على الرغم من أن أحلامنا تتلاشى، فإننا مازلنا نغني جنبا إلى جنب بداعي التشجيع ورفع المعنويات.

لن تسير وحدك أبدا

مقال جون جرين من كتاب "تقييم الأنثروبوسين"

ترجمة شهد مصطفى

جون جرين مؤلف أمريكي فاز بجائزة البرينتز في عام 2006 عن روايته الأولى "البحث عن آلاسكا" ووصل إلى المركز الأول في قائمة نيويورك تايمز لأفضل الكتب مبيعا. كما أنه ألف العديد من الروايات منها "ما تخبئه لنا النجوم" و"دعها تثلج". وصل جون مرتين لنهائيات جائزة لوس أنجلوس تايمز للكتاب واختارته مجلة تايمز كواحد من أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم. وكتاب "تقييم الأنثروبوسين" لجون جرين يصف عصرنا الجيولوجي الحالي، حيث أعاد البشر تشكيل كوكب الأرض وتنوعه البيولوجي بشكل عميق. في هذه السيمفونية الرائعة من المقالات، يستعرض الكاتب جوانب مختلفة من الكوكب ويرسم فيها تناقضات الإنسانية المعاصرة. "تقييم الأنثروبوسين" هو كتاب عن كيفية البحث عن مشاعرنا في المسارات التي نتخذها في حياتنا يجعلنا قادرين على الاحتفال بمفردنا بالوقوع في حب العالم. 


 مشجعي فريق ليفربول عن sporting news

مايو 2020، ليس لدي تفسير ملائم لما يحدث أثناء الجائحة، وغالبا ما أجد نفسي أشير إليها "بهذا" أو "ذاك" دون الحاجة إلى ذكرها بطريقة مباشرة، لأننا نتشارك جميعا نفس التجربة الأليمة والغير معتادة في كل مكان فلا تتطلب الإشارة إليها بإسم معين، فالرهبة والمعاناة تحاوطنا من كل حدب وصوب. 

لذلك، فإن غايتي من الكتابة أن أخترق هذا النفق المظلم، ولا يزال أثر هذه الذكريات المريرة يتسلل إلى ذهني مثلما يتسلل الضوء عبر ستائر النوافذ أو مياه الفيضان من خلال الأبواب المغلقة بإحكام. فلنفترض عزيزي القارئ أنك تقرأ هذه الكلمات في مستقبلي أو بالأحرى في مستقبل بعيد كل البعد عن حاضري وحينها ستكون هذه الجائحة حتما قد انتهت. أعلم أن هذا لن ينتهي بالكامل وأن حياتنا الآتية ستكون مختلفة تماما عما كانت عليه، ولكن على الأقل سيعود كل منا لحياته الاعتيادية، وأتمنى حينها أن تجدوا الاستقرار أينما تكونوا مثلما أتمنى لي ذلك. ففي هذه الأثناء لابد لي أن أتعايش مع ما يحدث وأن أجد الراحة حيثما أستطيع، ففي الآونة الأخيرة كانت الراحة بالنسبة لي كأغنية موسيقية في إحدى عروض برودواي. 

في عام 1909، عرض الكاتب المجري "فيرينك مولنار" لأول مرة مسرحيته "ليليوم" في مدينة بودابست. حيث تدور أحداث المسرحية حول "ليليوم" شاب يعمل بإحدى الكرنفالات الترفيهية وهو شديد الانفعال مضطرب الذهن بشكل مستمر، والذي يقع في حب فتاة تدعى "جوليا"، وعندما أصبحت حبلى، حاول "ليليوم" أن يتجه للسرقة لإعالة أسرته، ولكنها كانت فكرة كارثية، فمات ليليوم مسببا لنفسه العقاب الإلهي لمدة ستة عشر عاما، ثم سمح له بعدها بأن يزور ابنته المراهقة "لويز" لمدة يوم واحد فقط. 

ولسوء الحظ لم تلق المسرحية إعجاب سكان العاصمة المجرية، ولكن كان من الجيد أن "مولنار" لم يكن من الكتاب المسرحيين الذين يعانون من قلة الثقة بالنفس، فقد حرص على ضرورة عرض المسرحية وإنتاجها في جميع أنحاء أوروبا ثم اختتم عمله الفني في الولايات المتحدة. ترجمت المسرحية في عام 1921 وقد حازت على تقييمات لا بأس بها من قبل الجمهور وحققت نجاحا مرضيا في شباك التذاكر. 

حاول الملحن الإيطالي "جياكومو موتشيني" أن تكون المسرحية جزءا من دار الأوبرا، ولكن "مولنار" رفض أن يبيع له حقوق الملكية قائلا: "أريد أن يتم تخليد ذكراها كعمل مسرحي ألفه "مولنار" وليس كمسرحية مغناة لحّنها "موتشيني"". فبدلا من أن يبيعها لجياكومو، قرر أن يعطيها للثنائي المسرحي الغنائي الأشهر في ذلك الوقت بمسرحية "أوكلاهوما" ريتشارد رودجرز وأوسكار هامسترين.

وبذلك ضمن مولنار أن تكون المسرحية خالدة في الأذهان بعد إعادة تسميتها إلى "كاروسيال" ما دامت تحت إشراف رودجرز وهامسترن والتي تم عرضها عام 1945. غنيت أغنية "لن تسير وحدك أبدا" مرتين في العرض الموسيقي لدى "رودجرز" و"أوسكار"، فقد كانت أول مرة من أجل المترملة حديثا "جوليا" وذلك للرفع من معنوياتها بعد وفاة زوجها، ثم بعد ذلك غنتها زميلات "لويز" بعدها بأعوام في حفل التخرج فلم ترغب "لويز" الانضمام إليهم في الغناء لشدة حزنها، فبالرغم من كون أبيها غائبا بالنسبة لها، لكنها كانت تشعر بروحه ودعمه لها ليدفعها أخيرا للغناء. تتضمن كلمات هذه الأغنية على أكثر الصور المجازية وضوحا حيث تقول لنا أن نسير عبر الرياح والمطر، التي تستحضر استحضارا غير مبتكر للريح العاصف، مضيفا "امض والأمل في قلبك" التي تبدو مبتذلة للغاية، "توجد عند نهاية العاصفة سماء ذهبية وغناء طائر اللارك الفضي بصوته العذب"، ولكن إن عدنا للواقع، ستتناثر في نهاية العاصفة أغصان الأشجار في كل مكان وستنقطع أسلاك الكهرباء والفيضانات ستغمر الأنهار. 

ولكن لاتزال تعجبني هذه الأغنية ربما بسبب تكرار كلمة "امض" -والتي تجعلني أفكر في اثنين من الحقائق الجوهرية لكوننا بشر ألا وهما إننا يجب أن نمضي قدما، والشيء الثاني هو أن لا أحد يسير بمفرده. من الممكن أن نشعر بالوحدة (في الحقيقة سوف نشعر حتما بالوحدة)، ولكن حتى في ظل العزلة الكادحة، لن نكون بمفردنا. مثلما شعرت "لويز" في حفل تخرجها، فالأشخاص الذين ابتعدوا عن حياتنا أو حتى لم يعودوا موجودين فيها لا نزال نشعر بهم وهم يحثوننا على المضي قدما. غنى الجميع هذه الأغنية بداية من "فرانك سيناترا" وحتى "جوني كاش" و"أريثا فرانكلين"، لكن أشهر نسخة كانت من فرقة موسيقية تدعى "جيري اند ذا بيسميكرز Gerry and The pacemakers" من مدينة ليفربول والتي كانت من نفس مسقط رأس فرقة "البيتلز The Beatles" وصدرت في عام 1963، حيث أشرف على الأغنية "براين ايبستن" وسجلها "جورج مارتن" مما جعلهم يغيرون نمط إيقاع الأغنية وإعطاء اللحن الحزين القليل من الحماس فحققت نجاحا كبيرا في المملكة المتحدة. 

ومن بعدها بدأت جماهير نادي ليفربول بغنائها على الفور أثناء مباريات الفريق، في صيف ذلك العام، ذهب المدير الفني الأسطوري لنادي ليفربول "بيل شانكلي" إلى الفرقة الموسيقية ليخبر "جيري مارسدن" قائلا: " لقد أعطيتك يا بني فريق كرة قدم عريق في مقابل أغنية منكم تليق بتاريخ هذا الفريق". وإلى يومنا هذا، تظل أغنية "لن تسير وحدك أبدا" محفورة على أعتاب البوابة الحديدية لملعب الأنفيلد (ملعب نادي ليفربول). ومحفورة أيضا على أصابع اليد اليمنى لمدافع ليفربول الدنماركي الشهير "دانيال أغر" الذي وشم أول كل حرف من اسم الأغنية. آما بالنسبة لي فهذه الأغنية مرتبطة معي بالفريق خصوصا عند سماعي للموسيقى الافتتاحية نظرا لإنني أشجع نادي ليفربول منذ زمن طويل وأفكر باللحظات التي غنيت فيها مع المشجعين سواء كنا نغنيها بتعظيم وإجلال أو حتى باستياء. عندما مات "بيل شانكلين" في عام 1981، غناها "جيري ماردسن" في الحفل التأبيني والتي تم غناؤها في العديد من الجنائز الخاصة بمشجعي فريق ليفربول. ما يثير دهشتي هو كيف أن لهذه الأغنية أن تكون ملائمة للغناء في إحدى الجنائز أو حتى في حفلة تخرج أو كونها كانت الأغنية التحفيزية للإطاحة بنادي برشلونة في دوري أبطال أوروبا، وكما قال اللاعب والمدرب السابق لنادي ليفربول "كيني دالغليش"، "إنها تشمل مرارة الأحزان ولذة النجاح في آن واحد"، فهي تتحدث عن كيفية التمسك ببعضنا حتى وإن كانت أحلامنا مثل شخص مرهق منطرح أرضا، وعن عواصف المحن وبريق الأمل على حد سواء. 

للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر غير مألوفا كون أشهر أغنية لفريق كرة قدم في العالم أصلها من المسرح الغنائي، لكن كرة القدم نفسها مثل المسرح ومعجبيها هم من يعزفون الألحان على هذا المسرح. في حين أن النشيد الخاص بنادي "ويستهام يونايتد" يدعى "سأنفخ الفقاعات للأبد" ومع بداية كل مباراة للفريق، تظهر الآلاف من الفقاعات من أعلى المدرجات أثناء غنائهم: "سوف أنفخ الفقاعات للأبد، فقاعات رائعة تحلق عاليا في الهواء بالكاد تلامس السماء، فإنها مثل أحلامي، تتلاشى وتموت هباء". في حين أن مشجعي نادي مانشستر يونايتد أعادوا صياغة أغنية "Battle Hymn of the Republic" الخاصة بالحرب الأهلية في الولايات المتحدة والتي ألفتها الكاتبة والشاعرة الأمريكية "جوليا وارد" إلى نشيد خاص بهم والذي يدعى المجد المجد لفريق مانشستر يونايتد "Glory Glory Man United"، وعلى الجانب الآخر من نفس المدينة، اعتمد مشجعي نادي مانشستر سيتي أغنية قمر أزرق "Blue Moon" التي أصدرها الثنائي "رودجرز" و"هارت" في عام 1934. 

لقد أبدع مشجعي كل فريق في صياغة كل نشيد بطريقتهم الخاصة، عازمين على أن يكونوا بجانبهم في الضراء قبل السراء: سواء كانت الفقاعة تحلق عاليا أو تنفجر أرضا، فسوف نستمر في الغناء سويا. قد تبدو أغنية "لن تسير وحدك أبدا" مبتذلة ولكن هذا ليس بالشيء الخاطئ. فإنها فقط تطلب منا أن نمضي قدما والأمل في قلوبنا، ليس وكأنها متوسلة من العالم أن يكون إما عادلا أو مليئا بالبهجة. مثلما حدث مع "لويز" في نهاية مسرحية "carousel"، حتى وإن لم تكن تؤمن بالسماء الذهبية أو بغناء طائر اللارك الفضي العذب، فسوف تؤمن به قليلا عند وصولك لنهاية الطريق. 

في شهر مارس من عام 2020، انتشر فيديو لمسعفين بريطانيين وهم ينشدون الأغنية من خلال الجدار الزجاجي العازل لزملائهم في العمل الذين كانوا في وحدة العناية المركزة في محاولات للتخفيف عنهم ورفع معنوياتهم، يا له من تعبير، فعلى الرغم من أن أحلامنا تتلاشى، فإننا مازلنا نغني جنبا إلى جنب بداعي التشجيع ورفع المعنويات.

في نهاية الأمر تستحق أغنية "لن تسير وحدك أبدا" أربع نجوم ونصف.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.