تميل لغة السلطة التنموية إلى استيراد نمط قائم على وضع سياسات مركزية من خلال إقصاء الفعل السياسي والسيطرة عليه

العمارة في خدمة الوطن: قراءة في كتاب الحداثة الثورية

مقال علي علاء

مراجعة كتاب محمد الشاهد «الحداثة الثورية: العمارة وسياسات التغيير في مصر 1936: 1967» ترجمة أمير زكي - المركز القومي للترجمة - 2020.


المعماري المصري سيد كريم يخطط مدينة نصر

عند سرد التطورات الحضرية، تتجاهل الكتابة التاريخية المصرية رؤى المعماريين والمهنيين الذين ساهموا في هذه التطورات. إلى جانب هذا، يجرى انتزاع المدينة من ساكنيها بقيادة الدولة والطبقات الموالية لها في عمليات النهوض بالحيز الحضري من جهة، والسيطرة على حركة الجماهير من جهة أخرى. لكن في المقابل ثمة قراءة جمالية تركز على تاريخ مبان بعينها كالمساجد والقصور تجعل الرؤى المعمارية رثاءً لمرحلة تاريخية بعينها.

يقدم محمد الشاهد فى كتابه «الحداثة الثورية: العمارة وسياسات التغيير في مصر 1936: 1967»، الصادر عن المركز القومى للترجمة والحائز على جائزة الدولة التشجيعية عام 2023، قراءة مغايرة لسياسات العمارة معتمدًا على مفهوم «الثقافة المعمارية» التي أخذت في التشكل عبر حقبة الثلاثينيات مرورًا بالستينيات، واستخدمتها النخبة الثورية من أجل الترويج لانجازاتها أمام الجماهير. 

ومن أجل تحليل هذا المفهوم لا بد من استخدام مقاربة خطابية قائمة على فهم التطورات المعمارية من خلال سائر المطبوعات والصحف والمصادر المرئية كمجلتي (العمارة والفنون) و(المهندسين) ، ومجلتي (آخر ساعة) و(المصور) التي أصبحت أدوات معرفية تروج للمفاهيم والسجالات الهندسية والمعمارية بالإضافة إلى الكتيبات التذكارية لإيصال إنجازات الثورة بشكل دورى. وهو في هذا الأمر متأثر بأطروحة ميشيل فوكو في كتابه «حفريات المعرفة» الذي يسعى إلى دراسة القواعد المنتجة للخطاب بدلًا من تاريخ الأفكار ويقرأ المعرفة بوصفها نسقًا تصاعديًا عبر نقطتي بداية ونهاية.

مهنيون وسياسات

يبدأ الفصل الأول بعرض السردية الوطنية تجاه سلطة التمثيل المعماري منذ عهد الخديوي إسماعيل في المعرض الدولي بباريس عام 1867 مرورًا بسلطوية الدولة التي ظهرت بوضوح في  مشاركة مصر في معرض بنيويورك عامي 1939 و1964  سواء أكانت في الفترة الملكية أو الحقبة الناصرية ما أدى الى تهميش دور المعماريين الذين ساهموا في المشروعات التنموية مثل: سيد كريم ومحمود رياض وغيرهم.

يمكن فهم إسهامات المعماريين عبر سؤال الشخصية القومية الذى سيطر على النخب المحلية من خلال قراءة لمجمل التغيرات البنيوية الداخلية التي شهدتها الحواضر المُستعمرة كالقاهرة، حيث أراد الفاعلون المحليون تقديم رؤى حداثية متجاوزة للمرجعيات الأوروبية التي نظرت إلى تاريخ العمارة في بلدان العالم الثالث عبر ثنائيات استعمارية مثل المركز/ الهامش والأصالة/ المعاصرة.

تعتبر سياسات التمصير وإلغاء الامتيازات الأجنبية 1937 شكلًا من أشكال السياسات القومية التي تحتاج إلى بيروقراطية الدولة، ما جعل الطبقة البرجوازية الحاكمة تستوعب الطبقة الوسطى للقيام بالوظيفة الاجتماعية وادعاء تمثيل الشعب، ولا يمكن فهم هذا الأمر إلا من خلال دراسة التحولات داخل الطبقة البرجوازية التي أدت إلى صعود الفئات المهنية كتعبير جديد عن عالم يصوغه الخبراء.

