ثمة مفارقة تُعرّف الكتابة: يرى الجموع الكتاب في لحظات انتصارهم، بينما يقضون حياتهم غالبًا في تجرع الهزائم.

مرثاة الكاتب: كيف يُعرّف الفشل حياة الكتاب؟

مقال ستيفن ماركي

ترجمة: خديجة يوسف

نشر المقال في 11 فبراير 2023 في جريدة نيويورك تايمز، وهو مقتبس عن الكتاب الصادر حديثا للروائي الكندي ستيفين ماركي "عن الكتابة والفشل أو عن المثابرة العجيبة التي تتطلبها حياة الكتاب".


ستيفن ماركي عن النيويورك تايمز

سألتني كاتبة شابة مؤخرًا سؤالًا: "هل يأتي وقت يصبح الأمر فيه أسهل؟ هل يصبح جلدنا أكثر سماكة؟"، كانت حزينة للغاية لأنها لم تفلح في نشر مقالًا كتبته عن موت والدتها. حاولت مع منافذ نشر كثيرة لكن في كل مرة كان يُرفض مقالها. لم أجاوبها على سؤالها، وعوضًا عن ذلك قصصت عليها حكاية. مباشرة قبل الحظر فترة كورونا انتقل الروائي وكاتب القصص القصيرة: نايثن إنجلندر إلى حي تورنتو الذي أسكنه. كنا نجتمع من حين لآخر في الباحة الخلفية للمنزل متحلقين حول النار المشتعلة نحتسي الشراب ونتذمر. "هل يأتي وقت يصبح فيه الأمر أسهل؟ هل يصبح جلدنا أكثر سماكة؟"، لم يجاوبني إنجلندر عن سؤالي وعوضًا عن ذلك قص علي حكاية. ذات مرة اجتمع على العشاء مع فيليب روث. سأل روث: "هل يأتي وقت يصبح فيه الأمر أسهل؟ ستزداد سماكة جلدي مع كل كتاب، أليس كذلك؟" روث كانت لديه الإجابة، ولم يكن بحاجة إلى حكاية ما. أجاب روث: "بشرتك ستزداد رقة أكثر فأكثر إلى أن يأتي يوم تشف فيه عن الضوء".

ثمة مفارقة تُعرّف الكتابة: يرى الجموع الكتاب في لحظات انتصارهم، بينما يقضون حياتهم غالبًا في تجرع الهزائم. لذلك أعزي سبب ظهورهم بعدم الانتماء في اللحظات النادرة التي يحتفلون فيها بهم على صفحات المجلات حيث يظهرون كما لو أنهم مشطوا شعورهم في آخر لحظة واختاروا زيهم قبل الخروج مباشرة، ويحاولون استحضار صورتهم الجميلة على صفحات إنستجرام أو في احتفالات جوائز الكتاب، وما هي إلا حفلات توزيع جوائز أوسكار للخرق، ويبتسمون كمن أفرج عنهم مؤخرًا ويحاولون الاندماج مع المجتمع! 

يقود الفشل إلى النجاح، إن هذا هو شكل الحكايات السائدة. الجمهور يهيم حبًا بشكل هذا المنحنى: منخفض ثم يأخذ في الارتفاع؛ أولا: دأب مستمر، ثم تأتي لحظة الوصول. كل الصعوبات فداء؛ وعلى قدر العزم تأتي النتائج. كم أكره هذا النوع من الحكايات. لا أريدك أن تخبرني عن النجاح الذي يأتي في نهاية المطاف. لا تعرض علي صورًا لجي. كي. رولينج وهي تخط الصفحات الأولى من هاري بوتر في إحدى المقاهي وهي أم عاطلة عن العمل تعيش على الرعاية الإجتماعية. قصص كهذه مفيدة بالضبط كفائدة إعلانات اليانصيب لخطة ما بعد التقاعد. بشكل شخصي، لطالما ركنت للراحة لفكرة أن الفشل مصاحب لحياة الكاتب، وما الناجح فيها إلا عارض طارئ. لكن هنالك سؤال أطرحه على نفسي طرحه الكثير من الكتاب قبلي على أنفسهم في مراحل مختلفة من حياتهم: هل هذا الوقت من حياتي هو الشق السيء في حياة الكاتب؟ أم أنني فقط أشعر بذلك؟ 

