يحاول نجيب الكيلاني أن يحكي ماضي جاد الله ليستدر عطف القارئ عليّه كما أشفق عليه حسنين وشيخه أبو زهرة
عن الروايات الدينية: كيف تذكرنا حكاية جاد الله بحكاية فاوستية عن أحزان الشيطان؟
مقال عمرو أحمد
تعتبر ماري كوريللي Marie Corelli كاتبةٍ فكتورية نموذجية، على مستوى أفكارها وطبيعة كتابتها، فقد جاءت في زمن "نهاية القرن" fin de siecle المميزة بالخوف والشعور بالإحباط من انحطاط أخلاق المجتمع والمشبعة بلمسة من الفكرة الرومانسية التي ترى المسيحية والدين حلاً مناسباً لهذا الانحطاط. لكن روايتها تتميز بلمسة مهمة على المستوى الشخصي عن ما يعد روايةٍ فكتورية، فماري كوريللي شخصية غريبة، تعتنق فكرةً مشهورة تعتبر أن الفنان شخصية غريبة الأطوار ومثيرة للشكوك، وإنعكس هذا على حياتها –لدرجة أن جزءاً كبيراً من سيرتها الذاتية غير مؤكد نتيجة لطبيعة حياتها- وأسلوب كتابتها المليئ بالذاتيّة، وقد وصفت في كتاب "مقدمة القديس جايمس لكتاب الإثارة" بأنها "كانت ناجحة نتيجةً لأنها كانت قادرة على أن تُظهر للعالم سفسطائية سخيفة حاولت أن تحشر أفكارها الدينية بها، إضافةً لتخيلاتها النرجسية التي تخيلت فيها نفسها مستحقةً لصحبة الملائكة على صحبة البشر.". ولذا كان نجاحها الهائل على المستوى الشعبيّ محل تجاهل من النقاد قديماً والآن، الذين اعتبروا أن نجاحها يعود لمستواها القليل الذي كان مناسباً لأفكار العامة.
علي الجانب الآخر، لدينا كامل الكيلاني، كاتب إسلامي نموذجي، ولأن الإسلام يتضمن قيم التواضع والإنضباط، لم يكن كامل على نفس القدر من الغرابة والذاتيّة كماري، بل أنّه في غزارة إنتاجه قارب على أن يكون علامةً من علامات الأدب الإسلامي، ولم يكن إستقباله بنفس التجاهل أيضاً، فقد تحدث عنه نجيب محفوظ واعتبره من أهم منظري الأدب الإسلامي، ولهذا كانت شعبيّته في أوقاتٍ كثيرة، نتيجة لطبيعة كتابته التي استهدفت جمهوراً بعينه، جمهور يبحث عن نوعٍ من الروايات "المحتشمة"، حيث "المتعة الحلال" وفي الوقت ذاته الإستفادة على المستوى الأخروي.
وليس من الصعب بناءاً عليه أن نرسم خطوطاً عريضة للتشابهات بين ماري ونجيب بالرغم من التفاوت الزمنيّ بينهما، فنري في رواية ماري كوريللي "أحزان الشيطان" The Sorrows of Satan عام 1895 تحسراً على الزمن المفقود من الأخلاق الأدبية الرائعة، وفي الرواية تنعي الكاتبة هذا الزمن عن طريق الشيطان، ثم تذكرنا بأن "الشيطان نفسه كان يوماً ما ملاكاً" ثم تبني تبايناً في شخصية الكاتبة "مافيس كلير" التي تظهر في هيئة "ملائكية" وشاعرية كنقيض لكل ماهو سئ في الرواية. وفي النهاية تختار الكاتبة حلاً "مسيحياً" بإختيار البطل جيفري تمبست لصحبة الله على صحبة الشيطان الزائفة.
وبعدها بأقل من قرنٍ كانت رواية "حكاية جاد الله" للكاتب نجيب الكيلاني تُقدم شخصية "جاد الله" الحارس بالسجون، وهو نقد الكاتب للزمن الفاسد، لأن جاد الله يعكس كل أخلاق وقيم الزمن من الطمع والجشع واللأخلاقية، ثم يخلق تبايناً في شخصية "حسنين" الملتزم الخيّر الذي يحاول نصح جاد الله قدر ما أمكن، وفي النهاية ينصاع جاد الله لرغباته، وعكس ماري كوريلي التي إختارت لبطلها نهايةً جيدة، إختار نجيب كيلاني لبطله الموت إنتحاراً بعد أن إختار طريق الشيطان، وكانت آخر جملة في الرواية "ودفن جاد الله في مقابر الصدقة".
ولكن ليس إختلاف حب نجيب الكيلاني لبطله من ماري كوريللي الفارق الوحيد بين الروايتين. وعلى سبيل المثال ماري كوريلي لا تكتب حواراتها على شاكلة "الردود الساخنة":
- أنا لم أمت جوعاً
- لأنك رجل بلا طموح
- أنت واهم. طموحي على قدر طاقتي
- وماذا تركت لأبنائك يا حسنين؟
- تركت لهم الله ورسوله
- أما سمعت! المساء لا تمطر ذهباً ولا فضة
- بل تمطر رحمة وإيماناً وأملاً
- كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع
- لكنها رأس مالي
- جنة من الوهم
وكل جملة موضوعة بين علامتي تنصيص للتأكيد على أهميتها على ما يبدو. إن "الردود الساخنة" تتيح للكاتب مساحةً في التعليق المباشر كما يشاء على شخصياته، ولذلك فهي لا تخلق شخصيات مستقلة حقيقية -فليس هذا هو الغرض من تلك الروايات بأية حال لأن الوعظ يجب أن يكون مباشراً- لكنها كما هو بيّن، تعيد إنتاج الأفكار الإسلامية في أبسط صورة قابلة للاستهلاك.
مرجعية نجيب الكيلاني الإسلامية في معالجة مشكلة الشر كانت من الاختلافات الملحوظة بين الروايتين، ولذلك فهو أكثر تواضعاً وأقل مراهقةٍ من ماري كما أشرنا سابقاً. فلا بطل مثل "مافيس كلير" يمثل شخصية الكاتبة الناجحة لدرجة أنها لا تحتاج النقد -الذي استجلب عليها كراهية النقاد لدرجة وصف روايتها بأنها من "أسوأ أنواع التفاهات الفيكتورية.”- لكن هناك حسنين المتدين وزوجته الهادئة، وأبو زهرة شيخ المجلس، وكلهم متواضعون وعلي خُلق، ويمثلون قيّم الدين الإسلامي خير تمثيل. والتشابه الشديد في الأخلاق وخيريّتهم يلفت الانتباه لمدى أهمية المرجعية الإسلامية في بناءهم، لدرجة أن الكاتب يصفهم على لسان جاد الله بأنهم "بدوا وكأنهم نسخ مكررة من كتابٍ واحد.” قبل أن يتدارك بالقول إنه "أدرك الفروق في السحنات والعمر ودرجة الإشراق" وهي اختلافات في مدى جودة تغليف الكتاب إذا جاز لنا استخدام استعارة نجيب. ولأن نجيب الكيلاني "كاتب مُحترم ومن علامات الأدب الإسلامي" فهو يتجنب بإستمرار أي وصف مدقق للمشاهد الجنسيّة -ولم يكن هذا كافياً لإرضاء بعد القرّاء ممن رأوا أنه لا حاجة للمشاهد الجنسية الخادشة للحياء!- وحتى الظبّاط في روايته يسمعون أمر أبو زهرة ويسمحون لهم بصلاة الفجر وهم في السجن، وهنا تبدأ التشابهات في الظهور، عالم حسنين وشيخه عالمٌ ربما لا يختلف كثيراً عن عالم "مافيس كلير" الملائكي المليء بالخير والرحمة، عكس عالم لوتشيو الشيطان المليء بالخبث والشر، ونظيره عالم جاد الله الملئ بأخلاق السوء.
ولكن جاد الله ليس سيئاً لأنه خلق هكذا، ويحاول نجيب الكيلاني أن يحكي ماضي جاد الله ليستدر عطف القارئ عليّه كما أشفق عليه حسنين وشيخه أبو زهرة، وكان ماضي جاد الله في الإسطبل في حياة تمتلئ بالمعاناة والذل، وأبوين تخليّا عنه في سنٍ مبكرة، وصولاً بخدمته القاسيّة في السجون الحربيّة. ماضي يبرر للقارئ فهم منظور جاد الله الوحشيّ وأخلاقه شديدة السوء الغير مقبولة، لكنه لا يهدف بأيّة حال لتصوير جاد الله بشكلٍ إيجابي، فالتعاطف هنّا موجه عليّه، ليس معّه، ليس من المفترض أن نتعاطف مع جاد الله لمعاناته، فالمعيّة هنا تثبت أن معاناة جاد الله هي معاناتنا كلّنا وهي من ثم تبرير للطريقة الغير إسلامية التي نعيش بها حياتنا، لكن التعاطف عليه في المقابل، يحجّمه في فضاء من الحالات الغريبة، الحالات الشاذة التي لا يمكن لنا سوى أن نشفق عليها كما نشفق على الحيوان الذي تركه والداه في الشارع، ولن نشعر أبداً في حالته بنوعٍ من العزاء لمشاكلنا، فجاد الله لا ينبغي أن يمثل بأي حال شخصاً طبيعياً.
وقد كان التباين الذي أوجده نجيب الكيلاني يؤكد دائماً على هذه الحقيقة، فعالم الأخيار يدعّون له بالهداية ويعاملونه باليسر مهما عاملهم هو بالعُسر. ولأن حياتهم نظيفة ومليئة بالخير، فهم ما يفترض بالقارئ أن يكونه وأن يشعر بالتعاطف معه، أن يتخذ جانبهم وأن يشعر في النهاية بأنهم الحل لكل ما هو سئ. وهو أمر مفهوم إذا كانت روايات نجيب الكيلاني منظر "الأدب الإسلامي" كما وصفه نجيب محفوظ، ولكن الروايات لا تنشر لكي يقرأها جمهورها المستهدف وحده، وإلا ما رأينا التصريحات الغاضبة لقارئي جودريدز على كلاسيكية بسبب تفاهة تصرفات البطل فيها، ولما رأينا أيضاً إمتعاض بعض القرّاء من الأدب العربي الشائع باعتباره مُبتذلاً للغاية، والأهم من ذلك، ما وجد جاد الله طريقه للتعاطف والتوحّد مع قضيته كما صار الشيطان في رواية ماري كوريللي.
فكلاً من جاد الله والشيطان لوتشيو يعيشان في عالم محتوم، لا بُعد فيه لإختياراتهما، ويبدو ذلك بوضوح مع جاد الله، ولا يغير كونه إنساناً لديه القدرة على الإختيار من حقيقة أنه يبدو مدفوعاً دائماً بشهواته ورغباته الحادّة التي صاغها ماضيه المؤلم، وعندما يصل جاد الله للحظات القاع، يتذكر ماضيه وكيف كان فيه مذلاً مهاناً، ويتذكر لوتشيو في النهاية اللحظة التي حُكم عليه فيه بأن يكون مصدراً خالداً للشر، ورغم أن ماضيهما ليس مبرراً على ما يبدو -وفقاً لفكرة الروايتين- لأعمالهما، فالفكرة المسيطرة على الروايتين هي أن الإنسان عنده قدرة الإختيار والتطهر دائماً مهما كان وضعه، فإن الروايتين تفشلان في السيطرة على معاناة أبطالها، وبدلاً من ذلك، فإنّه في سياقٍ من الروحانية والتدين، تضع الروايات القارئ على المحك في الإختيار بين الفرد أو الإله في زمنٍ مات فيه الأخير.
أسلوب النُصح المباشر هو واحد مما يميز أسلوبا الكاتبين بالرغم من إختلاف فتراتهما. التعامل مع القارئ كما لو كان طفلاً، أو مراهقاً يرتاد الحلقات الدينية ولا يمتلك ما يكفي من العقل للتفكير بنفسه -أو قارئ شعبيّ لا يرى في الروايات سوى فرصة للتسلية كما هو حال القارئ في حالة ماري كوريللي- والمباشرة في الوصف والتعليق على الأبطال وإتجاهاتهم، فجاد الله "يقهقه كشيطان" ويذكر مباشرةً أن قناعته هي "أنا وليذهب الجميع إلى الجحيم" وهو في تعامله مع انتصار "يمسك بذراعها العارية كوحشٍ ضار" وكلماته الأولى في الرواية هي "لقد حكم علينا بالفول والباذنجان حكماً مؤبداً. أعوذ بالله". لكن حسنين "يشيح بوجهه" و"يتمتم" وعندما تعود ابنته بعد يومٍ طويل في كلية الآداب "يستقبلها بين ذراعه وكأنه ظامئ ينهل من الماء الزلال بعد رحلة شاقة في الصحراء" –وهو تعبير يدفعنا لممارسة بعض النقد الفرويدي على نجيب كيلاني– ومكان الحلقة "يوحي بالسكينة والوقار" ووجوه الحاضرين فيها "تفيض بالإشراق والإطمئنان". وليس الأمر مقتصراً على صورة البطل الكرتوني الذي يقول "أنا شرير" لكي يساعد الأطفال في تحديد الطرف الجيد من السيئ، ولكن إبتزاز القارئ عاطفياً للتفكير كما يريد الكاتب، في أن الخير صورته واحدة، وأن القارئ مرغم على أن يتعاطف مع هذه الصورة فقط ولا شئ سواها، وإلا فهو سيخاطر بأن يصنّف نفسه مع حفنة الأشرار الذين يشربون الويسكي ويمارسون الفجور مع بعضهم بلا حرج.
تشترك الروايتان أيضاً في كونهما متدينتين، وهو أهم ما يجعلهما كاتبين مناسبين لفترتيهما –أو ممثلان "لروح عصريهما" إذا جاز لنا الوصف– فيري نجيب كيلاني العالم في وقتٍ وقعت فيه الحرب ضد إسرائيل وكانت الحياة السياسية في مصر على أشدّها بأنه انحدار حقيقي في الحياة والأخلاق العامة، وهذا النوع من "الأبوكالبيس الديني" هو ذاته الذي رأت به ماري كوريللي العالم وقتها عندما كتبت روايتها، وتشترك ماري كوريللي مع نجيب الكيلاني مجدداً في أن روايتها عُدت من علامات روايات مرحلة "نهاية القرن" fin de siecle التي امتازت بجو التشاؤم والعدميّة من التحوّل الأخلاقي وقتها. ولذلك فإن الروايتين أيضاً تحافظان على نمطٍ من نقد الحياة العامة في عصريهما، فماري كوريللي ترى أن النساء في الطبقات البورجوازية في بريطانيا مجرد سلعة، ونجيب كيلاني يعتقد أن زمنه أباح للعاصي والفاجر أن يُظهر عصيانه وفجوره بينما قيّد المتدين وعاقبه إذا أظهر نفسه. وليس نجيب كيلاني أو ماري كوريللي منفردين في رؤيتهما لعصرهما على أنه قاع البشريّة، فقد كانت هذه الرؤية العلامة المميزة لأي نبي أو فكرٍ ديني قديم، وما من حافز أفضل من أن تكون النهاية قريبة لكي يصلح الناس أعمالهم.
والحل في كلتا الحالتين هو الدين، مع اختلاف التعريف في الحالتين لما هو "دين"، فدين نجيب كيلاني دين شديد الوضوح، دين له أساسات سياسية ترجع لتجربة نجيب كيلاني الشخصيّة في السياسة مع جماعة الإخوان المسلمين، ولكن في نفس الوقت قادر على التراجع لكهوفٍ من التصوّف والجهاد الأكبر ضد النفس، وأحياناً الوصول لدرجات عليا من التسامح المسيحي درجة أن حسنين لا يتغير في معاملته مع جاد الله بعد معرفته بأن الأخير قد وشي بجماعتهم وتسبب في تفرقتها، بل ويقف معه في محنته عندما دخل السجن. أما دين ماري كوريللي، فهو دين يختلف في مدي أصوليته المسيحية، ويستخدم ثيمات غير مسيحية كإعادة الإحلال، لكنّه يلتزم بالحد العام من الفكرة الدينية في إستخدام استعارة دينية مهمة كالشيطان وثنائية الخير-الشر وفقاً لحكم الله. وينطلق حلّاهما من نفس النقطة، نقطة الشر الذي ينبغي معالجته، فلا تفقد الروايتين أملهما في إصلاح العالم المليء بالفساد، لكنهما يتفقان طبعاً على كونه فاسد ولذلك فالروايتين في حاجة لاستدعاء التصور اليوتيوبي المستدعي من الدين للعالمين، لإثبات هذا الفساد ولاحقاً إصلاحه.
لكن الروايتان لا تصلحان الفساد بشكلٍ كامل، وهذه هي النقطة الأهم فيما يتعلق برؤية الأبوكالبيس الديني. فالشيطان لوتشيو يظهر في آخر الرواية مرافقاً للوزير، وجاد الله يموت أثناء خسارة مصر للحرب نتيجة لإنحطاط أوضاع مجتمعها، رغم أن جيفري تمسبت وجاد الله قد حلّا مشكلتيهما –على نحوٍ مختلف– إن الأبوكالبيس الديني لا يعترف بسهولة الموقف، رغم ظهور حلّه الواضح نسبياً من الرجوع للدين في مواجهة الشر، الدين لا يمكن أن يحل المشكلة إذا كان المجتمع نفسه غير متقبل للدين، وهو ما يمثلّه إستمرار الشر. ويمكننا القول بناءاً عليه، أن رؤية الأبوكالبيس الديني لا تري حلاً نهائياً للأزمة البشريّة، فالإسلام في النهاية يقرّ بأنه سيعود غريباً كما كان حتى وإن كان كثرةً، لكن الإسلام والمسيحية وباقي الأديان تشترك في إقرارها والتأكيد على اللحظة المصيرية التي سيأتي فيها المخلّص ليقضي على الشر ويسمح للخير والعالم الآخر بالحلول. وفي غياب شخصية المخلص في كلتا الروايتين، يمكننا فهم كيف صار التعاطف مع واقعية جاد الله الوحشيّ أو لوتشيو الشيطان أمراً أكثر منطقية من الانسياق وراء أحلام الخلاص الديني.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا جرى الاستعانة بمقاله دون إذن منه