تشير عفاف لطفي السيد في كتابها «تجربة مصر الليبرالية» إلى بزوغ بنيان جديد للطبقة الحاكمة مرجعه سياسات التصنيع، ما ساهم في صعود طبقة برجوازية حضرية مترابطة من ملاك الأراضى ورجال الصناعة حيث أصبح نمط التعليم بين أبناء الأثرياء مائلًا نحو التخصصات العلمية كالهندسة التي طغت على هؤلاء البرجوازيين الجدد الذين شكلوا جيلًا مهنيًا مثل: مصطفى فهمى ومحمود رياض وسيد كريم.

تصبح الطبقة الصاعدة التي يتصدرها المعماريون والمهندسون تعبيرًا عن النفوذ الجديد الذي اكتسبه جهاز الحكم من خلال أسس عقلانية تقوم على التخطيط وإعادة البناء حيث يعاد تشكيل حياة السكان وحشدهم داخل مفاهيم الرفاه الاجتماعي والتحديث. وفق هذا النفوذ لم تعد مهمة الدولة مجرد الادارة، بل التدخل فى حياة سكانها وإدخالهم في العملية التنموية.  

ينبغي فهم انتقادات سيد كريم للأشكال المعمارية المصرية هنا في سياق صعود سؤال الهوية الذي صاغته الانتليجنسيا، لهذا شكلت نداءات كريم بعمارة محلية نموذجية تعبيرًا عن التطورات العالمية تجاه مفهوم الحداثة الذي لم يعد قائمًا على النزعات الجمالية، بل أصبح المكان هو المسيطر على السياسات والأفكار في صياغة مشهد حضري يعكس قدرة البلدان على استخدام التقنيات الحكومية.

ساعد التفكك الاجتماعي وفقدان سلطة رأس المال المحلى الانتليجنسيا في حشد السكان وراء الشعارات الوطنية والحديث عن المصلحة العامة، ولم يتم هذا الأمر بدون النزعة الأبوية التي سيطرت على دولة "الانتليجنسيا الوطنية" عبر أدواتها المعرفية المختلفة كاللغة الوطنية والمصادر المرئية، ما سيبلور هوية قومية تشتبك مع رؤى المستعمرين. لكن لكي تتجسد تلك الهوية لا بد من دمجها والعمل على إيصالها للجماهير، وهو ما قامت به الصحف والمجلات عبر بنية اقتصادية رأسمالية تقوم على تكنولوجيا الاتصال (الطباعة) من أجل التعبير عن قدرتها على الإدارة من خلال التخطيط.

أصبحت الصحف والمجلات على غرار مجلة العمارة التي أنشأها سيد كريم عام 1939 حتى وقف صدورها عام 1959 وما تلاها من مجلات مهنية مثل: مجلة الهندسة عام 1945، أو تابعة لمؤسسات صحفية مثل: بناء الوطن بين عامي 1958 و1966 التي أصدرتها جريدة الجمهورية الوسيط الثقافي المعبر عن الرؤى الحداثية للهويات القومية في إنشاء عمارتها الوطنية والمنجز التنموي للدولة أمام الجماهير.

راكم المعماريون بفضل تلك المجلات والصحف رأسمالًا ثقافيًا يضعهم على قمة المخطط الطبقى بصفتهم خبراء يعملون على توثيق المنجز المعمارى الوطني في مختلف الأقطار العربية عبر النقابات المهنية المؤسسة حديثًا والمؤتمرات التي رعتها الحكومات العربية الباحثة عن شرعيتها أمام جماهيرها.

يمكن قراءة المؤتمرات المهنية التي عقدت في البلدان العربية مثل: مؤتمرات المهندسين أعوام 1945 في القاهرة، و1947 في دمشق، و1950 في بيروت مرورًا بإنشاء النقابات المهنية مثل: نقابة المهندسين المصرية عام 1945 بوصفها أشكالًا للتنظيم النخبوى القائم على خلق مجتمع مهني من جهة واستدعاء منظومة الدولة لقيادة المشروع الوطني التنموي أمام جماهيرها من جهة أخرى، ما احتاج إلى صعود المهندسين محل المعماريين حيث لم يعد التصميم الجمالي وسيلة جذب للرعاة أو الطبقات الوسطى الصاعدة وإنما الغاية النهائية من إيجاد حلول للمشكلات الحضرية من خلال  التركيز على التخصصات الدقيقة مثل: الهندسة والميكانيكا ما جعل الشكل التقني هو المطلوب من أجل  التحديث الوطنى.

تمت صياغة المشروعات الوطنية وفقًا لشعار "يد تبني وأخرى ترفع السلاح" بالاشتباك الأيديولوجي القائم على مبدأ الوطنية فكان تأميم العمل النقابى والسيطرة عليه ضرورة ترافقت مع صعود الناصرية كأيديولوجيا هوياتية تنفذ طموحات الشعب الذي جرى استبعاده، وهذا ينعكس على أمرين: الأول نسبة المهنيين في سجلات نقابة المهندسين التي بلغت 18 ألف مهنى بينما المعماريون 972 فقط. الثاني، زيادة شعبية كلية الهندسة بعدما ساهم التزام عبد الناصر بسياسة التصنيع التي انعكست في البناء المتزايد لمصانع الأسمنت والخرسانة والحديد من أجل رسم حداثة العمارة الوطنية.

رؤى ومخططون

حينما تتأزم الأوضاع، لا ترى الانتليجنسيا المستقبل إلا من خلال جذورها التأسيسية بداية منذ عهد محمد على واكتمالها في عهد الخديوي إسماعيل، وهو ما يجعلها قادرة على بلورة ماضٍ وطني للخلاص من الأزمات الراهنة من أجل أن تصبح الحارس الأمين للدولة، وفى سعيها هذا تستعيد قيم الضبط والعقلانية من أجل قيادة المنجز الوطني.

ولفهم ذكرى الماضى جيدًا لا بد من عودته منظمًا ودليلًا على الكفاءة، وهذا يقودنا الفصل الثاني إلى جذور اهتمام سيد كريم بمشروع القاهرة الحديثة تحت رعاية الخديوي إسماعيل ومهندسه علي مبارك في القرن التاسع عشر التي استجابت للتغييرات الحضرية بينما افتقرت نخبة فاروق إلى الرؤى اللازمة للتدخل لبناء مستقبل حضري يستجيب للتغيرات عقب الحرب العالمية الثانية. يسمح ذلك باستعادة الماضي في صوره الأكثر انضباطية للدلالة على عمليات الحوكمة والعقلانية التي أرادت بها السلطة الخديوية آنذاك إدارة الحيز الحضري.

تقوم اقتراحات سيد كريم تجاه النسيج الحضري بالأساس على تصورات صناعية، كما يرى الشاهد، من خلال مقال كتبه كريم في مجلة الهلال عام 1950، وهو ما يجعله يقع في تضاد مع الرؤى الحكومية التي تركز على آليات الإقصاء والتفريغ تجاه المشكلات الحضرية. يمكن قراءة هذا التضاد عبر اقتصاديات التعمير التي لا تبحث عن تدخلات متسارعة وإنما إعادة تأهيل وتصميم الحيز المديني من خلال وضع المدينة ككائن حي له قلب مركزي.

إن التنظيم الصناعي يقوم على استغلال مواطن الضعف، والعمل على تكثيف عمليات التنظيم والإدارة، ما يساهم في تحول المدينة من حيز مكاني إلى فضاءات قادرة على إنتاج الفوائض الرأسمالية وخلق منظومة تنتج الخدمات والاستهلاك للمواطنين.

تأتي السيطرة البصرية على مجمل السكان بالتوازي مع عمليات الحضرنة عبر تنصيب التماثيل والنصب التذكارية التي تعمل على سيادة العنصر المرئي للمؤسسات الوطنية وكيفية خلق تاريخ أمة من خلال شخصيات بعينها وإقصاء أخرى، وهو أمر ظل مسيطرًا على نقاشات المهنيين سواء في فترة الماضى الملكي أو رؤى النظام الثورى.

يشير الشاهد إلى سؤال إحياء الذكرى الذي ظل مهيمنًا على رؤى النظام الثوري من أجل عملية تجميل القاهرة والتى بدأت خطواتها منذ عام 1955 بنقل تمثال الملك رمسيس ليحل محل تمثال نهضة مصر أمام محطة القطار لكن لا يمكن فهم هذه العملية دون قراءة الحيز الحضري كساحة منبسطة ملساء.

تتميز الساحة المنبسطة باللاتناغم والنشاط العشوائي، ومن أجل السيطرة عليها لا بد من ضبط هذه الساحة جيدًا بواسطة الدولة، وفى النموذج المصري الذي تنازع عليه نظام ثوري يريد إعادة صياغة الحيز الحضري، وسيطرة ملكية قائمة على تشييد تماثيل ونصب تذكارية، كان من الضروري بلورة هوية وطنية مشتركة والعمل على تنظيمها للسيطرة على الشعب، ما جعل عمليات نقل التماثيل الفرعونية لا تمثل علامة من علامات القوة على أجساد الشعب أو السيطرة على أفكارهم، بل القدرة على تنظيم الحيز اليومي وترك علامات تشعرهم بالضآلة أمام منجز الدولة الوطنية.

تصبح الدولة في هذه الحالة جهاز استيلاء لا ينظم الشعب وراء خطاب الرعاية فقط، وإنما يعمل على خلق التناغم المطلوب بين الماضى والسكان بحيث تعيد الدولة تعريف هذا الماضى البطولى للجماهير ومن أجل هذا لا بد من تنظيمه والإكثار منه حتى يكون دليلًا على الحداثة الثورية.

استوجب صعود الهوية الوطنية تغييرًا فى قلب المدينة من خلال تقديم رؤى المخططين التي اتسمت في أوقات كثيرة بإقصاء الماضي الاستعماري وإحلال السياسات الوطنية عبر مخططات الهدم والبناء التي ترجع الى عام 1947، حيث أراد المهنيون استغلال هذا الأمر الملكي من أجل صياغة المستقبل الوطني يعبر عن رؤاهم، لكن مجيء النظام الثورى ساعد على إعادة بلورة الرؤى المهنية من خلال إدخال عناصر تخاطب الميول السلطوية للنظام الجديد عبر تشييد الأنصبة والتماثيل.

كانت دعوة سيد كريم في عام 1953 لإعادة تصميم الواقع الحضرى متوافقة مع الحاضر الثورى الجديد من خلال إحلال الوجه المدينى محل الثكنات العسكرية، وهو ما يوحى بزوال السيطرة الاستعمارية وإفساح المجال للسلطة من أجل استيعاب رؤى جديدة تنهض بالواقع الحضرى، لكن ما أراده النظام الثورى هو الاكتفاء بتأسيس سردية جمالية أكثر منها تدخلًا في المشهد الحضري.

ومن أجل قيادة عمليات الحوكمة والعقلانية الإدارية سعى هذا النمط البونابرتي من الحكم، وهو الوصف النموذجي للنظام الثوري الجديد، إلى عمليات الحضرنة التي تعد إحدى الطرق التي تساعد في عمليات تراكم الأموال، وهو ما يستلزم إعادة تأهيل الحيز الحضري والسيطرة عليه من أجل التحكم في العوائد المالية الذي يجعلها المسيطر الوحيد على السردية الوطنية النهضوية. فلكي تسيطر على رأس المال لا بد أن تبرهن لأصحاب رؤوس الأموال أنك حكومة قادرة على مراكمة الأموال بل وتنظيمها ومن ثمة الاستغلال المنظم للرأسمال.

نستطيع اعتبار حريق القاهرة نقطة تلاقٍ بين فضاء اجتماعي مهمش وأزمة رأسمال البرجوازي في استيعاب هذا الفضاء، وذلك ترافق مع صعود الرؤية التنموية تحت قيادة البرجوازية الوطنية التي تنطلق من مقولات جوهرية تركز على الإنتاج من أجل منظومة الرخاء الوطنى التي أدت إلى تأسيس جسد اجتماعى متناغم تخاطبه السلطة عبر الميول الاستهلاكية وهذا ظهر في إعادة ترميم المحلات المدمرة تحت أعين قادة النظام الثورى.

مركزية ومحليات

يركز الفصل الثالث على قراءة السياسات المركزية التي انتهجتها الحكومات المصرية سواء في العصر الملكي أو مع قيام النظام الثوري تجاه المشكلات المحلية التي ظهرت بشكل واضح داخل المدن الإقليمية مثل: بورسعيد والإسماعيلية ما أدى إلى تعميق الفجوة بين المركز والأقاليم، وطريقة استجابة النظام الثوري للتحديات التي تركها العدوان الثلاثى على المدينتين عام 1956.

تستطيع الحداثة الوطنية تأطير الموارد الطبيعية ضمن تراتبية عقلانية قابلة للحساب تعبر عنها الإحصائيات والبيانات ومن أجل هذا لا بد من قيام المركزية حتى تستطيع الدولة إدارة مواردها وتحقيق النهضة التنموية. بالتالى لم يعد لواء التحديث وليد صراعات من أجل إنشاء سلطة كما حدث بين وال عثمانى يبحث عن استقلال وقوى محلية وإنما أصبح هذا التحديث مشروعًا للهيمنة والقدرة على منافسة الإنتاج الاستعماري. لكن في ظل تنامى المشكلة الاجتماعية وعدم حسم الصراع السياسي قد يولد تهديدًا للطبقة الحاكمة، استطاعت الأخيرة بفضل جهاز الدولة مراكمة النفوذ اللازم والاعتماد على المعاهدات الدولية والتدخل من أجل حماية المصالح الوطنية في الداخل، وهو ما ربط النزوع الوطنى بسياسات التخطيط والتصنيع. 

وفق هذه المعطيات يعكس المعرض الزراعي والصناعي عام 1949 قدرة التحديث السلطوي على تمثيل الطبقة الوسطى، وامتلاك النفوذ الكافي من أجل تنظيم وإدارة الموارد وإقصاء أشكال اللامساواة التي ينتجها والعمل على إخفائها بالحديث عن مشاريع قومية يشارك فيها الجميع ومعبرة عن طموحاتهم في تنمية مخلخلة بالأساس.

تميل لغة السلطة التنموية إلى استيراد نمط قائم على وضع سياسات مركزية من خلال إقصاء الفعل السياسي والسيطرة عليه، وهو ما يحتاج لانتزاع صفة التمثيل الجماعي من الجماهير عبر التأميم. ويقوم الحكم المركزي على اختزال العلاقة بين الأطراف والمركز عبر منظومة تضع من خلالها القاهرة خطط التنمية بينما الأقاليم هى مراكز للتنفيذ وهو ما ظهر بوضوح في نموذج مدينة بورسعيد وإدراجها في جدول العمليات التنموية خاصة في عام 1957 بعد جلاء العدوان الثلاثي. 

لكن من أجل إتمام السيطرة على الحاضر المهترىء لا بد أن يظهر الخلاص الوطني بوصفه زعيمًا يعاود إنتاج الذكرى بشأن الماضى الوحشى، والتذكير الدائم بالفوضى والخراب حتى تهيمن السلطوية التنموية على خيال المحكومين فلا وجود للتنمية بدون راع وطنى يتكفل بالأولويات الاجتماعية.

ترتبط لحظة العدوان الثلاثى عام 1956 في الذاكرة الوطنية بالعدوان على استقلالية القرار المصري وتقويض أسسه لكن تلك اللحظة جرى استيعابها ضمن المخطط الوطني السلطوي الذي استطاع تأهيل مدينة بورسعيد من هامش استعماري إلى نموذج تنموى بفضل التركيز على الآثار الوحشية للعدوان تجاه النسيج الحضري، وهو ما تطلب تدخلًا مركزيًا بالأساس تصبح من خلاله المدينة صورة حداثية تنتج فوائض القيمة عبر تأهيل هذا الحيز وزيادة موارده بالرؤية المركزية.

وحتى تتأسس البطولة الوطنية وجمال عبد الناصر على رأسها لا بد من وضع النظام المحلى داخل أطر تنفيذية ورؤي بيروقراطية، فلم يكن النظام الثورى ورؤيته للإدارة المحلية تعبيرًا عن دكتاتورية جرى تحضيرها في لحظات منذ أزمة مارس عام 1954 وإنما كان نتيجة منطقية للمؤسسة العسكرية التي شكلت وعيهم السياسي والاجتماعي.

حينما يتعلق الأمر بالمشروع الوطني فلا مجال للرؤى السياسية أو مجتمع متنوع اللهجات أو الفنون، لكن رؤى الخبراء/ الضباط تصبح الهاجس المسيطر على المخططات الوطنية مع الترويج المستمر للمنجزات الوطنية عبر الوسائل المرئية والمسموعة وقد جعل ذلك لغة السلطة حداثية ومعبرة عن التقدم الوطنى.

إسكان وسكان

يسائل الشاهد في الفصل الرابع تجربة الإسكان التي أراد النظام الثوري تقديمها إلى الجماهير بوصفها تعبيرًا عن خطاب الرعاية الاجتماعية المسيطر على أدائها السياسي، بالتوازي مع هذا يتقاطع الفصل مع الرؤى المعمارية تجاه موضوع (الفيلا) حيث أراد سيد كريم تقديم مقاربة تاريخية للترويج لها كمنجز معمارى متجاوزًا للأطروحات الطبقية التي رأت فيها مشروعًا برجوازيًا خالصًا.

كانت الفيلا من وجهة نظر كريم صورة مثالية يستطيع المعمارى من خلالها التعبير عن قدراته وفقًا لمتطلبات الطبقات الوسطى الجديدة وتعبيرًا عن الرغبات الاستهلاكية الصاعدة بالاضافة الى اعتقاده أن المشاريع السكنية لا يجب بقاءها مدة زمنية طويلة لكن مهمة التصميم تكمن فى استيعاب  التحولات الاجتماعية وما يواكبها من تغييرات.

لا يدور المعطى الحداثي في أطروحات المعماريين المصريين حول الشكل بقدر ما يركز على تحويل الفوضى اليومية والتحولات الاجتماعية إلى صيرورة مسيطر عليها من أجل تشييد معمار المستقبل. فلم يكن المنزل المصرى بألف لام التعريف هو الأساس عند سيد كريم وأقرانه من المعماريين، وإنما أرادوا تشييد رؤى حداثية معبرة عن التحولات التغييرات الاجتماعية، لذا كانت (الفيلا) النموذج الأمثل للتغييرات اليومية في الواقع المصرى.

تزامن صعود نموذج الفيلا مع تنامي ثقافة الاستهلاك الترفي المصاحب للطبقة البرجوازية الصاعدة من شراء أراضى إلى تصميم بيوت تناسب ذوقها الخاص، ومن أجل التعبير عن هذه الثقافة كانت جهود المعماريين تركز على مزايا الفيلا المتعددة بوصفها نتاجًا متناغمًا مع طموحات العملاء المستهدفين.

يمكن القول إن تأطير الإنتاج المعماري داخل السجالات التقنية ترافق مع النزعة العقلانية التي تقتضي نداء الدولة من أجل إحكام السيطرة على الوضع الحضري خاصة بعدما توسعت حركة التصنيع، وقد انعكس ذلك على أعداد العمال المتزايدة وضرورة إيجاد مساكن لهم.

لقد تعامل المعماريون تجاه مشكلات الإسكان من منطلق سلطة الخبراء التي تعمل على حماية التحديث الوطنى من خلال قراءة الواقع عبر الأدوات البيانية واللغة الإحصائية، حيث أصبح التدخل فى الواقع الاجتماعي للسكان أمرًا حتميًا وقد تطلب ذلك إظهار سلوكياتهم بوصفها عبئًا دائمًا على التحديث، وهو ما احتاج إلى تبني حلول وآليات تنظم الجسد الاجتماعى من أجل غايات التنمية والحداثة.

يؤرخ الشاهد للجهود الدولاتية من تأسيس برنامج للإسكان في عام 1949 إلى ما قام به النظام الثورى من تشكيل لجنة (المجلس الأعلى للتعمير) منوطة بالإسكان الشعبي دون قراءة للجهود الأخرى التي ترجع إلى عام 1938 حيث ناشد مريت غالى في كتابه بضرورة إنشاء إدارة مستقلة لشؤون السكن تحت اسم (المعهد الوطني للبناء والتجديد) تختص بحل المشكلات بالسكن الشعبي في المدن واستبعاد الأحياء العمالية.

تعمل السرديات الوطنية على تقديم الرؤى السلطوية من خلال الترويج للمشروعات التنموية والتركيز على الإنجازات القومية لكن جذور هذه السرديات تقبع في العوامل السياسية والاقتصادية التي تستطيع من خلالها الدولة تبنى رؤى طبقية تساهم في خلق طبقات اجتماعية تحمل خطابها التنموي. ولا يرجع تأسيس مدينة نصر إلى مجرد رؤى سلطوية أو استجابة للمشكلات الحضرية كما ترى أطروحة الشاهد لكن هذا التأسيس بمثابة تبلور القطاع العام كشكل إنتاجى ظهر واضحًا في القرار الرئاسي رقم 815 / 1959 الذي نص على ظهور مؤسسة مدينة نصر ككيان منفصل متجاوزًا التعقيدات البيروقراطية.

في نهاية الأمر كان الشكل الإنتاجي معبرًا عن الهيكل الاقتصادي والقرارات التي حسم بها النظام الثورى صراعاته مع الطبقة الرأسمالية التقليدية على رأسها: قوانين التأميم والإصلاح الزراعي اللذان أنتجا طبقة حضرية قوامها كبار الموظفين والطبقة الوسطى أصبح يشملها الخطاب الوطني ويروج لمدينة نصر بوصفها الفردوس المنشود والملائم لحياتها اليومية، وقد ظهر ذلك في التصميم المكاني من نوادي و مناطق سكنية.

يتبنى كتاب الحداثة الثورية رؤية أخرى عن الحداثة لا تتأسس عبر المقولات التنويرية أو التصورات الجمالية لكن عبر اختراق الحياة اليومية وابتكار أدوات استعمارية من خرائط ومناهج إحصائية وتعدادات لإدارة الواقع الاجتماعى. لقد شكلت الثلاثينيات والأربعينيات حقبة جديدة من التحديث السلطوي في ظل تصاعد المشكلات الحضرية، وهو ما احتاج إلى طبقة من المعماريين شكلوا الثقل الأساسي للمشروع الناصري. ينبغي فهم العمليات الحضرية بوصفها سياسات تعمل على إعادة ضبط وسيطرة رأس المال حتى تتمكن الدولة من تحقيق الهيمنة لا مجرد مبان ومدن يجري بناؤها من أجل صور تخدم المنظومات الوطنية. 

لا تتحقق الهيمنة بمجرد الاستيلاء على جهاز الدولة، وإنما عبر إدخال السكان في العملية التنموية والتحكم في آلياتهم المعرفية والسياسية. ومن أجل إتمام هذه السيطرة لا بد من إقصاء الفعل السياسي والتركيز على الأمر التقنى بواسطة سلطة الخبراء الذين يركزون على خلق جسد اجتماعى متناغم مع خطاب السلطة.


المراجع:

اندرسون، بندكت. الجماعات المتخيلة. ترجمة: ثائر ديب. الدوحة/ بيروت : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014 .

يونس، شريف. سؤال الهوية. القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات، 1999.

السيد لطفى، عفاف. تجربة مصر الليبرالية. ترجمة: عبد الحليم سليم. القاهرة : دار الكتب والوثائق القومية، 2011.

غالي، مريت. سياسة الغد. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه