كانت علاقة هدى بزوجها رسمية للغاية، هي عبارة عن واجبات تؤدى بفتور وروتين، لم تكن تحبه وربما لم تكن تعلم ما الحب من الأساس

الغرفة الوردية

قصة لروان محمود

كُتبَت القصة ضمن أعمال ورشة دار "هن" للقصة القصيرة


لوحة ألكساندرا فاليشفسكا، عن art-sheep

1

كانت غرفتها ورديَّة اللون، لم تكن تحب هذا اللون ولا تكرهه، ليس لديها أية مشاعر نحوه، على الرغم من ذلك كانت تملك العديد من الأشياء الورديَّة، بداية من مرآة صغيرة على تسريحتها، إلى بعض الملابس التي لا تعلم من أين أتت تحديدًا، ربما أحضرها أبوها في ليلة عيد، مثل سجادة الصلاة زهرية اللون تلك. ربما جاءت احتفالًا بإحدى زيارات شهر رمضان، وربما لكونها ابنة وحيدة له، كل ما يعرفه أن البنات يحببن اللون الوردي، كما هو متعارف عليه في العقل الجمعي للإنسان الحديث.

لغرفتها نافذة من الزجاج الذي يظهر لك ما بالخارج ولا يفعل العكس إلا إذا كان من بالخارج قريبًا جدًا منه. تطل نافذة الغرفة على الشارع، في الطابق الخامس، لذا تستطيع تمييز المارة ومراقبتهم من فوق، على الرغم من ذلك تحب أن تنظر للسماء أكثر. ليس للنافذة ستار، ربما تجاهل أبوها وضعها، رغم وجود الشمس القوي صباحًا لإزعاجها بضوئها، وحرارتها صيفًا، في أيام السهر أو الأرق تضع إحدى ملاءات السرير على الجانبين من النافذة، وتغلق الزجاج على أطرافها من أعلى، حتى تقلل من وجود أشعتها، ربما تحظى بقدر من النوم.

للغرفة دولاب وسرير كبيران، وتسريحة بدون مرآة ربما قد كُسرت في إحدى مرات نقل الأثاث من شقة سابقة، ومكتب صغير مكتوب عليه اسمها بخط طفولي وبعض الرسوم العشوائية. يقع السرير أسفل يمين النافذة، تحتوي كل درفة من دِرَف الدولاب على مرآة، أربع منها، ودرجان، يقع الدولاب يمين السرير، مع درفتين مقابلتين لنصفه الأخير؛ فتعكس المرايا صورة قدميها إذا استلقيتْ، لذا كانت تنام كالجنين، خوفًا من أن يرى جان المرآة قدميها في وجهه فيغضب منها.

الإضاءة في الغرفة سيئة للغاية، سلك كهرباء طويل مهترئ به أجزاء عارية، في منتصف الغرفة ويلتحق بالسلك مصباح ضعيف الإنارة، يغضبها هذا كثيرًا، تطلب من أبيها أن يضيف بعض المصابيح ويغير هذا السلك ولكنه يتجاهل طلبها دائمًا، فغيرت المصباح إلى آخر أقوى، ولكن لم يتغير الكثير، لأن طول السلك كان عائقًا أمام المصباح الجديد على أن ينتشر ضوءه بتوازن في الغرفة.

كانت هذه غرفتها التي قضت فيها أغلب أوقاتها، تذهب إلى مدرستها الثانوية صباحًا، وتعود إليها بعض الظهر، وفي الإجازة الصيفية كانت نادرًا ما تخرج منها، كانت تحب القراءة، ونشطة للغاية على مواقع التواصل الاجتماعي، لديها العديد من الأصدقاء على هذه المواقع، بعضهم من بلدان مختلفة أيضًا، لم يكن لديها في الحياة الواقعية سوى صديقتين من المدرسة، صديقتي دراسة فقط كما يقولون، لا تراهما خارج هذا الحيز. لم تكن تشعر بالوحدة، ولكن أحيانًا كانت تنظر إلى النافذة وتُدرك أن هناك حياة كاملة يمكن أن تحياها خارج الغرفة، ولكنها كانت ترتعب من هذه الحقيقة، وتعود مسرعة إلى عالمها، كان أبوها فقط ضيفًا على هذا العالم، عاشت معه وحيدة بعد وفاة والدتها منذ خمس سنوات، كان كثير التغيب عن البيت بسبب العمل، وعندما يكون موجودًا، يجلس معظم الوقت في الصالون يشاهد التلفزيون ثم ينام في غرفته المجاورة لغرفتها، ربما يطلب منها أن تحضر له كوب شاي، ولكن نادرًا ما كان يطلب منها أن تترك غرفتها وبابها المغلق حتى تجلس معه، كان شخصًا تعرفه، يعطيها مصروفها ويملأ الثلاجة كل أسبوع فقط.

لا تتذكر متى بدأ الأمر تحديدًا، ولكن في إحدى المرات كانت نائمة، وكان هناك، في احدى الزوايا، لا تراه ولكن تشعر بوجوده الثقيل، كان يحاوطها من كل ناحية، حاولت أن تنادي والدها، ولكن كلما حاولت فعل ذلك، كانت لا تسمع صوتها، فحاولت أن تتحرك، كانت حركاتها ثقيلة، وكأنها تحمله على كتفيها، زحفت على الأرض حتى وصلت إلى غرفة أبيها، كان الباب مفتوحًا وهو نائم، كان صراخها مكتومًا، وكلما اقتربت من سريره ازدادت حركاتها ثقلًا، إلى أن توقفت عن الزحف، وحاولت أن تلمس قدميه، ولكنها لم تستطع، ظلت تصرخ بدون صوت إلى أن استيقظت من النوم.

لم تتحدث عن الأمر وظنت أنه مجرد كابوس، لا يجب أن تحكيه لأحد، إلى أن زارها مرة أخرى، كانت مستلقية على السرير، شعرت بوجوده عليه، حاولت أن تتحرك ولكن لم تستطع، هذه المرة اتخذ هيئة سوداء، اعتلاها، كبل يديها، وبدأ في محاولة ليدخلها، كانت تحاول أن تتحرك، فأمسك برقبتها، حاولت أن تقاوم قدر المستطاع وتحرك قدميها، ولكنه كان ثقيلًا للغاية، استيقظت وهي تشعر بألم في يديها ورقبتها، كانت واثقة أنه كان رجلًا، وليس مجرد كابوس، وأداة ليتلاعب بها عقلها الباطن.

حاولت أن تتناسى ما حدث، ولكن كانت ما تزال خائفة من النوم ومن المجهول الذي ينتظرها، إلى أن رأتهم، كانوا أربعة أو خمسة رجال، بالخارج عند النافذة، كانوا يتهامسون ويبتسمون كأن وجودهم بالخارج أمر طبيعي، لا تستطيع تمييز أصواتهم ولا كلماتهم، رأتهم فسارعت في غلق النافذة، كانت تبدو محاولتها بائسة للغاية، لأنها شعرت أنهم يستطيعون الدخول بدون فتح زجاج النافذة، على الرغم من ذلك كانوا يحاولون فتح النافذة أمامها وهي ممسكة بالزجاج بشدة، ثم بدأوا بالضحك، وزاد رعبها، استيقظت وهي ترتعش.

في الصباح، طلب منها أبوها إعداد الفطور، جلسوا على المائدة أمام التلفزيون، حاولت أن تأكل، وهي تنظر إلى نافذة الصالون، إلى الشمس عسى أن تطمئنها، ذهب أبوها إلى العمل، دخلت إلى غرفتها، وبدأت في قراءة كتاب، ثم نامت.

في غرفتها القديمة، في السادسة من عمرها، تقف خائفة خلف الباب، كانت إحدى مشاجرات والديها، لكن هذه المرة سمعت صوت أشياء تُكسر، ووالدتها تصرخ، ثم سمعت صوت باب الغرفة وهو يفتح، خطوات غاضبة إلى باب الشقة، وصوت إغلاقه مع صورة لطيور قد هربت وتركت فراخها للموت.

مشيتْ بخطوات حذرة، وهي تبكي إلى غرفة والديها، كانت تسمع صوت نشيج أمها، اقتربت فرأتها على الأرض، بجوارها قطع زجاج ملطخة بالدماء، كانت ترتدي قميص نوم أبيض لطخ بدماء وبعض التراب، تضع يديها على وجهها، تاركة قدميها على الأرض وقد جُرحت في فخذها اليسرى، عندما أحست بوجود ابنتها، نظرتْ إليها، وكان وجهها مزيجًا من اللون الأزرق والأحمر، بكت الطفلة أكثر، وحاولت أن تقترب، فأسرعت الأم ونهرتها أن تبتعد، لكن كانت الطفلة قد عبرت أول خطوة، واستقرت قطعة زجاج في قدمها، صرخت عندما رأت الدماء تخرج بغزارة من أسفل قدميها.

2

كانت هدى فتاة تبلغ من العمر الواحد والعشرين، من قرية صغيرة في محافظة الشرقية، تدرس في جامعة الزقازيق كلية الآداب قسم علم نفس، نحيفة وخمرية اللون، ترتدي دائمًا حجابًا طويلًا يغطي جزءًا من أعلى الصدر، وبلوزة واسعة مع بنطلون قماش خفيف وواسع، كانت الابنة الوسطى لوالديها، يكبرها بأربعة أعوام أخ سيهاجر بعد مرور عامين إلى دولة أوروبية، وأخت تصغرها بعام ستتزوج بعد هجرة أخيها بشهرين وتسافر مع زوجها للعيش والعمل في دولة خليجية. كانت هدى فتاة هادئة، لا تفتعل المشاكل، يكاد لا يُسمَع لها صوت في المنزل، فقط تذاكر وتشاهد التلفزيون مع والديها ليلًا، أحيانًا تقرأ ما تجده في مكتبة الجامعة، ونادرًا ما كانت تقرأ إحدى روايات سلسة عبير، عندما كانت تأتي بها صديقتها المقربة.

في العام الأخير لها بالجامعة، أتى لها عمها صالح بعريس من القاهرة، يقولون إنه مهندس بترول، غني، يبحث عن عروس هادئة، من قرية أهله الذي تركها رضيعًا، يسافر كثيرًا بحكم عمله إلى بورسعيد، لذلك يريد امرأة ذات خلق ودين يأتمنها على بيته، وجد أهل هدى أنه عريس جيد، يقول عمها صالح إنه لا يترك صلاته أبدًا، وحتى أنه لا يدخن السجائر، فوافقت هدى على مقابلته، بعدها أتمت الخطبة وبعد مرور عام تزوجا في القاهرة.

كانت المرة الأولى لهدى في القاهرة، وكانت القاهرة كبيرة ومزدحمة للغاية، كانت تقضي معظم أيام الأسبوع بمفردها في الشقة، لا تعرف أي شخص في هذه المدينة، كانت غريبة وتشعر بالغربة، كانت تقضي وقتها بين الذهاب للسوق مرة أو مرتين في الأسبوع، والجلوس أمام التلفزيون بالساعات، كانت العمارة التي تسكن فيها جديدة، فلم يكن لها جيران سوى أسرة طبيب في الطابق الرابع، وأسرة أخرى في الطابق الثاني الذي تسكن فيه، كانوا يعملون في الخليج، ويأتون فقط لمدة أسبوعين في الإجازة الصيفية، وكانت إجازة مليئة بزيارات الأهل لذا لم يتسن لها أبدًا أن تتعرف عليهم.

كان هذا العام الأول لهدى في القاهرة، إلى أن حملت بملك، أتت والدتها من القرية في الأشهر الأخيرة للحمل، للاعتناء بابنتها، لم يكن زوج هدى متواجدًا، ولكنه أتى يوم الولادة للتعرف على المولود، عندما علم أنها بنت، لم يقل أي شيء، فقط حملها وكَبَّر في أذنيها، وأعطاها لهدى حتى ترضعها ورحل على الفور.

بعد مرور ستة أشهر من الولادة والاكتئاب المصاحب لهذه الفترة، فقط بدأت أن تتكون بينهما علاقة، كانت في البداية علاقة تعارف، ثم نمى الحب بينهما، وأصبحت ملك هي كل ما تحيا هدى من أجله والتي تخفف من غربتها.

ظلت الأيام تمر هكذا حتى أصبحت ملك في الثانية من عمرها، وفي يوم عيد ميلادها، اتصل والدها بهدى وأخبرها أنه فقد عمله، لذلك سيأتي إلى القاهرة ربما سيظل لمدة شهرين إلى أن يجد عملًا آخر.

كانت علاقة هدى بزوجها رسمية للغاية، هي عبارة عن واجبات تؤدى بفتور وروتين، لم تكن تحبه وربما لم تكن تعلم ما الحب من الأساس، ولكنها كانت زوجة جيدة تفعل كل ما علمتها أمها به، تحافظ على نظافة البيت وهدوء الطفلة عندما يأتي، لا تعارضه، ولا تناقشه إلا في أمور ملك، وهو لم يكن كثير الاهتمام بشؤونها لذلك يترك كل ما يخص ملك لها.

لكن كل شيء تغير في الشهرين الذي مكث فيهما في القاهرة، واللذين امتدا إلى عشرة أعوام، بدون وظيفة ولا محاولة جديّة لإيجادها، فقط هناك ما يكفي في حسابه البنكي لأن يملأ الثلاجة، فلا يحتاج إلى العمل الآن، كما كان يردد.

3

ملك أتسمعيني؟ 

فتحت ملك عينيها، كان الفضاء صافيًا، وهيئة سوداء تأتي إليها من بعيد، ردد الصوت سؤاله مرة أخرى، هو صوت مألوف لها، لكن لا تستطيع تحديد صاحبه، اقترب منها وأصبح الآن له شكل أوضح، هو رجل ربما في بداية الأربعينيات، لديه شارب وذقن خفيفين، خمري اللون، قد يبلغ طوله مئة وثمانين سم، شعرت أنها تعرفه، ولكن لا تتذكر جيدًا من أين، اقترب منها أكثر فحاولت أن تقف، ثم اختفى فجأة، وسمعت صوت نشيج يأتي من مكان ما، لكن هذه المرة لا ترى أي شيء.

ملك؟

أمي؟

أهذه أنت؟

توقف الصوت، وقفت ملك وحاولت أن تبحث عنه، الفضاء الأبيض يحاوطها من كل اتجاه، صرخت وصرخت وسمعت أصداء صراخها، ثم بكت.

هذه المرة استيقظت في غرفتها، ربما الساعة التاسعة مساء الآن، كانت متعبة، لا تقوى على الصراخ أو البكاء، لا تنام منذ أن بدأت الزيارات وإن نامت زاروها في أحلامها، حاولتْ أن تتحرك وأنارت ضوء الغرفة، جلست قليلًا على السرير، ثم صعدت على كرسيَّ وجاءت بألبوم الصور العائلي من الجزء العلوي، عادت إلى السرير، كان لون غلاف الألبوم أزرق، كانت أول صورة لأبيها وأمها في زفافهما، كانت أمها ترتدي فستانًا أبيض محتشمًا ووالدها بالبدلة السوداء وشاربه الأسود السميك، هي مبتسمة للكاميرا وهو بنظرته، غير مبالية.

رأت ملك صورًا كثيرة لها وهي صغيرة، الكثير منها مع والدتها، وبعض الصور مع جديها من أمها قبل أن يتوفيا وهي في عمر الرابعة تقريبًا، كانت هناك صورة وحيدة مع أبيها ربما وهي في سنتها الأولى، على شاطئ بورسعيد في إحدى زياراتهم القليلة له، انتهت صور الألبوم، وصعدت لتعيده، هناك شعرت بأنها مراقبة، ثم بحركة سريعة حولها، خافتْ، فسقطت على الأرض، ربما كان هذا بسبب تيار الهواء السريع القادم من النافذة، لكنها قررت أن تضيء جميع أنوار الشقة، عندما انتهت من إنارة الحمام والصالون، ذهبت إلى غرفة أبيها، التي لا تدخلها إلا مرة في الأسبوع حتى تطرد الغبار عن أثاثها، هذه المرة حاولت أن تتأمل محتوياتها، غرفة عادية، سرير ودولاب وكومودينو. فتحت دولابه فلم تجد سوى ثيابه وبعض أوراقه الخاصة بالعمل.

عادت إلى غرفتها وهناك بدأت في إخراج كل محتويات الدولاب على السرير، بدأت في ترتيبها حسب اللون، فكرتْ أن بهذه الطريقة قد تهدأ قليلًا، كان أكثرها من اللون الأسود والوردي، وهناك وجدت بعض ملابسها وهي صغيرة، من بينها فستان وردي اللون وبه ورود بيضاء، كانت أول مرة تراه، به جيب صغير، أدخلت إصبعها، ووجدت ورقة صغيرة، أخرجتها، كانت الورقة مهترئة وطويت أكثر من خمس مرات تقريبًا، لم تكن كبيرة، ولكن كانت ملطخة باللون الأحمر، حاولت أن تشم رائحته، ولكن لم يكن له رائحة.

***

في النوم زارها مرة أخرى، في غرفتها الوردية، كان صاحب الهيئة السوداء: أتتذكري الآن يا ملك؟

الآن فقط أتذكر

كنتُ هناك، وكانت على سريري، في غرفتي، وكنتم جميعًا تضحكون، عند النافذة عندما تمسكت بالستار، فسقطت، ألقيتموها على التسريحة فانكسرت المرآة عليها، ومرايا الدولاب تعكس أصوات ضحككم، أستطيع أن أراها الآن بوضوح وهي تحاول الهرب، تزحف على الأرض، ودماءها مع شظايا المرآة، مبعثرة في أرجاء الغرفة، فقط الآن أستطيع أن أتذكركم، أتذكر الرهان، أبي سيء للغاية في لعبتكم تلك، كان رهانه على زوجته وكنتُ أنا الجائزة الكبرى، عندما انتهيتم منها، اقتربتَ مني، هددتْ أمي بقتلكم، ولكنها من قُتلتْ، وكنتُ أنا جائزتك في الانتظار.

***

ملك في السرير الساعة الثامنة صباحًا، ممسكة بالورقة الصغيرة، تحتوي على كلمات أمها تخبرها بأن تهرب، مع أرقام هواتف خالها وخالتها. لم تراهما منذ وفاتها، لا تعلم إن كانا قد حاولا الاتصال بها من قبل، ولكن كانت ترجوها في الرسالة أن تتصل بهما وألا تخبر أباها أبدًا بذلك.

الساعة العاشرة مساء، ما زالت ملك في السرير، سمعتْ صوت مفاتيح باب الشقة، لقد أتى، تنهدت، وحاولت أن تتمالك نفسها، ذهبت إلى الصالون.

السلام عليكم يا بابا.

نظر إليها بلا مبالاة، وعليكم السلام.

جلس على الأريكة، وخلع حذاءه، طلب منها كوب ماء، فأحضرته، ترددت قليلًا لكنها ذهبت وجلست بجانبه: بابا مش أنا جبت اللزق بتاع السلوك ده، نقصر شوية السلك بتاع النور عندي، صاحبتي قالت لي عليه، بس انت زي ما شايف قصيرة، وبخاف لو وقفت على الكرسي أقع.

تأفأف ثم قال: طيب هاتي كوباية مياه تانية، ونشوف الموضوع ده.

أحضرته له، تجاهلها وظل يشاهد التلفزيون، فكررت عليه طلبها مرة أخرى، فلم يهتم بالرد، فكررته حتى سَبها، وقام. كان يمشي أمامها، يبدو من الخلف وكأنه في الخمسين، على الرغم من أنه في بداية الأربعينيات، شعره اشتعل شيبًا أيضًا، مريض كلى، وبعض الأمراض الأخرى، ومع ذلك لا يبدو أن المرض قد سيطر عليه، وجعله أكثر وداعة، كانت لا تعرفه ولم تعرفه أبدًا.

أطفأت النور، وعندما اقترب أعطته شريط اللحام.

بابا ممكن توديني نزور ماما بكرا؟

إيه لازمته مشوار لحد الشرقية، ادعي لها من هنا.

لا تستطيع أن تتذكر أنها قد ذهبت إلى الشرقية من قبل، ولكنها لم تر القبر أبدًا وكانت هذه المرة الأولى التي توجه له هذا السؤال، شعرتْ بتوتره وبحركات جسده السريعة في الظلام وهو يتكلم.

 وعلى اليسار في زاوية الغرفة، رأته، كان بهيئته السوداء، وبعينين واضحين، وأسنان شديدة البياض، يبتسم. خافتْ ملك، وتراجعت إلى الوراء، وعندما علمت أن أبيها قد بدأ بالعمل، بحركة سريعة أشعلت النور، كان ما زال ممسكًا بالسلك وقد فات الأوان على تركه.

تركته على الأرض بعدما لفظ آخر أنفاسه، وقد رأت الآخر يرحل من خلفه،  تاركًا علامة سوداء على جدارها الوردي.


* القصة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصتها دون إذن منها