ما عرفته لاحقًا هو أن وصول ميسي إلى برشلونة تزامن ووصول آلافٍ من الأرجنتينين إلى المدينة، وأنه، كمعظمنا، وصل رفقة والديه وأخوته في 2002 في وضعٍ هش. لكلٍ منا قصة مختلفة لنحكيها عن وصولنا إلى المدينة، إلا أنها كلها كانت في الواقع قصصًا عن سببين نتشاركهما جميعًا: كسب المال والبحث عن الاستقرار.

حقيبة ميسي

نص لإرنان كاسياري

نُشر في Revista Orsai

ترجمة: مريم الدوسري

إرنان كاسياري – قاص أرجنتيني يكتب قصصًا قصيرة نُشرت في مجموعات عديدة. يدير كاسياري دار نشر أورساي المتخصصة في الأدب والثقافة، كما يدير شركة إنتاج إعلامية بنفس الاسم أنتجت مؤخرًا فلمًا مقتبسًا من رواية بيدرو مايرال بعنوان "الأوروجوانية". 

تُنشر الترجمة بإذن من الكاتب


رسم ماتياس تولسا، عن Orsai

سمعت اسم ميسي أول مرة في غرفة محادثة افتراضية للأرجنتينيين المقيمين في برشلونة.

كان هذا في زمن ما قبل فيسبوك قبل طفرة الإنترنت. في ذلك الوقت، كنا نُشغل الحواسيب لنعثر على أفلامٍ إباحية، وبرامج لتنزيل الموسيقى يستغرق الواحد منها يومًا كاملًا لتنزيل أغنية واحدة، وغرف محادثة مبوَّبة حسب مواضيع الاهتمام. كنت أستخدم برنامجًا مُقَرْصَنًا لأُنَزِّلَ مسلسلات أرجنتينية، وآخر للكتب، ولكن غرف المحادثة الأرجنتينية كانت الأمر الأكثر إمتاعًا في تلك الفترة حتى اعتدت السهر حتى الفجر لأقرأ تلك المحادثات. وبعد أن كنت أنشر استفساراتي فيها قبل عامين، صرت أجيب على تساؤلات أرجنتينين وصلوا توًا إلى برشلونة في 2003.


رسم ماتياس تولسا، عن Orsai

اللعنة، أيعرف أحدكم ملحمة تقطع اللحم باتجاه العصب؟ توجد واحدة في بوبلي – سيك، ولكنني أعتقد أنها ملحمة لليهود. وما الفرق في ذلك؟ أيعرف أحدكم لماذا لا توجد أكشاك في المدينة؟  أظن أنهم يعتذرون للبقرة قبل ذبحها، أو شيء من هذا القبيل. أوه، لا! سحقًا لهم. أمن أحدٍ يريد أن يشاركني تأجير شقة في منطقة آبشامبله؟ أقسم لكم بأنني شخصٌ مرتب. يا جماعة، عثرت على مخبز يبيع شطائر أرجنتينية![1] أين؟ في أي ساعة تبدأ مباراة الفتى من روساريو هذا السبت؟ أيعرف أحدكم إن كانت القناة الثالثة ستنقل المباراة؟ مستحيل، ليس لديهم الكثير من البضائع في المخزون. أمن المعقول أن حفلات الشواء في الهواء الطلق غير مسموح بها في المدينة؟ أي فتى من روساريو؟ أن كنتم تبحثون عن حلوى الحليب[2]، فاشتروا حليبًا مكثفًا في علبٍ معدنية ثم دعوه يغلي في علبته لأربع ساعات. الفتى اسمه ميسي وبدأ يلعب مؤخرًا مع فريق برشلونة للشباب. سيلعب السبت وستنقل القناة الثالثة المباراة مباشرة. عندي وصفة لعجينة البيونونو[3]. إن كان أحدٌ يحتاج الوصفة فليخبرني. ليونيل. كان يلعب في فريق نيولز للشباب ثم اشتراه برشلونة. ماذا؟  أفعلًا تحصل على حلوى الحليب بعد غلي العلبة؟ هذه معجزة! لا يمكنني العثور لا على قوانص، ولا على كبدة، ولا على كلى، على الرغم من أنه لديهم كل قطع الخنزير بما في ذلك خطمه، ولكن ما من قطع جيدة. جدي الثالث من طرف والدتي يوغسلافي، أيمكنني أن أتقدم لطلب جنسية أوروبية؟ شاهدته يلعب صباح الأحد الماضي، ودعوني أقول لكم، يا لها من حركات تلك التي يمكنه أن يؤديها بالكرة! أهو على قيد الحياة، اليوغسلافي؟ أأنت جاد؟ لا يبيعون الكلى في أسبانيا؟ هل أنتِ حمقاء؟ لم يبقَ أي يوغسلافي على قيد الحياة. كلى البقر، لا؛ كلى البشر، نعم، إلا أنها باهظة الثمن. تأكيد: سيلعب ميسي مع فريق برشلونة للشباب هذا السبت في العاشرة والنصف صباحًا.


ما عرفته لاحقًا هو أن وصول ميسي إلى برشلونة تزامن ووصول آلافٍ من الأرجنتينين إلى المدينة، وأنه، كمعظمنا، وصل رفقة والديه وأخوته في 2002 في وضعٍ هش. لكلٍ منا قصة مختلفة لنحكيها عن وصولنا إلى المدينة، إلا أنها كلها كانت في الواقع قصصًا عن سببين نتشاركهما جميعًا: كسب المال والبحث عن الاستقرار.

في روساريو، شُخِّص ميسي بقصورٍ في هرمونات النمو ولم يكن والداه قادرين على تحمل تكاليف العلاج. حين أدرك نادي برشلونة إمكانيات الفتى، وعدوه بتغطية كل النفقات. قيل في غرف المحادثة إن كل حقنة كانت تكلف ما يقرب الألف يورو شهريًا، وأن آل ميسي تركوا كل شيء وانتقلوا معًا. وقيل أيضًا إن إحدى شقيقاته لم تتمكن من التأقلم في المجتمع الجديد. لم نكن نعرف إن كانت كل هذه المعلومات صحيحة، ولكننا كنا نحب الشائعات عن كل ما هو أرجنتيني. كانت غرف المحادثة أشبه بصالون حلاقة معاصر  يجمع رواده بهذه الأحاديث.

بعد أن كانت عبارات مثل حلوى الحليب ووسترن يونيون الأكثر بحثًا في المنتديات، أصبح ليونيل ميسي فجأة موضوعًا جديدًا للمحادثات. بدا أن أحد المشتركين في المنتدى يعرف العائلة، وكان يزودنا بمعلومات جديدة: بين سن الثالثة عشرة والخامسة عشرة، تلقى ميسي حقنتين يوميتين ساعدتاه لينمو ما يقارب العشرين سنتيمترًا. حتى بعد أن بلغ طوله مترًا وسبعين سنتيمترًا، وتمكن من انتعال حذاء مقاسه أربعون، واصل الآخرون في لا مازيّا، أكاديمية نادي برشلونة لكرة القدم للصغار، مناداته بالبرغوث. كان أسلوب لعبه وأهدافه حديث المنتديات نهاية كل أسبوع، ولكن اعتيادي السهر كان يمنعني من أن أستيقظ صباح سبتٍ في العاشرة لأشاهده يلعب.

وفي ليلة سهرت حتى أشرقت شمس السبت، وارتفعت سريعًا في السماء فلم يعد بمقدوري أن أغمض عيني. غيرت قناة التلفاز إلى القناة الثالثة التي كانت تنقل مباريات الشباب، وككل من شاهده يلعب، شهدتُ الأعجوبة يومها بعينين مرهقتين. سجل ليونيل ميسي، هذا الفتى الذي تكرر اسمه كثيرًا، أهدافًا لا تنتمي إلى هذه الحقبة الكروية، ومرر كراتٍ مستحيلة، وأدى بهلوانيات لا تُرى إلا في ملاعب الشوارع. فهمت حينها اشتعال غرف المحادثة ثرثرة حول هذا الفتى.

كنا نحن الأرجنتينيون الذين وصلنا إلى برشلونة في بداية الألفية على وشك أن نشهدَ كابوسًا كرويًا في بطولة كأس العالم. كانت هذه المرة الأولى التي نتابع فيها نحن المهاجرون بطولة كأس عالم بعيدًا عن وطننا. وفي ثلاث مباريات مريعة نُقِلَت فجرًا، شهدنا مهزلة مغادرتنا البطولة من الدور الأول. الشهور الأولى من الاستقرار في بلد آخر ليست شهورًا مأساوية فلكل شيء لون المغامرة، وحتى المنغصات تبدو رائعة في البداية.  لا تستفيق إلا بضربة إلى الرأس تُشعرك بوحدتك لأول مرة، وبأن ما من أحدٍ يفهمك، فتبكي أنتَ ولا يبكي من يجلس جوارك، أو تضحك أنتَ ولا يضحك من يجلس إلى جانبك.

وهذا ما حدث لنا جميعًا في بطولة كأس العالم التي أقيمت في كوريا الجنوبية واليابان دون أن نعي ذلك حينئذ. كانت المباريات تُنقل فجرًا. لم يكن بمقدورنا أن نلتقي في الحانات، وتحتم علينا أن نشاهد المباريات في بيوتنا. وحدنا. بالكاد فزنا على نيجيريا، حتى وجدنا أنفسنا في جحيم بعد أن هزمتنا إنجلترا. في الليلة الثالثة، الليلة الأخيرة، تعادلنا مع السويد ووجدنا أنفسنا خارج البطولة. أغلبنا، نحن المهاجرون، لم يعرف هذا الشعور قبلًا. كنا آلاف الأرجنتينيين في برشلونة نبكي فجرًا، كلٌ وحده، ودون أن نجد من يواسينا. والآن أفكر في أنه لو قيل لأحدٍ منا تلك الليلة إننا نعيش في ذات المدينة التي يعيش فيها فتىً في الرابعة عشرة من عمره يُحقن مرتين في اليوم بالهرمونات لينمو، ويحلم بأن يفوز بكأس العالم؛ لو أن أحدًا قال لنا إن ليونيل ميسي موجود، لخلدنا إلى النوم مطمئنين في تلك الليلة من يونيو من عام 2002. حين اكتشفنا وجوده بعد ذلك بعام، بدأنا دون شك نحلم بالمستقبل.

في موسم 2003 – 2004 لعب ليونيل ميسي ستًا وثلاثين مباراة (منتقلًا بين فريقي الشباب ألف وباء، والصفين الثاني والثالث لفريق الكبار)، وسجل خمسة وثلاثين هدفًا. وردتنا أخبار في غرف المحادثة أن الاتحاد الأسباني شرع في إجراءات التجنيس، ولكن الاتحاد الأرجنتيني سرعان ما ضَّمه للفريق ليلعب مباراة ودية ضد الباراجواي ويؤكد بذلك على أرجنتينيته. تنفسنا الصعداء.

بدأ الحديث عنه يملأ شوارع المدينة، وصار اسمه حديث الحانات والمدرجات، وما زالت شهرته في تصاعد. حتى في التقييم اليومي للتلفزيون الكتالاني، سجلتْ صباحات السبت التي تنقل فيها مباريات الشباب تقييمًا أعلى في نسب المشاهدات من البرامج الترفيهية المسائية. وإن تحدث عنه الجميع، لم يكن هو يتحدث. كل ما قاله المراهق في المقابلات بعد المباريات هو نعم، ولا، أو شكرًا. وبعد أن يجيب الأسئلة بكلماته القليلة تلك، يحني رأسه ويخفض بصره. حين كنا نتحدث عن الأمر أيام الاثنين في غرف المحادثة، اتفقنا على أننا كنا نفضل لاعبًا أكثر كلامًا وأكثر حيوية. إلا أننا لاحظنا أيضًا، نحن الأرجنتينيون في برشلونة، أمرًا جيدًا في تلك المقابلات. فحين يتمكن ليونيل ميسي من أن يرتب أفكاره في جملة طويلة نسبيًا، كان لا يلفظ حرف السين على عادة أهل روساريو. ليس هذا فقط، بل كان يقول ful عوضًا عن falta  ليصف خطأً في اللعب، ويقول orsai  بدلًا من fuera de juego ليتحدث عن التسلل، ويقول gambeta وtribuna وhichada  حين يقصد تنطيط الكرة، والمدرجات، والمشجعين تِباعًا، ولا يقول regate أو grada أو afición.

فأدرك بعضنا، وبكثير من الارتياح، أنه فعلًا واحد منا- من أولئك الذين ما تزال أغراضهم في الحقائب التي وصلوا بها وهم على استعداد للمغادرة. اعتدنا الحديث عن الحقائب في تلك الفترة. استعرنا العبارة التي باتت دارجة بيننا من لاورا كانورا المؤلفة والمغنية الأوروجوانية العظيمة. شرفتنا كانورا بارتياد تجمعاتنا الافتراضية وأوضحت لنا ما تعنيه بالحقيبة في أغنية تانجو رائعة بعنوان أبناء جارديل.

بدأوا يحلمون بالعودة
إلى بوابة المطار الرئيسية.
حقائبهم مليئة بالأحلام،
خائفين، جيوبهم خالية.
حزموا في ذكرياتهم نُصبَ المسلّة،
والظلال في ساحة الحرية،
واحتفظوا في منتصف الصدر بالحنين
ليفتحوه في عيد الميلاد هدية.

لم يظن أبناء جارديل أبدًا
أن بعد هذا الذهاب إياب.
ثبتتهم دبابيس متخلخلة إلى الأرض،
وابقوا حقائبهم جاهزة،
وفوق هذا كله، ظلوا يتحدثون بالأوروجوانية،
ويقولون، إن لم يفهمهم أحد: لا فرق.
يتدربون عل الرحيل أحيانًا
حين يرون في أبنائهم عدم الاهتمام.
نرسل لهم صورًا، بين الحين والآخر،
فيها لارمبلا أو ممشى ساراندي،
لنخفف انتزاعهم
من الأرض التي هاجروا إليها.

وآخرون غادروا دون ذكريات،
وآلمتهم أرواحهم أيضًا على أي حال.
وأحضروا معهم [4] بوس خلسة،
وخَلَّفوا [5] تا وتشاو للنسيان.
أبناؤهم في باريس وفي برشلونة
يعرفون الأوروجواي من بطاقات بريدية،
وفي البيت لا يتحدثون إلا لغة أجنبية،
وما انتماؤهم لها إلا وثائق رسمية.
ولكن أبناء جارديل عرفوا دائمًا
أن الوطن أكثر من مجرد بطاقة هوية،
وإن تشبثوا بالأرض كيفما استطاعوا،
وخبأوا حقائبهم في العلية.

لاورا كانورا

تانجو كانورا توثيق لتجربتنا. خَلَقتْ الإجراءات الاقتصادية لعام 2001 نوعين من المهاجرين الأرجنتينيين: المهاجرون الذي يبقون على حقائبهم على استعداد، والمهاجرون أصحاب الحقائب في العلية. وفي محادثات أرجنتيني برشلونة هناك دائمًا من يساند أحد الطرفين. أولئك الذي يخفون حقائبهم جيدًا في مكان بعيد من المنزل يستخدمون في كل أحاديثهم ألفاظًا أسبانية مثل vale و tío  وhostia [6]، ويسمون الأرز بالدجاج بايّيا[7]، وفي الاجتماعات الرسمية يحاولون التمييز بين السين والثاء[8]، ولا يستخدمون صيغة vos  للمخاطب في مقابلات التوظيف. وغالبًا ما تفشل محاولاتهم. أما نحن الذين نبقي على الحقيبة جاهزة، فنجاهد أنفسنا لئلا نفقد عاداتنا، ويؤسفنا ألّا نجد المتّة على رفوف المتاجر، وألّا نجد في المخابز معجنات الفكتوراس[9] ولا الشطائر الأرجنتينية، ونردد كلمة مطر[10]، حتى إن لم تكن تمطر، حتى نستبدل الياء شينًا، ونعرف كل الحيل التي نحتاجها لنتصل بالأرجنتين بتسعيرة محلية.

بحسن نية ولعب نظيف، يسخر كلا الطرفين من الآخر. لم تكن تلك الخلافات لتحتدم بيننا لأننا كنا نحتاجها، ولأننا بطريقة ما كنا نحتاج بعضنا. حظي أصحاب الحقيبة في العلية بوظائف أفضل عمومًا- فهم يتواصلون مع المحليين بشكل أفضل، وأعانونا نحن الذين نبقي على حقائبنا قريبة على الصمود. ونحن بدورنا كنا أفضل منهم في معرفة أكل الشوارع ومشاركة أولئك الذين يخفون لهجتهم بكل ما يستجد في هذا المجال.


يا جماعة، بدأت شركة ليتشيرا بتصنيع حلوى الحليب، اللعنة، فلنواصل صمودنا! ماذا؟ أأنتَ جاد؟ هذا صحيح، توجد حلوى حليب إيبيرية على رفوف المتاجر منذ أمس. لديّ كل أهداف ميسي على تورينت واحد. إن كان أحدكم يريد الرابط، فليخبرني. أيمكن لأحدكم أن يخبرني كيف أطلبُ شريحة لحم ضلعية هنا؟ سئمتُ من اللحَّام، كلما طلبت منه واحدة، يعطيني أي قطعة كيفما شاء. يا أصدقاء، إنها صدمة، حلوى الحليب التي يعدونها هنا أفضل مما نعده نحن. شششششه!! لو سمعتك تقول هذا في الشارع، لأشبعتك ضربًا. هنا في المحادثة، يمكننا أن ننتقد، أما في الخارج، فلا. نحن متفقون على هذا، أليس كذلك؟  حسنٌ. أحتاج إلى مساعدة: جدة جدتي وُلدتْ في صربيا والجبل الأسود، أيخولني هذا الحصول على جواز سفر أوروبي؟ حلوى الحليب التي نعدها أفضل بألف مرة. لتقول إن حلواهم أفضل لا بُدَّ أنك خبأت حقيبتك في مكان بعيد جدًا كما يقول تانجو كانورا. أتعرفون يا شباب أن ميسي هو اللاعب الوحيد في العالم الذي فاز بأربعة ألقاب أوروبية في عام واحد؟  طيب. لقد عبأوا حلوى الحليب في قنانٍ قابلة للعصر كما لو كان عسلًا! السفلة! قرأت مرة أنه إن ولد جدُ جدٍ بقدم واحدة في صربيا، وأخرى في الجبل الأسود، فإنهم يعطونك الجنسية الأوروبية، ولكن إن ولد بقدميه في جانبٍ واحد، فإنه يعتبر لاجئًا ولا يعطونك شيئًا. تأكدت للتو من سعر حلوى الحليب الإسبانية. سيكون من الأرخص أن تدفع ثمن تذكرة لوالدتك لتحضر لك مؤنة من منتجات شركة لاسرينيسيما. مرحبًا، يا جماعة، أيعرف أحدكم لماذا لا يفهم الشباب الكاتالانيون معنى الصداقة. ذهبتُ لزيارة أحد الشباب لنشرب المتّة ولم يفتح لي الباب. أذهبتَ دون دعوة؟ لا تفعل هذا! فالناس هنا تضع حدودًا بينها وبين الآخرين. عثرتُ على قوانص! عثرتُ على قوانص! اصمدي أيتها الأرجنتين! تبًّا! أين عثرت عليها؟  في فرنسا. إن كنتَ تعيش في برشلونة، ففرنسا لا تبعد إلا ثلاثمائة وأربعة عشر كيلومترًا. إن أردت الذهاب، يمكنني أن أصحبك. أيشاهد أحدكم قناة تيليسِنْكو؟ يظهر ذاك الذي لا يُذكَرُ اسمه في برنامج ليتحدث عن الأرجنتين مجددًا... من هذا الذي لا يُذكَرُ اسمه؟ صه! لا تقل اسم عائلته. ممثل لا يمكننا أن نذكر اسمه لأنك إن فعلت تصبح على الفور مدريديًا من أنصار فرانكو. غيِّر القناة إلى تيليسِنْكو، وستعرف عّمن أتحدث. انظروا! يقول إننا "دولة مستحيلة". أيريد أي منكم انتظاره عند مخرج مسرح ران فيّا، وتأدبيه ببعض الصفعات؟ أنا! أنا سأذهب! أنا لا أستطيع، ولكنني أستطيع ان أدفع ثمن سيارات الأجرة.

رسم ماتياس تولسا، عن Orsai


لربما كان الحديث بسوء عن الأرجنتين هو أقصى ما يصل إليه تطرف أصحاب الحقيبة في العلية. أتذكر وصول اثنين من كبار ممثلي الأرجنتين ليشاركا في أعمال مسرحية في إسبانيا بينما تحاول الأرجنتين حلحلة أزمتها. حضر كلاهما مؤتمرات صحفية إذاعية وتلفزيونية للترويج لأعمالهما. واحد منهما، ولن أذكر أنا أيضًا اسمه الآن، استغل وجود المكبرات الصوتية ليُذَكِرَ العالم بأنه يشعر وكأنه مطرود من أرضه، وليعلن أن مشاكل الأرجنتين لا حل لها، وأنها لن تتغير أبدًا، وأنها بلد لا قانون فيه، وهلم جرًا.

الممثل الأرجنتيني الثاني في مدريد، والذي لن أذكر اسمه الأول، ولكنني سأكتفي بالإفصاح عن اسمه الأخير: دارين، أجاب حين سُئِل حول الأزمة في الأرجنتين بقوله "أزمة في الأرجنتين؟ كلا، على العكس، هذه هي اللحظة الأفضل لمن أراد أن يزور الأرجنتين في رحلة سياحية. استبدال العملات سهل. الفنادق رائعة. الأرجنتينيون ودودون مع الأسبان. في الأرجنتين ثلوج وشلالات. والليل في بوينوس آيريس ساحر. اذهبوا، اذهبوا، وجربوا هذا بأنفسكم". قال هذا مغالبًا دموعه وبغضب عارم على الرغم من نبرته الموزونة، وهذا ما لم يلحظه سوانا نحن المهاجرين. وانتقل الممثل من التلفزيون الأسباني، إلى قناة أنتينا، وإلى تيليسِنْكو ، ثم إلى كادينا سير، ومن خلال كل هذه القنوات كرر الأمر نفسه. لم يطلب منه أحد أن يفعل ذلك، ولكنه خلال ذاك الأسبوع، كان خير سفير لنا نحن ممن نبقي على حقائبنا قريبة وجاهزة.

بدأ الأمر ذاته يحدث مع ليونيل ميسي. فحتى حين أصبح واحدًا من العشرة الأساسيين في فريق برشلونة، لم يتوقف عن كونه أرجنتينيًا. راقبنا نحن تصرفاته في التقارير المصوّرة وفي صوره التي تظهر في الجرائد. فحين فاجئنا بفوزه بلقب الدوري الاسباني، وكأس الملك، وكأس أبطال أوروبا، واظب ميسي على حمل كوب المتّة وزمزمية الماء أينما ذهب، واستمر في مقاومته الرد بالكتالانية على أسئلة الإعلاميين، وواصل الاستماع إلى أغان أرجنتينية أصيلة على جهاز الموسيقى المتنقل، إلا أن ميسي يعرف، كما نعرف نحن المهاجرون، أن اللهجة هي أصعب ما يمكن الحفاظ عليه.

لاحظنا تقصده الحفاظ عليها لأول مرة في إحدى المرات التي فاز فيها بلقب الدوري. في تلك الليلة الحالكة، أُعطِي ميسي مكبرًا ليتحدث أمام جمعٍ من تسعين ألفًا من مشجعي نادي برشلونة في الكامب نو. اكتفى ميسي بأربع كلمات كاتالانية، يبدو أن أحدهم اقترحها عليه: " Visca el Barça, visca Catalunya! - فليعش البارسا! فلتحيا كتالونيا!" تلتها كلمات صدرت من أعماقه: " y aguante Argentina, la concha de su madre!- واصمدي أيتها الأرجنتين! اللعنة على أمهاتكم!" هذا كل ما قاله ميسي ببساطة. تساءل كثير منا في غرف المحادثة كم من الكتالانيين سمع في العبارة إهانة، وكم منهم سمع فيها صرخة تشجيعية، ومن منهم فهمها على أنها اعتراض، ومن منهم كانت له لغزًا لغويًا. ما الذي تعنيه هذه اللعنة؟ ما الذي يعنيه هذا الصمود؟ بل ما الذي تعنيه هذه الكلمات مجتمعة حين تقال في محفل كهذا؟ نحن المهاجرون نفهم أن هذه التلميحات لم تكن من أجل المدرجات الكتالونية، بل من أجل الكثير ممن وصل في العام 2000 من الأرجنتينيين. كنا نعيش حينها أسوأ لحظات غربتنا؛ في استسلام هادئ بدأنا معه نفقد لهجتنا، وشيئًا فشيئًا، صرنا نستسيغ معه أكل السمك المسلوق وخطم الخنزير.

كان من المفزع القبول بهذا الوضع. إلا أننا لم نعد نعيش في العام 2013، ووقت مغامرتنا الأوروبية قد انقضى. صارت لنا عادات، كما تنبأ تانجو كانورا، وفي كثير من الأحيان صار لنا أبناء يتحدثون لغة أخرى في البيت. صَعُبَ علينا أن نتحدث عن تنطيط الكرة على أنه gambeta، وأن نقول لسائق سيارة الأجرة أن ينزلنا عند  la cuadra لنقصد ما بين شارعين، أو أن نطلب من الحلاق أن يصقل، مستخدمين الفعل emprolijar، أطراف شعرنا لا أن يشذبها. وفوق هذا كله، ينزلنا سائق الأجرة في مكان بعيد وتسريحاتنا دائمًا غريبة... أصبح التواصل أمرًا معقدًا. إلا أن بعضًا منا أصرَّ كأسود بحر عنيدة على أن نستخدم تلك الكلمات، لأن الكلمات خندقنا، ولأن اللغة مرآة هويتنا.

وهكذا، في تلك اللحظة من التاريخ، أصبح ليونيل ميسي، دون أن يزكي نفسه، قائدنا. في تلك الليلة التي صرخ فيها "واصمدي أيتها الأرجنتين! اللعنة على أمهاتكم!" سمعنا نوعًا آخر من التحفيز". أصرّوا على أن ينزلكم سائقو الأجرة بين شارعين، اللعنة! وأخبروا الحلاقين بأن يصقلوا شعوركم حين لا تريدون أن يقصوا الكثير منه. لا تتخلوا عن الـ vos حين تطلبون قرضًا. اصمدوا! فبينما أنا هنا أسجل أهدافًا، سنكون جميعًا على ما يرام، ولن تخلوا الرفوف من حلوى الحليب!" أعرف أن ميسي لم يقل أيًّا من هذا تلك الليلة في الكامب نو، إلا أننا سمعنا تلك الكلمات التي أعانتنا على أن نصمد وعلى أن نبقي حقائبنا بالقرب منا. أبقى هذا الفتي الذي لم يكن يفتح فمه، الذي لم يكن يقول شيئًا، على لهجتنا حية.

دائمًا ما كانت عاطفة الكتالانيين تجاه ميسي مليئًة بالحب والتقدير. أحبوه كما لو كان ابنهم. وهو ذات الحب الذي يشعر به أهل نابولي تجاه مارادونا، إلا أنهم، في جنوب إيطاليا، يعبرون عن مشاعرهم بطريقة مختلفة. لا يصرخ الكتلانيون في الشارع، ولا يُصَلون لرموزهم علنًا، ولا يملأون شوارعهم بألوان انتصاراتهم. ولكن هذا لم ينتقص شيئًا من حب الكتالان لميسي. جادون، هم الكتالانيون، ولربما شقّ عليهم أن تنفلت مشاعرهم، ولكن ذات الحماسة كانت تلهبهم خلف أبواب موصدة. أيًّا يكن، يتعلق الأمر بلحظاتٍ مختلفة من الحب. يحب أهل نابولي مارادونا كأم تحب ابنها الذي توفي بالأمس، ويحب الكتالانيون ميسي كما يحب مهندس معماري ابنًا تخرج للتو. وهذا مجددًا لا ينتقص شيئًا من حب الكتالان لميسي. لربما أقلق تقشف ميسي في كلماته الكتالان، فَهُم، كما الإسبان، يظنون أن أرجنتينيًا لا بُدَّ وأن يكون متحدثًا حماسيًا، وإن لم يكن كذلك، فهو إما أوروجواني وإما أخرس. وعلى هذا المنوال، استمر نجم البارسا الأرجنتيني في الظهور في المقابلات المحلية بفتور كبير وكلام قليل.

ما هو مؤكد هو أن الصحافة الكتالانية كانت دائمة الغيرة من الصحافة الأرجنتينية. حين يتحدث ميسي مع الإعلام في بوينوس آيريس، يضحك، يقول جملتين كاملتين أو ثلاثًا، يريهم منزله، وإن طلبوا منه أن يعتمر قبعة خضراء، كان ليفعل. مع الإعلام الاسباني، يتحول ميسي إلى هايمي الرجل الآلي من مسلسل كن ذكيًا البوليسي. حركات قليلة. كلمات قليلة، والكثير من الإجابات المكررة كما لو كانت مسجلة على شريط كاسيت.

في إحدى الليالي، حين أصبح ميسي نجم الكرة العالمي الذي هو عليه اليوم، دُعي إلى مقابلة على القناة الثالثة وهي ذات القناة التي كانت تنقل مبارياته عندما كان مراهقًا. حينها كان الفتى من روساريو قد ربح في العام ذاته لقب الدوري الأسباني، كأس الملك، كأس العالم للأندية، وكأس السوبر الأوروبية. جنون! لم يشهد أحد قط أمرًا كهذا. وبهذا بدأ العالم يدرك أنه يعاصر واحدًا من أفضل اللاعبين في التاريخ. كانت تلك مقابلة شهدناها نحن رواد غرفة المحادثة مباشرة، وعلقنا عليها كما نفعل الآن على تويتر. وحين وضع المذيع مكبر الصوت أمامه، وكما يحدث دائمًا، بدأ المذيع بسؤاله بالكتالانية. لم يكن الأمر فذلكة. دائمًا ما يسأل المذيعون إن كان الضيف لا يمانع أن يسألوه بالكتالانية. إن لم يمانع، استمرت الأسئلة بالكاتالانية. أنصت لها ميسي، إلا أنه بالطبع أجاب بلهجة روساريو.

وفي تلك اللحظة، أدركنا نحن أرجنتينيو غرفة المحادثة أن الكتالانيون مهاجرون أيضًا في أسبانيا، وعليهم أن يحافظوا على لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم كما نفعل نحن. وأدركنا أيضًا لم يحب الكتالانيون ميسي ليس فقط من أجل كرة القدم، بل لأنه كان يدافع عن لهجته أيضًا.


أحب فيه أنه لا يلفظ حرف السين في نهاية الكلمات. أتشاهدون المقابلة؟ ولا يفوته أن يستخدم ألفاظًا أرجنتينية. هذا رائع! يا جماعة، نحن في مستشفى وادي حبرون مع خوليا لأنها لوت كاحلها. أيعرف أحدكم أي بطاقات المساعدة الطبية يمكننا أن نستخدم للحصول على تخفيض؟ لم أتمكن من مشاهدة التقرير عن ميسي. أي قناة بثته؟ أتعرفون إن كان سيتاح على الانترنت؟ أنا أشاهد الآن ريكي فورت في برنامج شوماتش يقلد ساندرو، ولا أعرف لماذا يدفعني هذا إلى البكاء. يا أصدقائي، أصبحت كآبتي تنفلت لأي سبب. لماذا سأله المذيع بالكتالانية، أهو مغفل؟ لا، ولكن ميسي يفهمه. تقول أمي إن إحدى خالاتها عاشرت مرة بحارًا من إستونيا. أيعرف أي منكما إن كان هذا يؤهلني للحصول على جنسية أوروبية؟ يا رجل، هذا الفتى ساحر! يتحدث كما لو أنه فاز ببطولة كرة قدم في أحد أحياء روساريو، لم تغيره الشهرة! سحقًا، كيف بحقكم يمكنني أن أعرف متى يحين دوري في الصيدلية إن لم يستخدم الصيدلانيون الأوراق الصغيرة المرقمة؟ أيمكن لأحدكم أن يفيدني؟ البعض يقول إنه مشخصٌ بالطيف[11] ولهذا لا يتحدث كثيرًا؛ انطوائي، ولكن ما يفعله بالكرة عجب العجاب. تدخلُ الصيدلية وتسألُ الموجودين عن آخر شخص في الصف، لا بُدَّ أن أحدهم سيقول "أنا" وهكذا ستعرف أنك بعد هذا الشخص. ما هو الطيف؟ ما هي إستونيا؟ هو شخصية خيالية أو غرائبية مثل أمك. وانتبه، لأنك الآن الشخص الأخير في الصف، فإذا دخل أحدهم وسأل عن الشخص الأخير عليك أن تجيبه بأنه أنت. لا تدخل أمي في الموضوع! ولماذا لا يضعون علبة صغيرة تُسحبُ منها الأرقام؟ هذا أسهل بكثير. يا أصدقاء، كنت اليوم في حضانة لولا، ووجدت تسعة أطفال ينتهي اسمهم الأخير بياء[12]. اصمدي أيتها الأرجنتين! اللعنة على أمهاتكم! لن يطول الوقت حتى يسمح لنا أن نقيم حفلات شواء في الشرفات ونكون بذلك قد تمكنا منهم. أعتقد أنه في 2050 قد يكون هناك رئيس ينتهي اسمه بحرف ياء. انتبه! قد تكون رئيسة. وأتمنى أن يكون أول قراراتها الرئاسية أن تستخدم أوراقًا مرقمة للأدوار في الصيدليات. أرأيتم الشواية التي في منزل ميسي؟ إنها أكبر من الشقة ذات الغرفة الواحدة التي استأجرتها في بوبلينو. وأحدث أيضًا. ها قد انتهت المقابلة مع ليو. دامت المقابلة اثنين وأربعين دقيقة قال فيها bue [13] ثمانية عشرة مرة. أسمع أحدكم ألفاظًا اسبانية او كتلانية؟ لا. على الإطلاق. كل شيء مدون في مستند إكسل. ما يزال غير مقهور. أنه بطل!

رسم ماتياس تولسا، عن Orsai


فجأة كان ميسي الشخصية الأشهر في برشلونة، ولكنه، تمامًا مثلنا، لم يتوقف عن كونه أرجنتينيًا في جوانب أخرى. في غرفة المحادثة أحببنا رؤيته متلفعًا بالعلم الأرجنتيني أثناء احتفاله في كل بطولة أوروبية ربحها، وشجعنا مخالفاته وتجاوزاته، حين غادر مع المنتخب الأرجنتيني إلى بكين مثلًا ليفوز بالميدالية الذهبية دون إذن النادي على الرغم من أن بيب جوارديولا لم يمانع. شعرنا بالفخر كلما أمضى أعياد الميلاد في روساريو وهو يعلم أن عليه اللعب في الكامب نو في يناير. كل ما كان يفعله كان تلميحًا لنا نحن الذين وصلنا معه في 2002 إلى برشلونة. من الصعب شرح كم هوَّن علينا كل ما كان يفعله غربتنا، وروَّح عنَّا ما تشبعنا به من ضجر ورتابة المجتمع الذي وجدنا أنفسنا فيه، وأعاننا على ألّا نفقد اتجاه بوصلتنا. أسعدنا ميسي بطريقة هادئة، عفوية، على طريقتنا نحن الأرجنتينيين. إلا أننا لم نفهم ما حدث حين بدأت الإهانات تردُ من الأرجنتين:

- متحجر القلب!

- لا يهمك سوى المال!

- لا تعرفُ كلمات النشيد الوطني!

- لا تفهم أهمية قميص المنتخب!

- اعتزل، يا أسباني. لست أرجنتينيًا!

- يا مرتزق! اعتزل، يا ميسي!

وإن مرت بضع سنوات على ذلك، إلا أن سماع هذا التعليقات أو قراءتها ما زال يسوؤنا. لا أعتقد أن أي منا في غرف المحادثة كنا لنتوقع أن نعيش كابوسًا أسوأ من أن نسمع أصواتًا مقَوِّضَة قادمة من أحب مكان لنا في العالم. ما من وجع أكثر إيلامًا من أن يسمع ميسي السؤال بصوت ابنه الأكبر يسأله "بابا، لماذا يهددونك في الأرجنتين؟"

كان التناقض مدمرًا. فميسي الذي يواصل تحطيم أرقام قياسية مع فريق برشلونة، لم يكن يحقق انتصارات تذكر مع المنتخب الوطني. بقيادة ميسي، أحرز المنتخب المركز الثاني في بطولة كأس العالم في 2014 بعد خسارة أمام ألمانيا، وخسر ثلاثة نهائيات في بطولة أمريكا الجنوبية، وفي مرتين من الثلاث خسر أمام تشيلي في 2015 و2016. في خروجه من غرفة تبديل الملابس بعد تلك الخسارة الأخيرة (بركلات الترجيح: 4 أهداف لاثنين)، أعلن ميسي تخليه عن قيادته للمنتخب. "هذه أربعة نهائيات خسرتها... هذا أول ما يتبادر إلى ذهني، كما أنني كنت أفكر في الأمر مؤخرًا في غرفة التبديل. كل ما في الأمر هو أنه انتهى؛  لقد انتهى وقتي مع المنتخب. أربعة نهائيات. هذا الأمر ليس لي".

كان اعتزال ميسي اللعب مع المنتخب في 2016 ضربة موجعة لرواد غرف المحادثة الأرجنتينية في برشلونة، ولكنه كان في الوقت ذاته مصدر راحة. فمنذ عامين ونحن لا نطيق رؤيته يعاني بهذه الطريقة. كانت الإهانات الشنيعة التي وجهت إليه صراخًا مليئًا بالكره كنا نسمعه يرد من الأرجنتين ونحن في برشلونة. حين شهدنا الجهد الذي يبذله لئلا يقطع الحبل السري الذي يربطه ببلاده، أيقنا منذ 2003 كم كان هذا الفتى الخجول يحبها. كنا نعرف ذلك، ولكننا لم نقل شيئًا. بدا أنه حين أعلن اعتزاله اللعب الدولي وكأن ميسي قد قرر فجأة أن يخرج يديه من النار؛ يداه فقط لأن أيدينا نحن ظلت تحرقها الانتقادات.

حتى ذلك الحين، كان قد مضى على وجود بعض المهاجرين في برشلونة وفي مدن إسبانية أخرى أكثر من خمسة عشر عام. وخلال ذلك الوقت، ترقوا في وظائفهم، ولم يعد أبناؤهم يذهبون إلى الحضانات، بل إلى الجامعات، وخسرت اللهجة الحرب. فجأة كانت الهوية الأرجنتينية تتداعى. بتنا نلفظ السين ثاء، وصرنا نطلب من سائقي سيارات الأجرة أن ينزلونا أينما شاءوا، ونترك للحلاقين أن يقصوا شعورنا كيفما أرادوا. وجدنا أنفسنا في منتصف الطريق، في مكان عبثي من المحيط بين أسبانيا والأرجنتين، عبثي بما يكفي لينعتك أهل شبه الجزيرة الأيبيرية باللاتيني، [14]sudaca ، وحين تعود إلى الأرجنتين في عيد الميلاد يسميك أصدقاؤك أسبانيًا، gallego. هذه هي اللحظة التي اعتزل فيها ميسي اللعب مع المنتخب كما لو أنه كان يقول: "يا شباب، لم يعد بوسعي أن أفعل شيئًا. لم يعد لنا مكان في الوطن".

وشهدنا في هذه اللحظة أيضًا أمرًا رائعًا وغير مسبوق في عالم كرة القدم الحديث. في تلك الليلة من 2016 التي قرر فيها ميسي الاعتزال بعد أن سئم الاهانات، حمَّل صبي في الخامسة عشر رسالة وجهها إلى ميسي على فيسبوك قال فيها:

"كيف لنا أن نقنعك، نحن الذي لم نستطع أن نفهمك، وأنت الذي تملك موهبة لا تضاهى، وأفضل لاعب على هذا الكوكب، أنك إنسان في نهاية المطاف. كيف يمكننا أن نقنعك إن لم نتوقف للحظة لندرك بأنك لست مسؤولًا عن الغضب الذي نشعر به حين نخسر، وأن غضبنا هو ردة فعلنا تجاه إحباطاتنا الشخصية التي توقظها الخسارة فينا. فلنقف أمام المرآة ولنسأل إن كنا نطالب أنفسنا بواحد بالمائة مما نطالب به هذا الشاب الذي لا نعرف. كيف يمكننا أن نقنعك بأنه يحزننا أن العالم كله يُقَدِرُك، وإنه حين يمكنك أن تكون مسترخيًا على شاطئ ما في إجازتك، أنت هنا، تلعب من أجل المنتخب، ونحن نراقب كل ما تفعله، ونلاحظ إن كنت تجري لاستلام الكرة فعلًا أو إن كنت تغني النشيد الوطني بحماس. افعل ما تريد، ليونيل، ولكني أرجوك أن تفكر في البقاء. فكر في أن تبقى مع المنتخب من أجل أن تستمتع. هذا ما حرمك منه هؤلاء. في عالم من ضغوط سخيفة، تمكنوا من إفراغ اللعبة من أنبل ما فيها. منذ صغرك، حلمتَ بأن تمثل بلادك وأن تستمتع بلعب الكرة. رؤيتك تلعب وأنت ترتدي القميص الأزرق والأبيض هي المفخرة الأكبر في العالم. العب لتستمتع، فأنت لا تدرك كم نبتهج نحن برؤيتك تلعب بمتعة".

بعد ستة أعوام من نشره للرسالة على صفحته على فيسبوك، فاز إنزو فيرناندس بجائزة اللاعب الشاب في بطولة كأس العالم في قطر. وعرفنا حينها أن ميسي عاد للعب مع المنتخب، وقد قال هذا بنفسه، حتى لا يظن أولئك الفتية الذين يرسلون وينشرون رسائلهم أن الاستسلام خيار متاح.

رسم ماتياس تولسا، عن Orsai


برامج الترفيه الأرجنتينية أفضل بكثير من الأسبانية. تضجرني برامج المساء هنا. أبكتني رسالة كتبها صبي لميسي على فيسبوك. سأترك لكم الرابط هنا. هل حاولت مشاهدة التلفاز وأنت منتشي؟ هذه تجربة أخرى... اسم الفتى إنزو فيرناندس يلعب في الفريق الاحتياطي لريفير بليت، ولكنه لم يكتبها، بل كتبها شخص يدعى جريجوريو. أيبيعك أحدكم الحشيش؟  لقد خَرِبتْ عيشتي. انتهت كرة القدم بالنسبة لي. لم يعد شيء يهمني. أنا أبيع الحشيش في قنان قابلة للعصر. ما من أحدٍ هنا يشبه فيكي شيبوليتاكِس. لا أشغل التلفاز إلا لأشهد برنامج إنتروسوس. عندي لكم وصفة حساء الحمص والخضار المدريدي مع نقانق جافة من منطقة تانديل في الأرجنتين، فلنر إن كانت ستعجبكم أنتم[15]. الآن وقد انتهت بطولة روسيا، أمن الأسهل أن أتحمل كل الفرنسيين الذين ألتقي بهم أم أن أنتقل إلى منطقة أبعد في الجنوب؟ خذ هذه الـ"أنتم" وأقحمها في مؤخرتك! كيف يمكنك أن تستخدم النقانق الأرجنتينية في حساء مدريدي، يا خائن! أرأيتم ما فعله السفلة في القناة الرياضية الأرجنتينية؟ دقيقة صمت للمنتخب! مرحبًا جميعًا! عثرت على محل خردة في تيرَّاسا يبيع قطعًا من حشوات البلاستيك العازلة قد تصلح لضغط الشطائر الأرجنتينية. ولكن عليّ أن أخبركم بأن الشطائر ستكون جافة بعض الشيء، ولكن مع إضافة المايونيز تصبح لذيذة. لا أنصح بالعيش بالقرب من فرنسا في هذا الوقت. لا تطلبوا حشوات عازلة في متجر الخردة لأنهم لن يفهموا، قولوا بولسترين[16]. أعتقد أن دقيقة الصمت كانت للصحافة الميتة، لا للمنتخب. أتعتقدون أن ميسي سيتمكن من المشاركة في بطولة قطر بسيقان سليمة؟ لا أعتقد. أنا في الثلاثين ويتعبني المشي على رصيف منتزه جويل. تخيل! أيعرف أحد إن كان تينو من فرقة لابارتشيس بذراع واحدة فعلًا؟ لأنني عثرت عليه على تطبيق تندر ولست أدري إن كان هو فعلًا أم أنه مجرد رجل بذراع واحدة. ميسي في قطر؟ لا، لن يصل. وحتى إن كان مستعدًا بدنيًا، أتمنى أن يحرجهم جميعًا وألّا يذهب. تينو يستخدم تندر؟ لا أصدق! اخرجي معه من أجلي! أكثر ما يضايقني فيمن يهين ميسي هو أن الاهانات تصل إلى أبنائه. أن يسمعوا كل هذا الهراء عن والدهم أمر مريع. لا يهم إن كان بذراع واحدة! لا يهم! إنه تينو. أتفهم؟ أعطني بركة سباحة أبناء ميسي وسأدعك تهين والدي ما شئت. يا عالم، أحدث هذا معكم أيضًا حين عدتم إلى الأرجنتين- أن يسموكم أسبانًا هناك، ويسمونكم لاتينيين هنا؟ لم يكن تينو، يا فتاة، كان رجلًا بيد واحدة ليس إلا، ولكنني عاشرته على أي حال. لا أعتقد أن ميسي سيعود. لقد شارك في أربع بطولات. أعتقد أننا سنظل نحلم. نعم، هنا ينادونني لاتيني وأسبانيًا في الأرجنتين، وحين سافرت إلى الهند، ضربوني في الشارع لأنهم ظنوا أنني تركي.


خلاف ما توقعناه جميعًا، عاد ميسي إلى المنتخب من أجل محاولة أخيرة. لم يحدث الأمر بين ليلة وضحاها، بل تدرَّج ميسي في عودته. فاز أولًا بكأس أمريكا الجنوبية. كان بإمكاننا أن نرى وهو يحتضن أنخل دي ماريا (وهو أيضًا مستهدف بالإهانات) أن لديهما خطة. في تلك اللحظة، استشعرنا حلمًا لم يشأ الكثير منا أن يؤمن به. هو نفسه بدا مختلفًا على أرض الملعب وفي المقابلات، وكأن حقيبة الظهر المليئة بالأحجار التي كان يحملها قد اختفت. وأدركنا في غرفة المحادثة أنه لم يعد الفتى الذي اكتشفناه في تلك المقابلات الأولى. وخطوة بخطوة، أخرس ميسي منتقديه، حتى فاز بكأس العالم في 2022. وجدنا الأمر مضحكًا حين واصل البعض انتقاده حتى وهو في خضم محاولة العودة بعد الخسارة الأولى. وأسعدنا أيضًا حين التقط مكبر صوت كلمات ميسي وهو يخاطب لاعبًا هولنديًا " Qué mirá, bobo, andá payá -ما الذي تنظر إليه. انصرف من هنا، يا أهبل". بالنسبة لنا، نحن من ظللنا نراقب لهجته، كانت تلك عبارة رائعة أسقط فيها كل حرف سين وقلب الياء شينًا. في غرفة المحادثة التي لم يبق فيها الكثير منا أراحنا أن نعرف أنه ما زال ذات الفتى الذي ساعدنا على أن نحافظ على لهجتنا مهما ابتعدنا.

الآن وقد عاد بعض المهاجرين إلى الوطن فيما بقي بعضهم في أسبانيا، وفي كلا الحالتين يمكننا وأخيرًا أن نفرح برؤية ميسي عائدًا إلى وطنه وكأس العالم في حقيبته التي لم يخبئها في العلية. لا يعرف سوانا نحن الذي قضينا سنوات طوال في أراض غريبة أن هذه الملحمة لم تكن لتحدث إن خبأ ميسي حقيبته في خزانة الملابس؛ لو توقف عن غلي الحليب المكثف ليحصل بعد أربع ساعات على علبة من حلوى الحليب؛ لو خضع لسطوة اللهجة. لم تتغير لهجته قط، لحسن الحظ، ولم يتراجع أبدًا أمام من أساء إليه بسببها. ما من سبب سواه جعل العالم برمته يشجع وبكل حمية انتصار ليونيل ميسي الأخير. إذ إن أحدًا لم يعرف قط رجلًا بهذه البساطة يقف على قمة العالم.

تتلخص روعة ميسي في أمر يمكننا نحن أرجنتينيو غرف المحادثة أن نفهمه أفضل من غيرنا. في أحد أيام ديسمبر من العام 2022 عاد ميسي من أوروبا ليمضي عيد الميلاد مع أسرته في روساريو. لم تتغير عاداته بكل بساطة. إن تغير شيء فهو أنه في هذه المرة يعود بكأس العالم في حقيبته.


[1] Sanguichitos de miga  هي نوع من الشطائر المحبوبة في الأرجنتين  تعد في طبقات مضغوطة من الخبز الأبيض (دون حوافه، وبعد أن يُطرى بالمايونيز أو الزبدة) ومختلف الحشوات كالجبنة، وشرائح اللحم، والبيض، والخضار.

[2]  El dulce de leche  هي حلوى الحليب المكرمل تعد بمزج الحليب، والحليب المكثف، والسكر، وغليّ هذه المكونات للحصول على قوامٍ لزج وقابل للدهن.

[3]  El pionono  هي نوع من المعجنات التي تحشى إما بمكونات مالحة وإما حلوة وتلف في أسطوانة، ثم تقطع إلى دوائر.

[4] في اللهجة الأرجنتينية والأوروجوانية (كما في عدد آخر من دول أمريكا اللاتينية) يستخدم ضمير المخاطب vos، عوضًا عن ضميري  tu و usted الأكثر شيوعًا في أسبانيا.

[5] Ta هي اختصار لكلمة está، وتستخدم في الأوروجواي بمعنى الموافقة أو التأكيد أو الاستحسان. في الكثير من لهجات أمريكا اللاتينية تستخدم chau للترحيب وللتوديع.

[6] هذه تعابير دارجة في الاسبانية المحكية في اسبانيا. Vale  تستخدم للتأكيد والتأييد في كثير من الأحيان، tío تعني الخال حرفيًا ولكنها تستخدم اصطلاحًا لمخاطبة الأصدقاء، أما  hostia والتي تعني خبر القربان، يختلف معناها باختلاف السياق، ويوردها الكاتب هنا مثالًا للِعان.

[7] La paella من أشهر الأطباق التقليدية في اسبانيا.

[8]  من الاختلافات بين اللهجتين أن الأسبانية المحكية في أمريكا الجنوبية، في غالبها، لا تنطق الثاء في حرفي c و z وتلفظهما سينًا، وذلك خلاف ما هو دارج في اسبانيا.

[9]  معجنات مصنوعة من رقائق الخَبْز الهشة وعادة ما تكون محشوة بحشوة حلوة.

[10]  Lluviaبالأسبانية تعني مطرًا، واللام المزدوجة رسمًا تنطق ياءً مُضَعَّفة في اسبانيا، وشينًا في المناطق المحيطة بنهر ريو دي بلاتا في الأرجنتين والأوروجواي.

[11] المراد هنا هو طيف التوحد، إلا أن الكلمة بالاسبانية، دون تخصيصها بالتوحد، قد تعني شبحًا.

[12] كاسم ميسي مثلًا أو كاسياري في إشارة إلى أسماء العائلات الأرجنتينية.

[13]   هذه الكلمة هي اختصار لـ bueno، وتتعدد استخداماتها بتعدد السياقات. قد تستخدم للتأييد، والتأكيد كما للتمهيد، والاعتراض.

[14]  تستخدم كلمة sudaca في اسبانيا للإشارة للوافدين من أمريكا الجنوبية، وgallego  هو لفظ يستخدم للإشارة إلى أهل إقليم غاليسيا في اسبانيا، ويطلقه أهل الأرجنتين عمومًا على الاسبان.  وكلاهما يستخدم انتقاصًا وهزئا بالآخر.

[15] يستخدم المتحدث هنا os gusta مستخدمًا المفعول بهos  الدارج في اللهجة الأسبانية للإشارة إلى المخاطبين من رواد غرفة المحادثة. الدارج في الأرجنتين استخدام les gusta كصيغة للمفعول به، وقد اخترت إضافة "أنتم" لملائمتها السياق.

[16] Telgopor في اللهجة الأرجنتينية و poliestireno  في اللهجة الأسبانية كلاهما تعني موادًا مصنوعة من البلاستيك المقاوم للحرارة والسوائل الذي يعرف الستايروفوم وبالبولسترين. قد تستخدم هذه القطع في صنع الشطائر بديلًا لألواح خشبية تقليدية لضغط الخبز بحشواته والحصول على شطائر أصغر حجمًا.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها