ليس كل لغز يتضمَّن جثَّة، لكن كل جثَّة تُمثِّل لغزًا. الموت شخص مُصاب باضطراب تعدد الشخصية يطرق أبوابنا كل مرة باسم مختلف

عن الموت.. قصائد مختارة

إعداد وترجمة: أحمد جمال


الموت والحياة لجوستاف كليمت، عن ويكيميديا

لماذا نموت؟ إنَّه أحد أكثر الأسئلة التي حيَّرت البشرية. يبدأ الأمر بجثَّة هامدة، مثله مثل كثير مِن الألغاز. يفقد رجل في منتصف العمر وعيه، ثُمَّ يُهرَع به إلى المستشفى فيُخبرنا أحد الأطبَّاء إنَّه في غيبوبة ولا يعرفون غير ذلك، ويبقى الرجل على هذه الحال ما شاء الله له أن يبقى ثُمَّ يأتي الطبيب مُجددًّا ويقول "البقاء لله". قليلة هي الأدلَّة ومُبهَمة وتُشير إلى طُرُق شتَّى. كان مُدمنًا. كان مريضًا بداء السكري. يقول بعض أفراد عائلته إنَّه كان يتصرَّف تصرُّفات مُريبة آخر مرة رأوه فيها واعيًا، ويُنكر آخرون عليهم قولهم ذلك. جاءت نتيجة تحاليله المعملية غير حاسمة. كل شيء غير حاسم. لو كان ذلك لغزًا مِن ألغاز آرثر كونان دويل، لوجدنا محقِّقًا يأتينا بحلِّ ذلك اللغز. لكن في هذه الحالة وفي كثير غيرها لا نجد المحقق ولا حل اللغز. ليس كل لغز يتضمَّن جثَّة، لكن كل جثَّة تُمثِّل لغزًا. الموت شخص مُصاب باضطراب تعدد الشخصية يطرق أبوابنا كل مرة باسم مختلف، وماذا يقتلنا لهو سؤال في غاية التعقيد. نطرحه بفضول طبِّي وبحزن دفين. نطرحه بلاغيًّا واستفهاميًّا. نتوجَّه به إلى الجميع من الفلاسفة والأطبَّاء ورجال الدين والعوام. سؤال ما أبسط تكوينه وما أعقد إجابته. لماذا نموت؟

الموت أحد أصعب الأمور استيعابًا للعقل البشري وأعمق جذور الحزن في حياة معظمنا. قد نحزن لكثير مِن الأسباب، لكن فقد أحِبَّتِنا أكثر الفواجع مدعاة للحزن تتبادر إلى ذهن الإنسان. يتكلَّم هنري وَدزورث لونجِفلو عن الحُزن قائلًا:

كُلُّ ابن آدم يحمل أُمورًا يُسِرُّها ولا تَسُرُّه
يعلمُها هو ويجهلُها غيره
وكثيرًا ما نجعلُه في تُهمة الجُمود أسير
بينما هو بالكَبَدِ عَليل

لطالما شغل الموت الناس، والشعراء ليسوا باستثناء. لقد تناولوه من جوانب شتَّى قديمًا وحديثًا في كافَّة الثقافات. ودائمًا ما نجد أنفسنا نفهم معنى الأبيات مع اختلاف لغة تواصلنا. قد يختلف شكل القصيدة باختلاف اللغة، وقد تختلف الاستعارات والتشبيهات باختلاف الثقافة، لكن فحوى الرسالة واحد لأنَّه لا يقف على هذه الحدود. هذه بعض قصائد الموت التي تختلف في أشكالها واستعاراتها وتشبيهاتها، لكنَّها تتفق في فحواها:

الرباعية الثامنة

لعمر الخيَّام

عمر الخيام لأبو الحسن الصديقي، عن ويكيميديا

غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيَّام، المعروف بعمر الخيَّام، هو أحد الشعراء الفارسيين وعالِم في الفَلَك والرياضيات. يُنسَب إليه كتاب رباعيات الخيَّام. والرباعية، إحدى أشكال الشعر الفارسي، مقطوعة من أربعة أبيات تدور حول موضوع معين، وتكوِّن فكرة تامَّة. على مرِّ الزَّمن، نُسِب إليه أكثر مِن 2000 رباعية، ولكن ما كتبه بالفعل لا يكاد يتجاوز الـ200 رباعية. تحتوي هذه الرباعيات على أسئلة عن الكينونة والوجود والإنسان والقدر والمصير والجبر والاختيار والتمييز بين الزهد الحقيقي والزهد المزيف والحث على الصدق والعدل وخدمة الناس التي يعتبرها الخيام هي أساس الدين.

بَزَغت الشَّمس على بشرٍ شِداد
وجنَّ اللَّيل على مِثلهم في حِداد
النَّار الَّتي تبعث اليوم دفئًا في القلوب
ستُحيله غدًا إلى رماد

قصيدة شجن جنائزي

لدپليو إتش أودن

أودن، عن the times

ويستَن هيو أُودن، المعروف بدپليو إتش أودن، شاعر وكاتب مسرحي وناقد ومؤلف أغاني إنجليزي ذاع صيته في الأوساط الأدبية وكان له تأثير كبير على حركة الشعر في القرن العشرين. نُشِرت هذه القصيدة لأول مرة في عام 1938 وتتناول أثر الحزن في النفس: فَقَد المتحدِّث شخصًا عزيزًا عليه، لكن بقية العالم لا يُبطئ أو يتوقَّف للتعزية أو المواساة؛ يواصل المسير وكأنَّ شيئًا لم يتغيَّر. يرى المتحدِّث هذه اللامبالاة كنوع مِن التعذيب الوقح، ويُطالب أن يحزن العالَم معه. وهكذا نرى الحزن في القصيدة على أنَّه شعور له قدرة عالية على قطع الناس الذين ينزل بأنفسهم ضيفًا عن العالَم مِن حولهم.

أوقِفوا كُلَّ السَّاعات واقطعوا أسلاك الهواتف
امنعوا الكلب اللاهِي بعظمته من النُّباح
كُفُّوا البيانو عن العزف واقرعوا الطُّبول الخوافِت
أخرِجوا الجُثمان وأدخِلوا مَن يُريد النِّواح

دعوا الطائرات تُحلِّق وهي تئنُّ فوق الهامات
كاتبةً في السماء رسالة فحواها: "لقد مات!"
طوِّقوا بأشرطة الحِداد الأعناق البيضاوات للحَمامات
ولترتدي شُرطة المُرور مِن القُطن الأسود قُفَّازات

كان بوصلتي الَّتي أهتدي بها إلى شتَّى الجِهات
كان شُغلي في الظَّهيرة وراحتي تحت نجوم السَّماء
كلامي وغنائي وظهيرتي ومُنتصف المساء
ظننت أنَّ الحُبَّ يدوم إلى الأبد، لكن للمرء خيبات

النجوم مُستقبَحة الآن، أُريدها سوداء
احزموا القمر وهشِّموا الشَّمس إلى فُتات
أهرِقوا المُحيط واكنسوا الغابات
فالشَّمس لن تُشرق وليس هُناك سماء

قصيدة الأُم

لجويندلن بروكس

جويندلن بروكس، عن poetry foundation

جويندلِن بروكس هي واحدة من أكثر الشعراء الأمريكيين تأثيرًا وقراءةً في القرن العشرين. ألَّفت أكثر مِن 20 ديوانًا، وكانت محط تقدير الكثيرين حتَّى خلال حياتها وتميَّزت بكونها أول شاعرة سمراء تفوز بجائزة بوليتزر. تتناول في هذه القصيدة الإجهاض مِن وجهة نظر أم مرَّت بهذه التجربة مرَّة أو أكثر وترسم صورة تفصيليَّة للأثر النفسي والجسدي الذي يُخلِّفه هذا الفعل.

الإجهاضات لن تدع الذكرى تُفارق أذهانكُن.
تذكرون الأطفال الذين بداخلكُنَّ حملتموهُنَّ ولم تحملوهُن.
الِّلدان الصغيرة الرطبة التي قد يعتليها مِن الشعر القليل.
المُغنيين والعُمال الذين لم يستنشقوا قط الهواء العليل.
لن تُهملوهُنَّ أبدًا أو تضربوهُن.
أو تُخرسوهُنَّ أو بالحلوى ترشوهُن.
لن تمنعوهُنَّ مِن مصِّ إبهاماتهم.
أو تُطاردن الأشباح مِن خلفهم.
لن تتركوهُنَّ أبدًا وأنتُنَّ تكتمن لهفتكُن.
وتعُدن إليهم -قرَّة أعينكُنَّ- فتلتهمنهُن.

لقد سمعت في تذاؤب الرياح أصوات أطفالي الشاحبين المقتولين.
لقد انقبضت. لقد هدَّأت
أعزائي الشاحبين بالثدي الذي لا يمكن لهم أبدًا أن يرضعوه.
لقد قلت يا حلواي، إذا أذنبت.. إذا اجتثثت
حظوظكم
وحيواتكم من جِذعكم غير المُكتمِل..
إذا سرقت ولاداتكم وأسماءكم
وعَبَرات طفولتكم وألعابكم
وأحِبَّتكم المُتكلِّفين منهم والصادقين وثورانكم وزيجاتكم وآلامكم ومماتكم..
إذا سمَّمت أنفاسكم الأولى،
صدِّقوا أنَّ حتَّى في تعمُّدي لم أكن مُتعمِّدة.
مع ذلك لمَ يجب أن أنتحب،
أنتحب والجريمة ليس لها في صدر غيري رحب،
بما أنَّك على أيِّ حال قد واراك الثرى.
أو بالأحرى، أو بدلًا من ذلك
لم يأتِ يوم فترى.
لكن ذلك أيضًا، على ما أخشى،
مغلوط: وا، ماذا سأقول.. كيف للحقيقة أن تُقال،
وُلِدت جسدٌ فجُثمان.
الأمر وما فيه أنَّك لم تقهقه قط أو تبكي أو تضع أمورًا في الحُسبان.

صدِّقوني، لقد أحببتكم جميعًا.
صدِّقوني، لقد عرفتكم، مع أنَّها معرفة سطحية، ولقد أحببتـ.. أحببتكم
جميعًا.

قصيدة الصرخة

لإدوارد مونك

لوحة الصرخة، عن BBC

رسم الفنان إدوارد مونك مجموعة لوحات باسم الصرخة، وتتضمن المجموعة لوحة الصرخة الأصلية التي بيعت في عام 2012 مُقابِل 119 مليون دولار في مزاد عالمي. وتعكس اللوحة وجه رجل تبدو عليه ملامح الخوف والقلق الشديدين، ويُمسك رأسه بيديه، وعيناه مُحدِّقتان، وفمه مفتوح يصرخ. والخلفية عبارة عن تموُّجات لنهر وفوقه تموُّجات باللون الأحمر الصارخ. كما يظهر في الخلفية شخصان يتحدثان ولا يُلقيان بالًا لمن يصرخ باعتبار أنَّ الخوف والقلق كليهما أمر فردي. والجدير بالذكر أنَّه كتب على إطارها قصيدةً يصف فيها ما ألهمه برسم المجموعة.

بصُحبة صديقين لي كنت في الطَّريق أسير
الشَّمس آخذة في الغروب وإذ فيها الدِّماء تسيل

عُباب من الحزن يغمُرني
وسقم من الموت يُكدِّرني

جسدي إلى سياج يستميل
والنَّهر مِن الظُّلمة يستجير
والمدينة للنيران تستكين

واصلت بعدها برفقة صديقيَّ على الجسر المسير
فسمعت حينها صرخةً ليس لها في الطبيعة مثيل

قصيدة الخلود أو لا تقف عند قبري وتذرف العَبرات

لكلير هارنر

كلير هارنر، عن allpoetry

كتبت كلير هارنر الشاعرة والصحفيَّة هذه القصيدة ونشرتها لأول مرة في عدد ديسمبر 1934 في المجلة الشعريَّة ذا جيبسي رثاء لأخيها الذي حضره موت الفجأة قبلها بوقت قصير. حظيت القصيدة بشهرة واسعة وأصبح مِن المُعتاد سماعها في الجنازات. ادَّعت ماري إليزابيث فراي أنَّها مَن ألَّفت هذه القصيدة، لكن لم يكن لديها ما يُثبِت صحَّة ذلك الادِّعاء.

لا تقف عند قبري وتذرف العَبرات،
أنا لست هناك، وأن يُجافيني النوم هيهات.
أنا ألف ريحٍ عاصفة،
أنا الماسة التي على الثلج متلألئة،
أنا الشمس المُشرقِة على الحبوب اليانعة،
أنا في الخريف الأمطار الهادِئة.
عندما تستيقظ في ساعة الغداة مِن الصباح
أنا النشوة المُفاجِئة المُوقِظة للأرواح
المُنبعِثة من طيران الطيور الهادئة في حلقات.
أنا النجوم الرقيقة التي تُشِعُّ في الأُمسيَّات.
لا تقف عند قبري وتبكي،
أنا لست هناك، ولم يوارِ الثرى جسدي.


* المقال والترجمة خاصان بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه