في تجربة قراءة العودة الى آخر الحارة، ستتداعى عليك أيها القاريء ذكرياتك في كل صفحة منها، حتى كأنك تعيشها من جديد بعيون كاتبها.

ذاكرة العائد إلى آخر الحارة وذكرياته

مقال شيماء ياسر

مراجعة كتاب "العودة إلى آخر الحارة: كيف تتذكر أعياد ميلادك بعد الأربعين؟" لعبد الرحمن مصطفى عن دار وزيز (٢٠٢٣)


كثيرا ما تأتي أمامي عبارة التحذير من محتوى ما لقسوته. تترك المنصات مسؤولية تبعات المشاهدة للمتلقي الذي عليه أن يختار: إما أن يحتمل قسوة المشهد فيشاهده أو ينجو بنفسه وأعصابه ويتحول إلى محتوى آخر أكثر خفة. كان اقتراحي للمرة الأولى لأن يوضع مثل هذا التحذير على كتاب عند قراءتي لكتاب أقفاص فارغة للمبدعة فاطمة قنديل، والمرة الثانية هي الآن مع كتاب العودة إلى آخر الحارة لعبد الرحمن مصطفى. 

راودتني نفسي بالهروب من حضور أول ندوات الكتاب بعد قراءتي للعنوان الفرعي على الغلاف، "كيف تتذكر أعياد ميلادك بعد الأربعين". تعديت الأربعين بعامين وها أنا اقترب من الثالث، ولذا أعلم جيدا هول ما سأجد بحضوري وسماعي فضلا عن قراءتي. خاصة وأن الدار الناشرة للعمل من الدور التي أثبتت كفاءتها في اختيار النصوص وأمانتها فيما يكتب على غلافي منشوراتها، فليس في الأمر خدعة للترويج. وهو ما يعني أن محتوى الكتاب على قدر ما يعنيه العنوان الفرعي بوضوح.

ألغى قرار حضوري للندوة حدث آخر تصادف وقوعه في نفس اليوم بعد أن اكتشفت بعد فوات الأوان أنني كان على التسجيل لحضورها. لم يكن أمامي سوى مواجهة التردد والرغبة في الهروب بالعودة إلى آخر الحارة. لكل منا حارته التي يهرب إليها، أكان مدركًا لذلك أم لا. إتقان الهروب من كتابة تضعك في مواجهة مع أفكارك ونفسك فن. وقد يكون مطلوبًا في بعض الأحيان إرجاء المواجهة حتى يشتد عودك النفسي ولا تنهار من فتح صندوقك الأسود الذي قد يجده البعض صندوق باندورا. وبدلا من أن تكون المواجهة في صالحك قد تنقلب عليك. لا مفر من وقوعها رغما عنك، وإن لم تختر الوقت المناسب، فلابد أن يختاره القدر لك. 

"إن قدرك هو اختياراتك، يصنع القدر بالشغف، هذا هو دورك"، كانت هذه إحدى العبارات التي ختم بها عبد الرحمن مصطفى الأربعيني كلامه في فصل أخير عما بعد الاربعين. هذا القدر الذي كتب عن مساراته المجنونة عندما بلغ التاسعة والعشرين قائلا، "ربما كان كل ذلك مسارا واحدا، وكلها محطات كان لابد من المرور بها حتى النهاية". 

عندما مر أمامي عنوان الكتاب للمرة الأولى لم أفهم عن أي حارة وعن أي عودة وما معناها. وبسؤال المؤلف في ندوة الكتاب أجاب: "آخر الحارة" هو الاسم الذي اختاره للمدونة كمساحة حرة للتعبير على صفحات الإنترنت في بداياته المجيدة والبعيدة. ولماذا آخر الحارة؟ لأنها متنفس ومهرب آمن. صحيح أنها كانت مهرب مكشوف للجميع، لكن ربما كان هذا هو المطلوب. مع الفارق في التشبيه، لكن الأمر في رأيي كمن قرر الانتحار على الهواء مباشرة بجدية تامة. وكأنه انتقام من عجز المشاهد أن ينقذ هذا المنتحر فيبقيه في جحيم الحياة. 

أعلم أن هذا تشبيه قاس، وأن عبد الرحمن لم ينتحر، بل أقام الحجة وقدم شهادة مهمة للتاريخ كأحد أبناء جيل الثمانينات من موقعه المزدوج، في الشارع وبين الناس وأمام شاشة حاسوبه، وفي مكانه في أهم المساحات التي تقف في أعلى السلم لتراقب وتشاهد صورة شبه بانورامية من عالم الصحافة. شهادة لا تقتصر على أيام الثورة المصرية التي تعددت الكتابات عنها فحسب، بل الأهم من ذلك، أنها شهادة على إرهاصات ومقدمات من حياة المجتمع المصري الحقيقية في فترات من أهم ما مرت به مصر في تاريخها المعاصر. شهادة حية طازجة، من داخل غرفة شاب مصري دارس للتاريخ ومحب للصحافة والتدوين وشغوف بالشارع والحياة. ولا أعني بالغرفة هنا مكان واقعي بقدر ما أعني غرفة عمليات عقل الصحفي الشاب، التي تتنقل معه بين الشوارع وتخترق المساحات بالبحث والسؤال.

في بداية قراءتي تملكني الصمت ثم الحنين ثم لعن نفسي على قرار القراءة. يتقاطع الكتاب في مجمله مع حياتي التي هي حياة كل جيل الثمانينيات، وأقول ذلك بضمير مستريح قاصدة التعميم. يتقاطع مع حبي للصحافة بشكلها القديم الذي وعى إدراكي عليه وغربتي اتجاه المستجدات المتلاحقة عليها وعلى ما يشبهها أو يتقارب منها. قراري بدراستها وحلمي للعمل بها والإخفاق ومحاولة كشف المستور بذلك الشغف بعالم التحقيقات والشارع والنفوس. يتقاطع الكتاب مع إخفاق العشرينات وتخبط الثلاثينات وقصة الحب التي بدأت بثورة يناير وانتهت بنهايتها. ويتقاطع أيضًا مع مخاوف فقد الأهل وتكرار فقد الأمل في مشاريع اكتمال حياة قد تعد باستقرار نسبي مقبول. 

العودة إلى آخر الحارة ليست عودة للهروب أو لالتقاط نفس الأنفاس التي كانت. لأنه وكما يعلق في الثالثة والثلاثين مستشهدا بالفيلسوف اليوناني هيراقليطس، "لا شيء ساكن. كل شيء يتحرك". كان توجه عبد الرحمن مصطفى إلى آخر الحارة حركة متأملة لكل هؤلاء الذين عاشوا فيه طوال السنوات الماضية. تأمل لكل ذلك الإصرار على الحياة والمعافرة. 

يقول جعفر الراوي في رواية قلب الليل لنجيب محفوظ، "لقد دفنت أكثر من شخص عاشوا في جسدي متتابعين ولم يبق إلا هذه الخرابة"، ويعلق عبد الرحمن مصطفى عليها، "أقرأ تلك الكلمات متطلعا صوب يوبيل ذهبي أقرب من ذلك الفضي القديم. مستخفا بشاب بريء لم أعد أتذكر جيدا وحين أطالع صورة شخصية له تعود إلى عام 2005 وأقارنها بآخر صورة حديثة أجد تشابها في الملامح بين هذا العشريني وذاك الأربعيني كأنهما أقرباء. لو جلس أحدهما إلى الآخر لظن أن شبيهه يعاني الأزمات نفسها. كلاهما يبجل سرد المعاناة ويبرع في وصف الشقاء. ربما يتبادلان النصائح في جلسة على المقهى لكنهما في الأغلب لن يصبحا أصدقاء". 

عبد الرحمن مصطفى لم يدفن الشاب العشريني ولا الثلاثيني، لكنه من مكانه في سن الأربعين، دخل في نقاش هاديء معهم وإن احتدم قليلا في بعض المرات. واجه بقاياهم التي قد تكون عالقة هنا أو هناك في ذلك الداخل المزدحم. اعترف بوجودهم واحترمه ولم يرفضه أو ينكره. يدين لصمودهم ويتعجب من قوتهم على الاستمرار.

لم يعتمد عبد الرحمن مصطفى أسلوب القص واللصق في إخراج كتابه بالاكتفاء بالنقل من صفحات المدونة. أصبح هذا الأسلوب شائعا الآن حيث الاعتماد على تجميع محتوى "البوستات" في كتاب. كانت مساعي عبد الرحمن الصحفية أكبر من ذلك. أرى أنه تعامل مع تدويناته السابقة كمشروع بحث جديد يفرد له صفحات كتاب. تناول بالبحث نفسه كعينة ومثال على عالم التدوين والصحافة الإلكترونية التي هوجمت لسنوات حتى اتخذت الصدارة في المشهد العالمي وليس المصري فحسب. عامل نفسه كشاهد عيان من قلب الأحداث في الميدان وبين الثوار وفي مكاتب الصحافة. 

تنقل بنا عبد الرحمن مصطفى بين طبقات عوالم متوازية بصوته الأربعيني الذي أدرك مثلا في عام المواجهة مع الحقيقة، عندما أتم التاسعة والعشرين، أنه "أصبح من الواجب أن تنتهي تلك المزاجية في التعامل مع المستقبل، فممارسة التجنبية في العمل الصحفي لن تفضي إلى شيء". هو نفس العام الذي قال فيه، "لدي كم هائل من أسباب الذهول والدهشة. الناس كانوا أفضل هذه الأسباب". 

وكأن نهايات العقود تتشابه، ففي التاسعة والثلاثين يقول "سيتسلل إليك كثيرون في هذه المرحلة من حياتك، حتى تقرر استعراض ما أصابك من خدوش في لحظات ضعف، دون حذر. وفي لحظة كاشفة قد تجد أن من كان يبحث لديك عن الدعم أصبح يعمل بكد لتسليط الضوء على خدوشك وستدرك أنه لم يكن يستحق الوجود في محيطك منذ البداية".

بالعودة الى آخر الحارة، عاد عبد الرحمن مصطفى بالبحث والتحليل للعديد من القضايا الهامة. على رأسها مشكلة الصحافة المعاصرة وأصل هذه المشكلة في صورتها الإلكترونية البدائية الأولى، ثم تحولت مع الوقت إلى أزمة حالية على مستويات عالمية تهدد ببقاء الورقي منها ومما تبقى من أمل في البقاء على الصحافة والخبر بسبب وسائل التواصل الحديثة. 

في الليلة التي انتهيت فيها من الكتاب، تذكرت إتهامًا موجه لأسامة أنور عكاشة، الكاتب الدرامي والتلفزيوني الأول لمعظم مسلسلات الثمانينات والتسعينات وبداية الألفينات، تداولناه في دوائر الأصدقاء منذ سنوات. كان سؤالنا هو: إلى أي قدر تسببت مشاهداتنا لهذه الأعمال في تدهور مزاجنا العاطفي كجيل أدمن تصديق الدراما وتماهى معها حتى شكلت وجدانه دون إدراك أو قصد، حالات الحب غير المكتملة والمعذبة، وهذا التشوش والتيه لأبطالها، هؤلاء الأبطال المحملين بخيبات الماضي وقسوة الحاضر وضبابية المستقبل. 

في تجربة قراءة العودة الى آخر الحارة، ستتداعى عليك أيها القاريء ذكرياتك في كل صفحة منها، حتى كأنك تعيشها من جديد بعيون كاتبها. يمثل هذا الكتاب صورة أشعة داخلية لعقل عبد الرحمن ونفسه وقلبه وصورة خارجية لخطواته ونجاحاته وإخفاقاته لكل عام على مدار خمسة عشر سنة. من الصعب أن أعرض كل ما استوقفني في كتاب العودة إلى آخر الحارة وإلا سأقتبس الكثير ولن أكون قد وفيت حقه ببساطة لأن الإحساس المصاحب لكل صفحة لا يمكن وصفه بما يليق به.


* المقال خاص بـ Boring Books

** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها