وهو ما يثبت في نهاية الأمر أنه أخطأ حقيقةً ووضع يدًا في رقبة البلوفر والأخرى في الكم، وبذا تكون المسافة بين الرقبة وأحد الكمين هي بالضبط نصف المسافة بين أحد الكمين والآخر، وهذا ما يفسر انحناء رأسه قليلًا إلى اليسار، على الجانب الذي ما زالت فيه يده حبيسة الكم، إذا كان الكم، ويفسر أيضًا حركة يده اليمنى الطليقة في حرية تامة في الهواء على الرغم من أنها لا تتمكن من جذب البلوفر الذي يبدو أنه ما زال ملتفًا بأعلى جسده. في سخرية، يفكر في أنه لو كان ثمة كرسي قريب لاستراح وتنفس بشكل أفضل حتى ينتهي من ارتداء البلوفر، لكنه فقد الاتجاه بعد أن دار عدة مرات في واحد من صنوف الجمباز البهيج الذي يدشن دائمًا ارتداء أية قطعة من الملابس والذي يشوبه شيء من الإيقاع الراقص غير المعلن والذي ليس لأحد أن ينتقده لأن مرده غاية نافعة وليس ميولًا راقصة آثمة.

في واقع الأمر، قد يكمن الحل الحقيقي في خلع البلوفر، إذ إنه لم يتمكن من ارتدائه، والتأكد من المدخل الصحيح لكل يد في كل كم وللرأس في فتحة الرقبة، لكن يده اليمنى ما زالت تذهب وتجيء في طلاقة كأن من السخف التراجع الآن، وهي في بعض اللحظات تستجيب له وتصعد حتى مستوى الرأس وتجذب البلوفر إلى أعلى دون أن يدرك في حينه أن البلوفر التصق بوجهه بتلك اللزوجة الرطبة الممزوجة بزرقة الصوف وعندما تجذب يده البلوفر إلى أعلى يشعر بألم كأنما تتمزق أذناه أو كأن أحدًا يبغي قلع أهدابه. حينئذ على مهل، حينئذ عليه أن يستخدم يده حبيسة الكم الأيسر، إذا كان الكم وليس الرقبة، من أجل ذلك ينبغي أن تساعد يده اليمنى يده اليسرى كي تتقدم من داخل الكم أو تتقهقر وتتخلص منه، وإن يكن من الصعب أن تتسق حركة اليدين كأن اليد اليسرى جرذ داخل قفص ويريد جرذ آخر من خارج القفص أن يساعده على الفرار، إلا إذا كان يعضه بدل أن يساعده على الهرب؛ لأن يده الأسيرة أصبحت تؤلمه على نحو مباغت فيما تنغرس يده اليمنى بكل قوتها في ذلك الشيء الذي قد يكون يده ويؤلمه، يؤلمه إلى حد أنه يتخلى عن خلع البلوفر، يفضل أن يبذل مجهودًا أخيرًا لكي يخرج رأسه من رقبة البلوفر ويخرج الجرذ الأيسر من القفص، ويحاول ذلك وهو يصارع بكل جسده، مندفعًا إلى الأمام وإلى الخلف ودائرًا في وسط الحجرة، إذا كان فعلًا في وسط الحجرة إذ إنه طفق يفكر في أن النافذة تركت مفتوحة وأن من الخطر أن يستمر في الدوران على غير هدى؛ يفضل التوقف على الرغم من أن يده اليمنى ما زالت تذهب وتجيء دون أن تهتم بالبلوفر، على الرغم من أن يده اليسرى تؤلمه أكثر كأنما عُضت الأصابع أو تحرقت، مع ذلك فإن يده تلك تطيعه، إذ إن أصابعه الجريحة التي تتقلص شيئًا فشيئًا تمكنت من داخل الكم، من الإمساك بطرف البلوفر الملتف حول الكتف؛ يجذب البلوفر إلى أسفل وقد خارت قواه تقريبًا، فكل شيء يؤلمه إلى حد بعيد، وينبغي أن تساعده يده اليمنى بدلًا من صعودها وهبوطها بساقيه بلا طائل، بدل أن تقرص فخذه كما تفعل الآن، إذ تقرصها وتخمشها من فوق ملابسه دون أن يتمكن من منعها لأن كل إرادته تنتهي بيده اليسرى، قد يكون جثا على ركبتيه ويشعر بأنه معلق من يده اليسرى التي ما زالت تجذب البلوفر، وفجأة: البرد في صدغيه وجبهته، في عينيه؛ على نحو عبثي يأبى فتح عينيه غير أنه يدرك أنه أصبح في الخارج، تلك المادة الباردة، تلك المتعة هي الهواء الطلق، ولا يريد أن يفتح عينيه، ينتظر ثانية، ثانيتين، يسلم نفسه ليعيش في زمن بارد ومختلف، زمن خارج البلوفر، ما زال جاثيًا على ركبتيه، وما أجمل أن يظل هكذا، رويدًا رويدًا، مبتهجًا، يفتح قليلًا عينيه الطليقتين فيرى الأظافر الخمس السوداء معلقة ومصوبة إلى عينيه، يسعفه الوقت ليطبق أهدابه ويتراجع إلى الخلف مغطيًا وجهه بيده اليسرى التي هي يده وكل ما تبقى لحمايته من داخل الكم، لكي يجذب رقبة البلوفر إلى أعلى، ولكي يلف اللعاب الأزرق وجهه مرة أخرى فيما يتزحزح ليفر إلى مكان آخر، ليصل في النهاية إلى أي مكان بلا يد وبلا بلوفر، حيث ثمة فقط هواء صاخب يلفه ويرافقه ويلامسه واثنا عشر طابقًا.