جزء من مشكلة جيلي من الكتاب هي أننا نعيش في مرحلة ما بعد الفاجعة. خلفت حالة السلام وازدهار ما بعد الحرب مجموعة من المؤسسات الأدبية التي تعيش حالة انحدار ممنهج منذ ذلك الحين لكن الفشل متفشي نتيجة للتغير التقني والاجتماعي الذي لا سلطة لنا عليه. وكتابات عصرنا تعيش تغير صارم وثابت. تحتضر الكتابة المطبوعة في سبيل ولادة نظيرها من الكتابة الرقمية. وشأن الكتابة الرقمية أن في لحظة يزهر أدب وبعد ذلك يفنى يتحلل يموت تاركا أثرا لنور سطع. كل إنتقال يتطلب البدء من جديد وإعادة التقييم وتقدم وأخيرًا وليس آخرا يتطلب الفشل. نجاة الكتاب اليافعين تتطلب عقد مراجعات وتقديم إجابات عن تعريف أنفسهم ودورهم مرة تلو الأخرى. طرق التعبير المختلفة التي يتعلمونها الآن وهوية الكاتب التي يبذلون قصارى جهدهم كي يعيشونها ستكون قد فنت في غضون بضع سنوات. 

إن حياة كتاب جيل الطفرة هي خروج عن القاعدة. ما يعيدنا للوراء لنعيش ظروف الماضي -بالمعايير القديمة- هما الإضطراب الشديد والفساد المؤسسي. في المرة القادمة التي تضيع عليك منحة أو ترفض في وظيفة تذكر جيمس جويس وأحواله في عام 1912. كان جويس قد أتم للتو عامه الثلاثين وكان يعيش حينها في منفى اختياري في إيطاليا مع المرأة التي سيتزوجها لاحقا نورا بارناكل وحولهما عددًا من الأطفال ويتوعده مالك العقار بالطرد من المنزل بسبب تأخره عن سداد الإيجار. لم يجد أمامه إلا أن يقدم على وظيفة تدريس اللغة الإنجليزية في كلية تقنية محلية لكنه لم يتمتع بالمؤهلات المطلوبة مما اضطره للخضوع لتقييم في مدينة بادوفا كي يحصل على دبلومة تعليم الإنجليزية -ثلاثة أيام من الأعمال الورقية لحقت بإمتحان شفهي. يقدم لنا التاريخ الأدبي مشهد جويس وهو يحاول أن يثبت للمسؤولين في كلية تقنية إيطالية أنه يعرف قواعد اللغة الإنجليزية في أنه حينها كان قد فرغ من كتابة "أهالي دبلن" وأنهى جزءًا كبيرًا من "صورة الفنان في شبابه".

قدرات الكتاب ووظائفهم أمران لم ولن يصبحا مرتبطان. إن ملهاة قاسية سطرت الحياة العملية للكاتب هيرمان ملفيل. عمله الأول "تايبي" تصدر قائمة أفضل المبيعات في حين أنه قمامة عمل رديء بامتياز. آخر أعماله "بيلي بَد" لم يستطع نشره ولا حتى على نفقته الشخصية برغم روعة العمل وجدارته. قدر الكاتب ملفيل كان كدعابة سيئة لإله قاس. كلما كتب ملفيل بشكل أفضل كلما تكالبت عليه المشكلات. اشتكى ملفيل لمعلمه ناثانيال هاوثورن قائلا: "كتبت أناجيل هذا العصر وسأموت ميتة الكلاب". بعد موت ملفيل بقيت مخطوطة "بيلي بَد" موضوعة في صندوق الخبز في بيته ولا يعرف بأمرها سوى عائلته ونشرت بعد وفاته بثلاثة وثلاثين عامًا. مات ملفيل وله كتابات شعرية كثيرة رديئة ومختلفة منشورة ذاتيًا ورواية في درج غرفته. 

كلما عدت إلى الوراء وجدت أدلة أكثر على قوة الفشل. لابد أن بوثيوس كان على علم بذلك حين كتب في القرن السادس عشر: "إن الحظ السيء حليفك أكثر من كونه خصيمًا لك، فالحظ السعيد يحمل لك السعادة لكنه يغرنك بإبتسامته أما الحظ التعس صادق على الدوام لأنه مع تقلبات الأيام يعلمك عدم ثبات الأحوال". جزى الإنقلاب على بوثيوس بسبب علاقة مدبرةُ وسجن وحكم عليه بالإعدام، وتحت وطأة هذه الظروف خرج كتاب عزاءات الفلسفة إلى النور. فيما سبق من حياته كان من المحظوظين جاه وسلطة، شخصية وجيهة تنتمي لعائلة نبيلة، نابغة، ترأس الخدمة المدنية الرومانية بأكملها لفترة زمنية. أصبح ولديه قناصل في يوم واحد، فخر ما بعده فخر. متى كتب عزاءات الفلسفة أفي فترة الرفاه؟ لا ، بل بعد أن رأى العذاب بأم عينه. وفقا لبعض الروايات فإن سجانه كانوا يربطون حبالا حول أصداغه ويشدونها حتى خرجت عيناه من رأسه ثم ضرب حتى الموت! هل هذا القدر من تعسر القدر كان كافيًا؟ كم من نوازل القدر يلزمك حتى تنتج نصًا جيدًا؟ 

انصياعًا لهذا المبدأ فسقراط وكونفوشيوس والمسيح من حزب الفاشلين حيث أن فشلهم فشل شاسع. إن الفيلسوف العظيم لم يستطع أن يقي نفسه من مصير الإعدام من تقلد منصب الباحث في السياسة العملية لوقت قصير من الزمن الباحث العظيم لم يستطع أن يجد وظيفة! والكاتب الفذ السيد المسيح قد يكون تاريخيًا أكثر الكتاب صحبة هو والفشل. رسالته كانت الحب وماذا تلقى في المقابل؟ الأصدقاء خانوه والشعب انقلب عليه والسلطات صلبته! بعد موته جمع تلاميذه خطاباته في عدد من السير الذاتية التي وجدت اختلفت بين نسخها وقراءهم استشهدوا بهم وبغيرهم من النصوص لمناهضة وحشية الإمبراطوريات. استلزم الأمر ألفي عام ليصبح عدد تابعين المسيح أكثر من اثنان بليون يجتمعون ويتلون ما قاله على بعضهم جهرا أكثر من مرة في الأسبوع أحيانًا. لا يمكن للوظيفة أن تقدم لك أكثر من ذلك بأي شكل ولا أسوأ من ذلك. 

شعبية قواعد الكتابة واسعة مثلها مثل قواعد الحياة وحقيقية مثلها. كلاهما يمنحانك شعور مريح تركن إليه شعور وجود منظومة. بعض هذه النصائح ممتاز مثل نصائح إلمور ليونارد: لا تقرأ كتابا يبدأ بالحديث عن الطقس، تجنب المقدمات، لا تستخدم سوى فعل "قال" لإجراء حوار. نصائح أخرى للكتابة قد تكون إما واضحة جدا أو خارج نطاق قدراتك. تنصح زادي سميث نصيحة "استغل طفولتك في القراءة" تبدو نصيحة غريبة بعض الشيء. تنصح مارجريت أتوود بأخذ حبة استحلاب قبل القراءة. نصيحة غريبة لكن عملية! 

يقدم جيمس بالدوين المزيد من النصائح الأساسية. قال لصحيفة باريس ريفيو: "اكتب! جد وسيلة كي تبقى على قيد الحياة واكتب. ماذا أقول أيضا؟ إذا كانت الكتابة مصيرك لا شيء سأقوله سيوقف ذلك وإذا لم تكن طريقك لا شيء سأقوله سيصنع ذلك". وصفة الكتابة وفقا لبالدوين هي: انضباط وحب وحظ وقبل ذلك كله مكابدة. كل ما ذكر من انضباط وحب وحظ في كفة والمكابدة في كفة أخرى. ليسوا إلا محفزات على المكابدة. اختصار هذه النصيحة في كلمة واحدة: المثابرة! 

الكتاب الجيدين يقدمون النصائح أما الكتاب العظماء فيقدمون التعزية. الكتاب كائنات فريدة من نوعها بفشلهم الناجح ونجاحاتهم الفاشلة. بشرتهم رقيقة للغاية لحد أنه إذا اصطدم بهم شعاع من نور ينفذ من خلالهم.