يتجلى النمو المضطرد لفكرة الإنجاز في السعي اللاهث وراء تكريس مضاعفة الإنتاجية في اللاشعور الاجتماعي
ذواتنا المحترقة في عصر الإنجاز
مقال محمد نبيل
مراجعة كتاب مجتمع الاحتراق النفسي لبيونغ تشول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى.
«ترتبط الحرية بالمعنى الحقيقي للكلمة بالسلبية. فهي دائماً محاولة للتحرر من القيد أو التملص من الأنظمة الأخري المناعية. لكن عندما تتحول السلبية إلى إيجابية مفرطة وينتفي التمييز بين وجود القيد وغيابه تختفي الحرية أيضاً»
-بيونغ تشول هان
بيونغ تشول هان فيلسوف ألماني من أصل كوري ولد في سيول عام 1959 ورحل إلى ألمانيا في الثمانينيات للدراسة، للمفارقة فإن سبب سفره لألمانيا بالاصل كان لاستكمال دراسته في علم المعادن لكن هان كذب على والديه للسماح له بالسفر ليتمكن من متابعة شغفه بالفلسفة والأدب، قُبل هان في جامعة فرايبورج لدراسة الفلسفة وحصل درجة الدكتوراة من نفس الجامعة عام 1994 عن أطروحته عن مارتن هايدغر، قضى فترة في جامعة بازل في سويسرا ثم عاد إلى ألمانيا في عام 2010 للعمل كأستاذ للفلسفة بجامعة الفنون ببرلين وهو مستمر بالتدريس بها إلى اليوم.
صدر لهان ١٦ كتاباً، ترجم منها للعربية 8 كتب سبعة منها من ترجمة بدر الدين مصطفى وهم: مجتمع الشفافية، مجتمع الاحتراق النفسي، معاناة إيروس، من داخل السرب، خلاص الجمال، طوبولوجيا العنف، ما السلطة. بالإضافة إلى كتاب السيكوبوليتيكا: النيوليبرالية وتقنيات السلطة الجديدة ترجمة كريم الصياد. يمكن اعتبار كتابات هان نوع من المقابسات التي يشتبك فيها مع عدد كبير من المفكرين مثل نيتشه وفرويد وحنة أرندت وميشيل فوكو وجورجيو أجامبين.. إلخ. ويتناص أيضًا مع بعض النصوص الأدبية لبيتر هاندكه وكافكا وآخرين. يظهر هذا في تنوع الموضوعات التي يُعني بها هان كالجمال والفن والاكتئاب والعنف والنيوليبرالية. لكن ربما تكون السمة الغالبة لكتابات هان تركيزه على فكرة غياب السلبية (يعني مفهوم السلبية عند هان "التفكير الناقد" الذي يتم تغييبه لصالح نظرة أحادية تقصي أي أفكار مخالفة لها يفضي هذا إلى نقيض السلبية -الإيجابية- التي تسعى لخلق نماذج متماثلة يلعب الاستهلاك دور رئيسي في تشكيلها). هذا الغياب للسلبية هو نتاج التطور التقني وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الأفراد أكثر إنكبابًا على أناوتهم وأكثر هشاشة في مواجهة الآخر. إحدى مسببات هذه الهشاشة عند هان هي أنماط الاستهلاك والإنتاج الحديثة التي جعلت من الذات هي المُستغل والمُستَغل في آن واحد معتمدة على تخليق أوهام مثل الإنتاجية والفعالية لتكريس عملية الاستغلال الذاتي.
تحتل أفكار هان اليوم موقع مهما باعتبارها صيغ أكثر تطوراً للنظريات النقدية التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين هذه الصيغ تركز بشكل أساسي على التقنيات المستحدثة التي تعيد تشكيل الذات بشكل أكثر فعالية وأقل وضوحاً من سابقتها.
في الفصل الثاني من كتاب «مجتمع الاحتراق النفسي» يشير بيونغ تشول هان إلى أن مجتمع اليوم لم يعد يتوافق مع تصورات فوكو عن المجتمعات التأديبية التي نشأت بفعل تقنيات الضبط داخل مؤسسات مثل السجون والمستشفيات والمدارس والمصانع والثكنات مُشكلت النواة الأساسية للمجتمع التأديبي، حل محل المجتمع التأديبي مجتمع آخر هو مجتمع الإنجاز وهو نظام يُعبر عنه مجتمع صالات اللياقة البدنية وأبراج المكاتب والبنوك والمطارات ومراكز التسوق، لم يعد مجتمع القرن الواحد والعشرين تأديبياً كما تصور فوكو منذ سنوات، وبالمثل لم يعد أفراده ذواتاً مرنة قابلة للتشكل بل أمست ذواتاً للإنجاز، فهم يديرون أنفسهم بأنفسهم بعيداً عن جدران المؤسسات التأديبية التي تقوم على الفصل بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي.
الحياة الإنجازية
«تصف الليبرالية الجديدة حالة المجتمع الراهن جيدًا، لأنها تتعلق باستغلال الحرية. يسعى النظام إلى مضاعفة الإنتاجية، وبالتالي يتحول من استغلال الآخرين إلى استغلال الذات، لأن هذا الأمر يعمل على توليد المزيد من الكفاءة والمزيد من الإنتاجية، وكل ذلك تحت ستار من حرية مزعومة»
-من مقابلة مع بيونغ تشول هان (ترجمة بدر الدين مصطفي)
تبرز سلبية المجتمع التأديبي من خلال الإلزام القهري مُعبراً عنه بالفعل "ينبغي" ومصحوبًا بتصورات تقسم المجال العام بين ما هو طبيعي "عاقل" منضبط وما هو غير طبيعي "مجنون" منحل، صُقلت هذه الأفكار في المؤسسات التأديبية ثم نُشرت في المجال العام لتشكيل الذوات الانضباطية فأنتجت ذواتاً منضبطة ذاتياً وخلفت ورائها مجانين ومجرمين، غير أن مجتمع الإنجاز يمضي قدماً متسارع الخطى في التخلي عن السلبية والتحرر الكامل من كافة القيود إلى قيد واحد وهو سراب الانجازية، تحول من فعل [ينبغي] الملزم في المجتمعات التأديبية إلى عبارة [أجل يمكننا فعل ذلك] محملت بأثقال من هراء التنمية البشرية، اُستبدلت الوصايا والقوانين التي صاغت المجال العام قديماً [لصالح السلطة بالطبع] بمشاريع ومبادرات خلفت وراءها فائزين [بكل ما تحمله كلمة رائد أعمال من سطحية] وخاسرين مرضي بالاكتئاب والاضطرابات النفسية.
يتجلى النمو المضطرد لفكرة الإنجاز في السعي اللاهث وراء تكريس مضاعفة الإنتاجية في اللاشعور الاجتماعي، تحل "يمكنك" محل ينبغي ويُستبدل نموذج التأديب بنموذج الإنجاز. "يمكنك فعل ذلك" هي أكثر فعالية من "ينبغي" فذات-الإنجاز حسب تشول هان أكثر إنتاجية من ذات-الطاعة كما ذكرنا سابقاً، ومع ذلك لا تلغي "يمكنك" "ينبغي" كما لا ينفي ركض الموظف كالهامستر مدفوعاً برغبة داخلية في الإنجاز وجود سلطة خارجية [المدير/الشركة/...] تحثه بلا هوادة على زيادة الإنتاجية. فلا تزال الذات الامتثالية بتعبير تشول هان تتصف حتى الآن بالانضباطية وقد وصلت إلى ذروتها، فكما قلنا لا تنفي التأديبية الانجازية لأن الهدف في النهاية هو زيادة الإنتاج، وعند هذا المستوى لا يوجد فاصل بين "ينبغي" و"يمكنك" فالتناوب بينهم هو السائد.
ينظر إلى الاكتئاب على أنه التعبير المرضى لفشل الإنسان الحديث على أن يكون نفسه. يهمل هذا التصور العنف المنهجي الكامن في مجتمع الإنجاز فلم يعد يطلب من الإنسان أن يكون نفسه ثم يترك لحال سبيله بل يأتي ذلك كله مصحوباً بضغوط لتحقيقه عاجلاً والأن، فمن أين تكسب نوارس التنمية البشرية قوت يومها [حاول، بادر، لا تكن شجرة، يمكنك أنت تمتلك شركة الأسبوع القادم وسيارة بحلول أول الشهر، كيف تدخل الثلاثين من دون أن تكون في قائمة Forbes] طبعاً هم لا يمهدون لك السبيل ولا يعطونك الوصفة فلو امتلكوها لضنوا بها حتى على أنفسهم، لكنه السوق وحاجة الرأسمالية لإعادة الإنتاج الاجتماعي هي من صنعت هؤلاء، وسط كل هذا لا سلاح معك غير ذاتك، وفي ضوء تلك الضغوط كما يخبرنا هان "لا تعبر متلازمة الإرهاق عن النفس المنهكة بقدر ما تعبر عن الروح المنهكة".
تواجه الذات الانجازية معضلتها في آخر النفق حين تفقد تحت الضغوط المتتابعة القدرة على الفعل أي عندما تكون عاجزة مستنفذة القدرة، يتحول الواقع المفتوح على إمكانات لا نهائية سابقاً إلى انعدام الامكانية عموماً وتنقلب [لا شيء مستحيل] إلى [لا شيء ممكن] تحت وطأة العجز عن التمام والتحقيق والمجاراة لما كان قبلاً فضاء لا نهائياً للمكاسب. تنقلب الذات على نفسها في صراع بلا هوادة مع ما تصورت مسبقاً أنها قادرة على تحقيقه وبين هذا وبين انعدام مقدرتها، يتفجر الاكتئاب باعتباره مرض ناتج عن فرط الإيجابية.
يقارن هان بين الانضباط الذاتي الذي قوضت به المؤسسات التأديبية الذات الانضباطية مسبقاً وبين الاستغلال الذاتي الذي تصنعه ذات الإنجاز بيديها اليوم، فعلى عكس ما قد يتبادر للأذهان عن أن الذات الإنجازية قد تحررت من الأغلال ومن الهيمنة الخارجية وأصبحت سيدة نفسها، إلا أن اختفاء هذه الهيمنة لا يفضي بالضرورة إلى التحرر، بدلاً من ذلك فإنه يجعل من الحرية والقهر وجهان لعملة واحدة، حيث يكون السعي المحموم للإنجاز هو المحرك الرئيسي للاستغلال الذاتي، فتتولي الذات نفسه أدوار المؤسسات التأديبية القديمة وتمسي في ذات الوقت الجاني والضحية والُمتسغِل والُمستَغل، وعليها في هذه اللحظة أن تتكيف مع هذه التناقضات وأن توافق بين الأضداد وهو ما يستنفذها بشراهة.
الذات تتداعى
«إننا نعيش اليوم تحت ديكتاتورية الليبرالية الجديدة. في الليبرالية الجديدة، يغدو الجميع متعهدًا بأعمال نفسه. كان للرأسمالية، في عصر ماركس، بنية عمل مختلفة تمامًا، حيث يتكون الاقتصاد من أصحاب المصانع والعمال، ولم يكن أي عامل بالمصنّع يقوم بدور المتعهد بأعماله. كان هناك استغلال خارجي، أما اليوم، فنحن نستغل أنفسنا؛ إنني أستغل نفسي تحت وهم أنني أعبر عن نفسي»
-من مقابلة مع بيونغ تشول هان (ترجمة بدر الدين مصطفي)
تظهر الإيجابية المفرطة من خلال الإفراط في المثيرات والمحفزات معيدة هندسة بنية الإنتباه تحت وطأة هذه المثيرات ومخلفة ورائها إدراكا مجزأ نتيجة ضغط أعباء العمل المتراكمة. تفضي هذه التغيرات البنيوية على مستوى الإنتباه إلى تحويله إلى ما يدعوه هان باليقظة المفرطة التي تستدعي في الفرد خصالاً غرائزية للتكيف مع هذا الصراع لأجل البقاء. هذه المثيرات والأعباء المتراكمة توهن في الذات الإنسانية فضيلة التأني لصالح وهم الإنتاجية والفعالية.
في الفصل الثالث يشتبك تشول هان مع تصور حنة أرندت عن الحياة النشطة، يمكن أن نستخلص من هذه المُقابسات ثلاث صور للحياة الأولي هي الحياة التأملية أو المتأنية وهي ما يدافع عنها هان في وجه الحياة النشطة المتمحورة حول العمل أو ما تدعوه أرندت "مستوى العمالة الحيوانية" وهي الصورة الثانية الحياة. والثالثة هي الحياة الفاعلة وهي ما تقوم على الفعل لا العمل، وهو التصور الذي تدفع عنه أرندت في وجه التصورين السابقين. يتفق الاثنان على نقد الحياة النشطة، لكن يختلفان من حيث المنظور يرى هان أن مفهوم أرندت عن "العمالة الحيوانية" قد تغير بفعل تغير البنية الاجتماعية فلم يعد اندماج العمال في العمل كمجموع متخلين عن أناواتهم هو ما يحكم حيواتهم النشطة بل على العكس، ففي ظل مجتمع الإنجاز تُكرس الفردانية وتتضخم الأنا في سبيل سعي الأفراد لإثبات أنفسهم كفاعلين متحققين ما يفضي إلى إصابتهم بالاضطراب والاكتئاب والارهاق النفسي.
يشبه تشول هان هؤلاء المصابين بالاضطراب والاكتئاب والإرهاق "بالميزلمان" وهو لقب كان يطلق على المعتقلين في المعسكرات النازية الذين فقدوا تحت التعذيب وسوء التغذية تواصلهم مع محيطهم، أُنهكت أجهزتهم العصبية وأصيبوا بالهزال ففقدوا القدرة على الاستجابة مع يدور حولهم، يرى هان أن العمال في مجتمع الإنجاز أقرب للمعاناة النفسية والعصبية للميزلمان حتى وإن لم يشبهوهم على مستوى الإنهاك الجسدي.
ذوات محترقة
«إن ذات-الإنجاز المكتئبة والمنهكة تطحن نفسها إن جاز التعبير. إنها متعبة، مكدودة في نفسها وفي حالة حرب مع نفسها. تفتقد القدرة الكلية على التخارج أو التواجد خارج نفسها والاعتماد على الآخر أو علي العالم أنها تحبسك داخل نفسك»
في الفصل الأخير من الكتاب يعود هان للمقابلة بين ذات-الإنجاز وذات-التأديب من الناحية النفسية، فالأخيرة تشكل جهازها النفسي بفعل المحظورات والأوامر بينما الأولي بنيت على التحرر من تلك القيود. تنسب ذات-الطاعة نفسها (وهو تنويع يستخدمه تشول لذات-التأديب) لمفهوم الواجب والأخلاق بشكل أساسي، وبالتالي فإن حريتها محددة بهذه العتبات التي تخلق بداخلها إلزاماً ذاتياً يأخذ هذا الإلزام أشكال مختلفة: الضمير عند كانط والأنا عند فرويد على سبيل المثال. على الجانب الآخر تتحلل ذات-الإنجاز من كل تلك اللزوميات وتنحي مفاهيم مثل الواجب والأخلاق لصالح المتعة. في تحررها هذا تتخلي عن كل إلزام قد يأتيها من الخارج وتهندس نفسها بنفسها وتشبع رغباتها بدون عتبات أو قيود.
تسعي ذات-الطاعة للحصول على الإعتراف سواء كان ذلك من الله أم من محيطها الاجتماعي وكلاهما تحس به الذات داخلياً. هذا الاعتراف هو مكافأتها نظير التزامها الأخلاقي، أما ذات-الأنجاز فهي ذات شاردة متحررة من ذلك مسبقاً وتولت زمام نفسها، لكنها مع كل ذلك تطلب الاعتراف. وهذا ما يصنع مشكلتها، فالاعتراف يتطلب وجود الآخر ليشهد على ما تحقق أو ليكافئ عليه. يضع غياب هذا الآخر ذات-الإنجاز في مأزق يدفعها لزيادة الأداء والسعي أكثر للإنجاز، أي أنها تكافئ الإنجاز بالإنجاز في كل دورة، وهو ما يضعها تحت وطأة الضغوط النفسية والاضطرابات لأن الشعور بالاشباع وتحقيق الهدف الناتج عن الاعتراف لا يتحقق أبداً.
للمفارقة تقع الذات الانجازية فيما ظنت أنها تحررت منه فسعيها للإنجاز وفائض الإيجابية الذي شكلها مسبقاً. فقد جردها من قدرتها على الرفض فلم تعد مقموعة مثل سابقتها، لكنها أصبحت مشوشة ومفرغة بفعل صراعها الداخلي ضد نفسها، وهي لم تدخل هذا الصراع نتيجة إلزام خارجي لكن بفعل الإغواء الداخلي سعياً لمثالية متوهمة ما تلبث أن تسحق الذات تحت وطأة "عجز المقدرة". تعاقب الذات نفسها على هذا العجز مستنفذة طاقتها في صراع بين رغبتها وقدرتها على الإنجاز.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه