كان بنيامين على حد تعبير حنه أرنت أكثر الماركسيين غرابة على الإطلاق قدمته مدرسة فرانكفورت.

تاريخ موجز للنظرية النقدية

نصر الله مامبرول

ترجمة: مارينا أشرف وجهاد زيادي

نشر في موقع Literariness في مارس ٢٠١٩


ثيودور أدورنو على اليمين وماكس هوركهايمر على اليسار

تهتم النظرية النقدية إلى حد كبير بنقد الحَدَاثة والتحديث والدولة الحديثة. تلاقى الجيل الأول من المنظرين النقديين -وهم ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوزه وڨالتر بنيامين وإريك فروم- معًا في أوائل الثلاثينيات القرن العشرين من مختلف الحقول المعرفية داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك من أجل تحليل الأيديولوجيات والمؤسسات والخطابات ووسائط الإعلام ونقدها، وكذلك من أجل البحث في علم النفس الاجتماعي للاتجاهات الجديدة المقلقة مثل الفاشية و«المجتمع الخاضع للإدارة». ارتبطت كافة هذه الشخصيات، باستثناء بنيامين، ارتباطًا رسميًا بمعهد البحوث الاجتماعية الذي أسسه فيليكس ڨيل [Felix Weil] في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى وبحلول عام 1923 أصبح جزءًا من جامعة فرانكفورت. كما تخصصوا في دراسة المجتمع من منظور ماركسي، لكنهم انحرفوا عن الماركسية الكلاسيكية بتركيزهم على «ظاهرة البنية الفوقية» (على سبيل المثال: مشكلات الثقافة والتشكيل الطبقي والسيطرة الأيديولوجية) في مقابل أنماط الإنتاج والقوى الاقتصادية التي تحدد بشكل أو بأخر، بالنسبة للماركسية الكلاسيكية، مثل هذه الظواهر تحديدًا آليًا. على الرغم من تأصل مُنظري مدرسة فرانكفورت في التقاليد الهيجلية أو الكانطية، فإنهم انتقدوا رؤى الكُلّيّة (أي الرؤى الاجتماعية والسياسية والتاريخية والاستطيقية [الجمالية]) المرتبطة بهذين الفيلسوفين.

كان هدف المعهد في سنواته الأولى (1930 - 1964) يكمن في تطوير نظرية اجتماعية شاملة تصف علاقات السلطة والسيطرة وتسهل التحولات الاجتماعية الراديكالية وتشجعها. تمثلت اهتمامات أدورنو الرئيسة، على غرار هوركهايمر، في جودة الحياة البشرية وقيمتها، للحفاظ على السعادة والرَفَاهِيَة والتجربة الاستطيقية. يُعد كتاب جدل التنوير (1944) أهم عمل في هذه الفترة، وهو نقد للحَدَاثة في صورة «شذرات فلسفية»، وتحليلات نقدية للتفكير التنويري ومعاداة السامية و«صناعة الثقافة» والمجتمع الخاضع للإدارة. يُنظر إلى التنوير هنا على أنه تضمين الشيء ذاته الذي يسعى إلى التغلب عليه داخل مساره الجدلي: وأقصد الأساطير. «فعلم الأساطير بالذات قد أوجد سيرورة التنوير التي لا نهاية لها»، و«كما أن الأساطير قد أكملت التنوير، فإن هذا التنوير قد ارتبك أكثر فأكثر في علم الأساطير»*. وضح تأثير هذا التفاعل الجدلي بالفعل في هوميروس، الذي يتعارض تنظيمه الملحمي مع الواقع الأسطوري: «[فالملحمة هي] العالم الهوميري الوقور المليء بالمعاني التي يبرزها العقل المنظم الذي يقضي على الأسطورة لحساب النظام العقلاني الذي تعكسه»**. أدى التحرر من وهم الوحدة الأسطورية للطبيعة في نهاية المطاف إلى الذاتية المغتربة للحَدَاثة وعَقْلنَة الثقافة وتسليعها، كما أنه خلق الظروف التي يمكن أن تزدهر فيها معاداة السامية و«الحل النهائي» في خضم كافة التطورات داخل العلوم الإنسانية والفلسفة والفن.

تمثل صناعة الثقافة وصف أدورنو لتسليع الإنتاج الثقافي، حيث اعتقد أن الإنتاجات الثقافية للمجتمعات الرأسمالية -وبخاصة تلك التي تهيمن عليها تقنيات وسائط الإعلام العالية الجودة- هي تقليل من قَدْر الإمكانية البشرية، وهي تزيد قليلًا عن مجرد أدوات تستخدم في التهدئة العامة للجماهير. يكشف تحليل أدورنو لصناعة الثقافة أن تقنيات وسائط الإعلام وصناعات التَسلِيَة المتطورة للغاية تُعقلِن الحياة الاجتماعية «وتخضعها لإدارتها» في العصر الحديث. كانت لفكرة المجتمع الخاضع للإدارة -مثلها مثل فكرة هربرت ماركوزه «الإنسان ذي البعد الواحد» النموذجية لمثل هذا المجتمع- أهمية كبيرة للغاية لمنظري المعهد منسجمة مع العمل الذي يقوم به علماء الاجتماع أمثال ثورشتين ڨبلن [Thorstein Veblen] حول طبقة الأعيان وسي. رايت ميلز [C. Wright Mills] حول تشكيلات الطبقة الجديدة ونُخَب السلطة في المجتمع الأمريكي. جادل ماركوزه بأن المجتمعات الصناعية المتقدمة تتميز بصورة «الفكر ذي البعد الواحد» الذي يُضعف كافة الإمكانات البشرية وتُجاوِز المجال المحدود للإنتاج المادي الرأسمالي. يتميز تحليل أدورنو لنفس هذه المجتمعات بهجوم لا حد له على التقليل من قدر الثقافة في ظل الرأسمالية، حيث يناقش أن تقنيات الثقافة الشعبية (أي الراديو والتلفزيون والأفلام والإعلانات وصناعات الموسيقى والكتب) تخدم شكلاً خبيثًا من أشكال الرقابة الاجتماعية الأقل اعتمادًا على الإقناع (الصريح واللاشعوري) بقدر اعتمادها على ابتداع سياقات وحالات مزاجية وتوجهات و«أنماط الحياة» من أجل تحويل الفرد الفعّال الذي يختبر العالم إلى مستهلك للسلع. يصبح للفرد علاقة مجردة ومغتربة عن العالم المادي للتجربة الأصيلة. 

وفي هذه البيئة، يصبح مستهلكو الثقافة المنتجين الأساسيين، لكن يقتصر عملهم على إعادة إنتاج الظروف الاجتماعية القائمة. وبالتالي، «يمكن 'لثقافة المستهلك' أن تتباهى بأنها ليست ترفًا بل مجرد امتداد للإنتاج». وهكذا تنتج صناعة الثقافة أشكالًا شعبية من التَسلِيَة من أجل تهدئة الأفراد بما يتوافق مع طرق التفكير والاستهلاك السائدة. يشير نقد أدورنو اللاحق لموسيقى الجاز -التي رفضها باعتبارها ذات طابع تجاري ومُتدنية- إلى مدى إعادة الإنتاج حتى الأشكال الثقافية الهامشية للقيم والأذواق السائدة. بالنسبة إلى هوركهايمر وأدورنو، لم يعد يتمتع البشر في المجتمعات الخاضعة للإدارة بتجارب استطيقية؛ فما من شيء سوى مشهد الاستهلاك ذاته الذي يُعد دورة التَسلِيَة والتي لا ترضي أبدًا ولا تفشل بتاتًا في فبركة الرغبة في المزيد. يعني الشعور بهذه الرغبات العمل وفق النزعة الاستهلاكية التي غيرت الطريقة التي تحدد المصالح السياسية والاقتصادية المجتمعات التكنولوجية متزايدة التعقيد. في المجتمع الاستهلاكي، تتسلل المنافسة ومنطق السوق إلى كافة مستويات الممارسة الاجتماعية والثقافية والسياسية.

يؤكد عمل أدورنو على التركيز الجديد في النظرية الماركسية على الفن والاستطيقا والتزام الفنان بالتغيير الاجتماعي. فلقد فرض الهولوكوست حدودًا على الثقافة والنقد: «يواجه نقد الثقافة المرحلة الأخيرة في جدل الثقافة والبربرية. إن كتابة الشعر بعد أوشڨيتس [Auschwitz] عمل بربري. وهذا يُفسد حتى معرفة سبب استحالة كتابة الشعر اليوم». بمعنى أخر، من الصعب التفكير في استحالة الفن، لأنه حتى هذا التفكير النقدي تشوبه البربرية الكامنة في رؤى التنوير للتقدم. تجعل عَقْلنَة الثقافة من الصعب على أدورنو رؤية أي إمكانية تحررية داخل المذهب الإنساني، مما يعني أنه ينبغي عليه اللجوء إلى الابتكارات الراديكالية للفنانين المناهضين للمذهب الإنساني والطليعيين أمثال أرنولد شونبرج [Arnold Schoenberg] وصمويل بيكيت [Samuel Beckett] وفرانز كافكا [Franz Kafka]. بالنسبة لأدورنو، تقدم الاستطيقا السلبية، المتمثلة في أعمالهم، البديل الأصيل الوحيد للثقافة الخاضعة لإدارة الرأسمالية المتقدمة. تُعد نظرية أدورنو عن الديالكتيك السلبي إحدى أهم الأدوات لتحليل المشكلات الاجتماعية والثقافية دون الانزلاق في المفاهيم التقليدية للذاتية والهوية. يحافظ الديالكتيك السلبي على «سلبية» السلبي، الذي يُقاوِم استيلاء المصطلح الإيجابي لعمليات الجدلية عليه. ليس الأمر قَلَبًا للعمليات الجدلية النمطية، فكما حذر أدورنو من أن «القَلَبَ الشكلي المحض» لصيغة «الهوية في اللاهوية» هو إعادة صياغة للعلاقات الجدلية المبتذلة. يتجنب الديالكتيك السلبي مثل هذا القلب بإنقاذ اللاهوية من عملية جدلية تصنف تحت إنتاج الهوية. ومع ذلك، تظل عملية الإنقاذ مرتبطة «بالفئات الأهم من الفلسفة المؤيدة للهوية وكأنها نقطة انطلاق لها».

كان ڨالتر بنيامين [Walter Benjamin] -صديق أدورنو وزميله- أقل التزامًا بالمنهج الجدلي. اشتهر بنيامين بكتابته بواكي باريس والمتسكع، الشخصية الجوهرية للحداثة، الهائمة في المدينة والخاضعة تحت وابل مستمر من البشر والأشياء والسلع. جمع بنيامين بين الصرامة الاجتماعية والفلسفية للمعهد ووجهة نظر خلاصية حيث ظهر أفضل توضيح لها في «أطروحات حول فلسفة التاريخ». بالنسبة لبنيامين، لا تُعد الحتمية التاريخية عمليةً جدليةً بل إنها شكل من أشكال التواقُت الصوفيّ الذي يواجه «ملاك التاريخ» فيه الماضي المتكدّس وكأنه حُطام سفينةٍ عند قدميه وظهره للمستقبل الذي يُدفع نحوه دفعًا لا يقاوم.

كان بنيامين، على حد تعبير حنه أرنت [Hannah Arendt]: «أكثر الماركسيين غرابة على الإطلاق قدمته» مدرسة فرانكفورت. تماشيًا مع البعض من أصحاب النظرية النقدية، نظر بنيامين إلى العدد الكبير من الإنتاجات الثقافية -بما فيها الموسيقى والأفلام الشعبية والأدب والأزياء والمنتجات الاستهلاكية- من زاوية طريقة إعادة إنتاجهم لمنطق الرأسمالية. لكن على عكسهم، حاول تحديد ما حُقق داخل عملية التسليع. يحاول بنيامين في مقاله «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيًا» أن يبرهن على أن الأعمال الفنية التقليديّة كانت «فريدة من نوعها»، وامتلكت «هالة» من الأصالة غير المنفصلة عن وظيفة الطقوس. ومع ذلك، ثمة تعويض جزئي على الأقل عن فقدان الهالة الذي حدث بمجرد إنتاج الأعمال الفنية بكميات ضخمة. يمكن للأفلام وأشكال الفن الجديدة الأخرى أن تبتدع الآن ثقافة شعبية تحررية «تُجرد فيها قدسية» العمل الفني المقدس من قبل وأيضًا «يجرد من استطيقيته» مما يجعل قابليته لإعادة الإنتاج اللامتناهي أكثر جماهيرية وأقل ارتباطًا بالطقوس الباطنية: «فلأول مرة في تاريخ العالم يحرر إعادة الإنتاج التقني العمل الفني من اتكاله الطُفْيليّ على الطقوس». يشير فقدان الهالة إلى تضارُب في صميم الثقافة الحديثة، لأن الوسائل ذاتها التي سلبت الأصالة من الثقافة التقليدية هي الوسائل التي يصبح بها الفن متاحًا للجماهير. بفقدان الهالة حدث فقدان لفكرة أن العمل الفني هو بنية موحدة خالدة. لهذا السبب تحرى بنيامين عن سبلٍ جديدةٍ للتعبير عن آرائه حول الأدب والثقافة. وبسبب انجذبه إلى ماديّة الأشياء، وإلى التفاصيل المعبِّرة، أصبح ماهرًا في استخدام الاقتباس. وفقًا لأرنت: «أصبح في هذا أستاذًا عندما اكتشف أن قابلية نقل الماضي حلت محلها قابلية اقتباسه وعوضًا عن نفوذه نشأت سلطة غريبة تستقر تدريجيًا في الحاضر وتحرمه من 'راحة البال'، أقصد السلام الغافل للرضا عن ذاته. 'الاقتباسات في أعمالي مثلها مثل لصوصٍ على جانبي الطريق يقوموا بهجوم مسلح ويريحوا العاطل من قناعاته'». طور بنيامين نموذجًا للفهم النقدي غير المستند على مفهوم الوحدة العضويّة أو التأليفيّة، لكنه يستند على كوكبة من النصوص والمفاهيم والأفكار التي تشكل كُلّيّة مؤقتة وفعّالةً بالإضافة إلى أسلوب من الممارسة الاجتماعية.

كان ترأس يورغن هابرماس بحلول عام 1964 للفلسفة وعلم الاجتماع في المعهد بمثابة مرحلة ثانية من النظرية النقدية. واصل هابرماس وأتباعه رغم العقبات، خاصةً سيليا بن حبيب [Seyla Benhabib]، اتباع تقليد النظرية الاجتماعية المرتبطة بمدرسة فرانكفورت. في هذا الوقت، نرى نقلةً بعيدةً عن نقد الحَدَاثة -باعتباره مأزق الرأسمالية- إلى نقد يمكن فيه تحقيق الإمكانات التحررية لمشروع الحداثة «غير المنجز» باستراتيجيات جديدة للتحول الاجتماعي. يتضح شيء من أمل بنيامين في التقنيات الثقافية الجديدة في اعتقاد هابرماس أن الأشكال الجديدة من «الفعل التواصلي» يمكن أن توفر وسيلة لتحقيق الإجماع الاجتماعي والسياسي. كانت هذه أشكالًا غير قسرية وعقلانية لفعلٍ رضائي قائم على مبدأ النقد المتبادل والقبول المشترك للقيم والمخاطر التي ينطوي عليها الإجماع العقلاني. بحلول عام 1975، مع نشر كتاب أزمة الشرعية، تمكن هابرماس من تقديم بديل منهجي لنظرة أدورنو للمجتمع. حاجج هابرماس برفقة كل من هانز بلومنبرج [Hans Blumenberg] وكلاوس أوف [Claus Offe] وإرنست مَندل [Ernest Mandel] بأن الأزمات في المجتمعات الرأسمالية «التكنوقراطية» المتقدمة قدمت فرصًا بالغة الأهمية للتغيير الاجتماعي. في هذا السياق، فإن دولة الرفاه التي نظّر لها أوف هي أحد علامات النظام الرأسمالي الأبعد ما يكون عن الاستنزاف، الذي يُعد ببساطة مخاطرة في إنتاج برامج اجتماعية تساهم في عملية إنهاء التسليع التي تمنح فيها الدولة موارد دون إثراء متساوٍ في صورة رأس مال أو سلع أخرى، وهذا على خلاف منطق إنتاج السلع والنزعة اِستِهلاكِيَّة.

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، دخل هابرماس في مناظرة مع چون فرانسوا ليوتار [Jean-François Lyotard] الذي ناقش في كتابه الوضع ما بعد الحداثي (1979) أن مشروع الحداثة قد انتهى بالفعل وبدأ مشروع جديد. ادعى هابرماس عكس ذلك، في مقالته التي كثر الاقتباس منها عام 1979، الحداثة إِزاء ما بعد الحداثة - أن «مشروع الحداثة لم يُنهى بعد» - الادعاء الذي يمكن اعتباره تعبيرًا عن تفاؤل النظرية النقدية فيما يتعلق بالحَدَاثة. يُعيد كتابه محاضرات عن خطاب الحداثة (1987) الحَدَاثة إلى وضعها السابق المتمثل في القوة «الإيجابية» والأساس الفلسفي للنظرية النقدية والممارسة الاجتماعية وشرطهما المادي. كان العديد من المنظرين الآخرين في هذا الوقت يكتبون عن الحداثة، ولكن ليس من منظور مدرسة فرانكفورت. فعلى سبيل المثال: قدم أنتوني جيدنز [Anthony Giddens]، في كتابيه عواقب الحداثة (1990) والحداثة وهوية الذات (1991) نظرية اجتماعية تقوم على فكرة الانعكاسية [reflexivity] وهي عملية اجتماعية يُنظر فيها إلى الهوية باعتبارها عملية ديناميكية تشمل وصول الفرد إلى المعلومات وإدارتها. في الوقت الذي ركز فيه منظرو ما بعد الحداثة على طبيعة الألاعيب اللغوية ومحاكاة الوسائط وتأثيرهما، ركز جيدنز على الطريقة التي يكتسب بها الأفراد الكفاءة داخل بيئات المعلومات. لقد ميز بين الذات «ظاهرة عامة» وهوية الذات التي «ليست شيئًا مُنح للتو نتيجة لاستمرارية منظومة عمل الفرد، ولكنها شيء ينبغي ابتداعه ابتداعًا روتينيًا وبقائه داخل الأنشطة الانعكاسية للفرد».

يُميز الاهتمام المتجدد بالحداثة مرحلةً ثالثةً من النظرية النقدية، وهي مرحلة تأثرت كثيرًا بماركسية أنطونيو جرامشي [Antonio Gramsci] ولوي ألتوسير [Louis Althusser]. في بعض النواحي، تستجيب هذه المرحلة للمشكلات ذاتها التي أوضحتها دراسة الحداثة. تسأل ويندي براون [Wendy Brown] ما الذي ينبغي فعله حين «تُبلى» «القصص التكوينية للحداثة» وحين تخفق بعض التحديات أمام مفاهيم أمثال «التقدم والحق والسيادة والإرادة الحرة والحقيقة الأخلاقية والعقل» في أن تسفر عن أي بدائل؟ كان أحد الردود على هذا التساؤل هو انفتاح أكبر على نظريات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وعلى أفكار قادمة من النسوية والتحليل النفسي اللاكاني والتفكيكية ودراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية. سعت النظرية النقدية في هذا الوقت إلى إعادة تعريف الكُلّيّة الاجتماعية على أنها «كُلّيّة الظروف التي ينتج أفراد المجتمع وجودهم ويعيدوا إنتاجه تحت ظلها». بالنسبة لإرنستو لاكلاو [Ernesto Laclau] وشانتال موف [Chantal Mouffe]، فإن هيمنة الطبقات المسيطرة في المجتمعات الرأسمالية ترتكز على الكُليّات غير الأصلية، بمعنى أن المصالح الخاصة والمحدودة لجماعة مهيمنة تُمثل على إنها أساس عمومي للعدالة والأخلاق والسياسة. إنهم يؤيدون إنتاج هيمنة مضادة في صورة ائتلافات استراتيجية لجماعات سياسية احتشدت من أجل استغلال نقاط الضعف والتناقضات والأزمات وغيرها من الفجوات في سيطرة الرأسمالية المتقدمة. أيد لاكلاو استخدام «شِبْه المُتَعَالِي» الذي يمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق للخطابات الثقافية والسياسية التي تسعى إلى الإجماع بين الجماهير العريضة أو الدوائر الانتخابية، وتدعو جوديث بتلر [Judith Butler]، في تحليلها للسياسة النسوية، إلى «أسس ممكنة» للسماح ببناء ائتلاف والنشاط السياسي. بحلول عام 2000 انضم كل من لاكلاو وبتلر إلى سلاڨوي چيچيك [Slavoj Žižek] في نشر مجلد من مقالات جدالية بعنوان الإمكان والهيمنة والعمومية: حوارات معاصرة عن اليسار هدف إلى استكشاف إمكانية النظرية الاجتماعية لكليات ممكنة أو مؤقتة و«تفسير الظهور المبُهم لمساحة العمومية نفسها».


الهوامش

* هوركهايمر، ماكس وتيودور ف. أدورنو. جدل التنوير: شذرات فلسفية. ترجمة الدكتور جورج كتوره. دار الكتاب الجديد. بيروت – لبنان. ص ٣

* نفس المصدر السابق


المصادر

Adorno, Theodor. Negative Dialectics. Trans. E. B. Ashton. New York: Seabury Press, 1973.

——. Prisms. Trans. Samuel and Shierry Weber. Cambridge, MA: MIT Press, 1981.

Benhabib, Seyla. Critique, Norm, and Utopia: A Study of the Foundations of Critical Theory. New York: Columbia University Press, 1986.

Benjamin, Walter. Illuminations. Ed. Hannah Arendt. Trans. Harry Zohn. New York: Harcourt, Brace & World, 1968.

Brown, Wendy. Politics Out of History. Princeton, NJ and Oxford: Princeton University Press, 2001.

Butler, Judith, Ernesto Laclau and Slavoj Žižek. Contingency, Hegemony, Universality: Contemporary Dialogues on the Left. London and New York: Verso, 2000.

Giddens, Anthony. Modernity and Self-Identity: Self and Society in the Late Modern Age. Stanford: Stanford University Press, 1991.

Habermas, Jürgen. “Modernity versus Postmodernity.” New German Critique 17 (Spring 1979): 3–22.

Horkheimer, Max and Theodor Adorno. Dialectic of Enlightenment: Philosophical Fragments. Ed. Gunzelin Schmid Noerr. Trans. Edmund Jephcott. Stanford: Stanford University Press, 2002.

Source: Castle, Gregory. The Blackwell Guide To Literary Theory. Malden, Mass.: Blackwell Publishers, 2007.