"ثلاثة رجال في قارب" تعد واحدة من تلك الكلاسيكيات النادرة التي يبدو، إذا جاز التعبير، أنها أتت من العدم وتحدت الصعاب.

ثلاثة رجال في قارب لجيروم ك. جيروم (1889)

مقال: روبرت مكروم

ترجمة: هويدا أحمد

عن كتاب "أفضل مئة رواية في اللغة الإنجليزية" الصادر عن كتب مملة بالتعاون مع دار هن للنشر والتوزيع


جيروم ك. جيروم، عن wikimedia

نهر قديم. الرحلة إلى منبع النهر خاضها ثلاثة شباب شديدو الحساسية إلى منطقة داخلية غامضة ومليئة بالتحديات. ثمن لا مفر من سداده عند المنبع. في النهاية، عودة مفزعة إلى الواقع. هنا، من المؤكد، نشهد القَص الإنجليزي في العصر ما قبل الإدواردي في أفضل حالاته الكلاسيكية.

لكن هذه ليست "قلب الظلمات"، والنهر ليس نهر الكونغو. في الواقع، إنه نهر التيمز، والراوي ليس مارلو بل جي، أو جيروم. ك جيروم. نُشرت "ثلاثة رجال في قارب (لا شيء بخصوص الكلب)" في عام 1889، قبل 10 سنوات من رواية كونراد، وهي إحدى الجواهر الكوميدية المكتوبة باللغة الإنجليزية. حدث ذلك بالمصادفة، إذ قال مؤلفها "لم أكن أنوي تأليف كتاب مضحك في البداية".

في الغالب لا تؤخذ الدعابة في الأدب على محمل الجد كما يستحق الأمر. ومع ذلك، يظل هناك عدد قليل من الكتب المضحكة تبقى رائعة طوال الوقت. "ثلاثة رجال في قارب" هي واحد منها، وعلى نحو ظاهري حكاية ثلاثة من موظفي المدينة في رحلة بالقوارب، تختفي أحيانًا على غير إرادتها، باعتبارها دليل سفر، ثلاثة رجال في قارب يحومون في مكان ما بين قصة كلب فظ وحلقات من المهزلة الفيكتورية المتأخرة.

ما كل هذا؟ من المحتمل أن يقول جيروم ك. جيروم إن تحفته كانت "حوالي مئة وخمسين صفحة"، لكن ما أناقشه هو أن ثلاثة رجال في قارب تدور حول صداقة الشباب، وعبثية الوجود، وعطلات التخييم، وغناء الأغنيات المهجورة، الهزلية، والذكريات الحلوة للوقت الضائع. يمكنك أيضًا قراءتها بوصفها رثاء غير واعٍ لبريطانيا الإمبراطورية. هل نسيت أن أقول إنها تحتوي كذلك على كلب اسمه مونتمورنسي؟ باختصار، وكما في أفضل الكتابات الهزلية كلها، يتعلق الأمر بكل شيء ولا شيء.

أصبح جيروم ك. جيروم منسيًا إلى حد ما الآن. لقد كان صحفيًا متخصصًا في الأدب يعمل بالقطعة، وكان قد تزوج للتو ويحتاج إلى إعالة زوجته وعائلته. وبسبب تشجيع زوجته الجديدة، جورجينا، قصد جيروم أن تكون روايته لقضاء عطلة بالقوارب دليل سفر شهير لسوق مزدهر. في إنجلترا الفيكتورية، راجت القوارب الترفيهية على نهر التيمز بين كينجستون وأكسفورد.

كان هذا هو العصر الذهبي لسباق هينلي ريجاتا. قوارب التجديف، والزوارق البخارية، وحتى الجندول الموسمي: في الموسم، كان يمر عدد يصل إلى 800 سفينة يوميًا عبر حاجز بولتر بالقرب من بلدة مايدنهيد. هنا وجد جمهورًا لدليل جديد للنهر. في الواقع، فإن أوصاف جيروم لهامبتون كورت ومارلو وميدمنهام هي كل ما تبقى من الخطة الأصلية لكتاب السفر.

لكن شيئًا مضحكًا حدث في مسار النشر، ربما لأنه نُشِر أولًا في مجلة. وسيطر الصوت الهزلي الاستطرادي لجيروم، مما يجعل الرحلة النهرية التي يخوضها مع أصدقائه جورج وهاريس (ومونتمورنسي) هي الخط السردي الذي تقوم عليه سلسلة من الحكايات الكوميدية المرتبطة ارتباطًا غير محكم بالرحلة إلى أعلى النهر.

موضوعات جيروم غير منطقية وذات أهمية كبيرة في اللغة الإنجليزية -القوارب، وصيد الأسماك، والطقس، وفظائع الطعام الإنجليزي وتقلبات الحياة في الضواحي- وقد وُضعت على نحو مثالي في نثر كوميدي خفيف يمكن اكتشاف تأثيره لاحقًا في أعمال كثيرين من بينهم ب. ج. وودهاوس، وجيمس ثوربر، ونيك هورنبي. مقطع جيروم المفضل لديَّ هو الجزء المتعلق بعلبة الأناناس.

لقد قضى البحارة الثلاثة يومًا طويلًا وشاقًا على النهر. وصلوا إلى مرسى النهر مساءً، في حالة تعب شديد ويكاد يقتلهم الجوع. عندما اكتشف جورج علبة تحتوي قطع الأناناس "شعرنا" كما كتب جيروم، "أن الحياة تستحق العيش رغم كل شيء". لقد كانوا، كما يقول، مغرمين جدًا بالأناناس. عندما نمر بحالة الترقب في القصة، يسلمنا جيروم إلى الجملة الأكثر مثالية في كتاب ممتلئ حقًا بالكوميديا الخفيفة. يكتب جيروم: "نظرنا إلى الصورة الموجودة على العلبة القصديرية، وفكرنا في العصير".

ثم يكتشفون أن ليس لديهم فتاحة للعلب. وما يلي ذلك مقطع من العبقرية الكوميدية، نسج من شيء يفوق تفاهة الحياة اليومية، أو لا يصل إلى مستواها. اقرأوها. تأتي هذه الفقرة ("معركة مخيفة") بمثابة الذروة الرائعة للفصل 12.

"ثلاثة رجال في قارب" تعد واحدة من تلك الكلاسيكيات النادرة التي يبدو، إذا جاز التعبير، أنها أتت من العدم وتحدت الصعاب. كتب جيروم ك جيروم لاحقًا مسرحية "وست إند" الناجحة، وكتب "عبور الطابق الثالث الخلفي"، لكنه لم يستعِد أبدًا مزاج الفرح الهزلي اللامبالي الذي ينفث من صفحات تحفته الخالدة.

ملحوظة عن النص

بدأت "ثلاثة رجال في قارب" حياتها كدليل رحلات لمجلة "هوم شايمز"

وصف مؤلفها فيما بعد الخطأ الذي وقع فيه، وأقر قائلًا "لم أكن أعرف أنني رجل فكاهي". "كان من المفترض أن يكون الكتاب هو (قصة نهر التيمز)، منظره وتاريخه... لم أحقق ذلك قط. وبدا الأمر وكأنه (تسلية فكاهية). وعَبْر عزم لا يلين نجحت، قبل النهاية، في كتابة نحو اثنتي عشرة صفحة من القطع التاريخية، ودمجها، واحدة في كل فصل، وعلى الفور سحبها مني ف. و. روبنسون، الذي نشر الكتاب مسلسلًا… اعترض منذ البداية على عنوان (منذ تُهنا)، وفي منتصف الطريق توصلت إلى عنوان (ثلاثة رجال في قارب)، إذ لم يبد أنه يوجد اختيار سليم آخر".

باع جيروم حقوق نشر الكتاب لناشر بريستول، ج. و. أروسميث، الذي حقق نجاحًا كبيرًا بالسلسة ذات المجلد الواحد التي يُباع بثلاثة شلنات وستة بنسات (وضمت أعمالًا لآرثر كونان دويل وآنتوني هوب)، وهي ظاهرة جديدة بدأت تحل محل روايات الأجزاء الثلاثة الضخمة الفكتورية. أنشأ قانون التعليم لعام 1870 جمهورًا جديدًا من القراء، وكان جيروم حريصًا على الوصول إلى هذا الجمهور الجديد. ومع ذلك، عند النشر، بدا الأمر كما لو أن خططه التسويقية الذكية قد أوصلته إلى اتجاه غير متوقع، إذ لم يتسامح النقاد مع كتابه. 

واجه افتتان جيروم بموظفي البنوك و"الطبقات الدنيا" استنكارًا تراوح بين الصعود والهبوط. كتب لاحقًا في كتاب "حياتي وزمني"، أن الأمر بدا وكأن "الإمبراطورية البريطانية في خطر. انتقدتني صحيفة (ذات ستاندراد) باعتباري أهدد الأدب الإنجليزي؛ وووصفتني صحيفة (مورنينج بوست) بأنني مثال على النتائج المحزنة المتوقعة للإفراط في تعليم الطبقات الدنيا...".

إذا تحرينا الدقة، تراوحت المراجعات بين كونها مراجعات ناقدة نقدًا لاذعًا أو مراجعات عدائية. وأُدين استخدام اللغة العامية باعتبارها لغة "مبتذلة" وأسيء استخدام الكتاب ككل باعتباره يتودد بوقاحة إلى أمثال آري وآرييت - وهي ألقاب مهينة لسكان لندن من الطبقة العاملة. أطلقت مجلة "بانش" على جيروم ك جيروم لقب "آري ك آري".

عادة، لم يعر الجمهور القارئ أي اهتمام بهذا على الإطلاق. واستمر "ثلاثة رجال في قارب" يبيع بأعداد كبيرة، متحديًا الموجة النقدية. لدرجة أن سطا عليه ناشرون أمريكيون عديمو الضمير على الفور. في بريطانيا، قال أروسميث لأحد أصدقائه: "أنا أدفع لجيروم الكثير من حقوق الملكية، لا أستطيع أن أتخيل ما سيحدث لجميع نسخ هذا الكتاب الذي أصدرته. في غالب الأحوال أتصور أن الجمهور سيأكلها حتمًا".

ظهرت الطبعة الأولى في أغسطس 1889، وظلت مطبوعة حتى مارس 1909، عندما ظهرت طبعة ثانية بعد بيع حوالي 200000 نسخة. في مقدمته لهذه المطبوعة، ذكر جيروم أنه ربما باع مليون نسخة أخرى (جرى السطو عليها) في أمريكا.

تُرجِم الكتاب أيضًا إلى العديد من اللغات. كانت الطبعة الروسية ناجحة على نحو خاص وأصبحت كتابًا مدرسيًا نموذجيًا، ربما كسرد وثائقي للحياة في قلب الإمبراطورية الرأسمالية. منذ نشرها، لم تنفد طبعات "ثلاثة رجال في قارب". أنا مغرم بهذا الكتاب دون شعور بالخجل، واخترته بوصفه كتابي الذي سأصطحبه معي إذا وقعت في "جزيرة مهجورة"، وذلك على راديو بي بي سي 4 في عام 2000.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها