وفر صلواتك يا فلاحي العزيز إلى القوى الخارجة عن سيطرتك. إنك جُرم صغير وهش في هذا العالم. يجدر بك أن تصلي إلى أشياء أعظم مني

أريبو

لمجموعة مؤلفين

ترجمة: عبد الله أمين

عن tumblr

إن "تمبلر" من المواقع العزيزة إلى قلبي حيث يجتمع حفنة من غريبي الأطوار الموهوبين في مجالات عدة ومنها مجال الكتابة والتأليف. هنالك مدونة على الموقع تسمى "Writing prompts" تكتب كل عدة أيام فكرة مبتكرة تطلب من مبدعيها أن يكتبوا قصة قصيرة أو طويلة أو حتى من عدة سطور تدور عن هذه الفكرة، ورغم وجود الكثير من الغث على هذه المدونة، يوجد دائمًا بضعة قصص تستحق الانتباه وأحيانًا عشرات من بين المئات، ومن بينها هذه القصة التي بين أيديكم، حيث كانت فكرتها التي عرضتها المدونة على متابعيها

"تُبنى المعابد كي يسكنها الآلهة، فبني فلاح معبدًا ليرى مَن مِن الآلهة قد يجاوره"

اشترك 3 مدونين في كتابة القصة، حيث كتب الفصل الأول مُدون باسم: sadoeuphemist والثاني: ciiriianan والثالث: ciiriianan

تحولت القصة فيما بعد إلى قصة مصورة، لكنني أفضل النسخة المكتوبة التي تطلق سراح الخيال ليرسمها كما شاء.

تغطي القصة رغم قصرها عدة مواضيع مفضلة لي بشكل شخصي، ومنها "آلهة الغرائب"، والتي تتحدث عن آلهة غير تقليدية، تتحكم في أشياء لم يخطر لنا أن نرى أنها في حاجة إلى إله. وثيمة "رثاء الأشياء" حيث ندرك أخيرًا أن جمال بعض الأشياء يكمن في احتمالية نهايتها، حيث يصبح الخلود مجرد تراب على وجه الكعكة، ورغم إدراكنا هذا لا نملك سوى أن نشعر بحزن رقيق نحو زوالها.

(المترجم)


عن القصة المصورة، عن reimenayee

-1-

ركَم "أريبو" مجموعة من الأحجار في حقله لتتخذ شكل معبد متواضع يتخذه إله مسكنًا له بعد يومين.

أدرك "أريبو" هذا فأقام محرابًا له وأحرق كومة من القمح متمنيًا أن يكون إلهًا للحصاد. حك رأسه وقال ساعلًا بعد أن قلب نظره بين الركام المائل والصخور الملطخة بالرماد "أعلم أن هذا ليس كثيرًا" ثم خلع قبعة القش "ولكنني سأفعل ما في وسعي. ففكرة أن يرعاني إله تدعو إلى السكينة".

وضع في صباح اليوم الثاني زوجًا من ثمار التين وأمضى عشرة دقائق من صباحه في اليوم الثالث مصليًا أمام المعبد، ليتحدث الإله في اليوم الثالث. سمع صوتًا يشبه حفيف سنابل القمح وصرير فأر يهرول بين العشب "عليك بالذهاب إلى معبد المدينة، معبد حقيقي، معبد حقيقي. لتباركك بعض الآلهة الحقيقية، فأنا لست إلهًا على شاكلتهم، لكن ربما أستطيع تزكيتك عندهم؟"

قطف ورقة شجرة ثم واصل حديثه متنهدًا: "لا أقصد الإساءة، إنني أحب هذا المعبد، إنه مريح كفاية. وتعبدك عذب. لكن لا تتوقع أن يثمر هذا عن شيء أيًا يكن".

رد "أريبو" بينما يضع منجله ورأسه أرضًا: "إن هذا أكثر مما أملت من بناء هذا المعبد. أخبرني، أي نوع من الآلهة أنت على أي حال؟"

أجاب: "أنا إله الأوراق المتساقطة، الديدان الزاحفة في تربة الأرض. الخط حيث تلتقي الغابة بالحقل. رائحة المطر قبل سقوطه. قشر التفاح العالق بين أسنانك. أنا إله العديد من النكرات، بقايا الطعام المتعفنة، النظرات الخاطفة. نسمة الهواء التي سرعان ما تزول".

واصل الإله حديثه متنهدًا مجددًا: "لا طائل من عبادة تلك الأشياء، بعكس الحرب والحصاد والعاصفة. فوفر صلواتك يا فلاحي العزيز إلى القوى الخارجة عن سيطرتك. إنك جُرم صغير وهش في هذا العالم. يجدر بك أن تصلي إلى أشياء أعظم مني".

اقتلع "أريبو" سنبلة قمح يلوكها وهو يقول: "إنني أحب هذا النوع من التعبد، لذا سأواصل صلواتي إن لم تمانع".

فأجاب الإله مرتدًا إلى أعماق الصخور: "أفعل ما تشاء، لكن أُعذر من أنذر وأُنصف من حذر".

التزم "أريبو" بعادة الصلاة يوميًا قبل ذهابه إلى الكِد في الحقل ليجلس مع الإله يتأملان الأشجار في صمت، وتمر الأيام وبمرورها تمر الأسابيع، حتى ضربت عاصفة تجلجل رعودها وتصرصر رياحها وتتدفق سيولها على حقل الفلاح؛ تقلع القرميد من سقفه وتحرق أشجار الزيتون تحيلها جمرًا. أشرق صباح اليوم التالي على "أريبو" وهو يسير مع أبنائه وسط حقل القمح ينقذون ما يمكن إنقاذه. إما المعبد فقد تناثر حجره في كل أنحاء الحقل، لذا عمد الفلاح بعد انتهاء عمل اليوم إلى جمع الأحجار مجددًا وبنائها لترجع إلى حالتها الأولى.

"عمل بلا طائل" همسها الإله بينما يعود إلى مرقده في أحضان المعبد رغم ذلك؛ ثم قال:

-        "لم يكن في يدي ما أفعله لأرحمك مما حدث".

-        "سنكون بخير. مرت العاصفة وسنعيد البناء. لا أملك قربانًا مناسبًا اليوم" ثم هم بوضع بعض سنابل القمح العطنة "لكنني سأضع بعض الدعامات لأساس هذا الشيء غدًا، ما قولك في هذا؟"

دار الإله في معبده وتنهد.

مر عام ثم الذي يليه، اكتسب خلالها المعبد حوائط أسمك وسقفًا من الأغصان المحبوكة. كان الجيران يبتسمون كلما مروا بالمعبد. بينما يضع بعض أطفالهم الفاكهة والزهور في محرابه. ليخرج حصاد هذا العام هزيلًا، فقد بخلت الآلهة بنعمتها، حتى سنابل القمح في حقل "أريبو" نبتت سقيمة وهشة. ناح الناس وشقوا عن هدمتهم وذبحوا الحملان وسقوا الأرض بدمائها وزاغت نظراتهم وتراهم سكارى وما هم سكرى، يأوون إلى فراشهم خميصة بطونهم. أوى "أريبو" الذي برزت ضلوعه إلى معبده الذي ذبلت أزهاره وتجعدت ثماره، وصلى بيد مرتعدة.

تفوه الإله مختبئًا في ظلمة معبده: "لا شيء لك هنا، لا شيء في يدي، لا شيء يُمكن القيام به". انتابته رعدة وخرجت الكلمات منه مرتعدة "لمَ هذا المعبد إن لم يكن سوى حمل آخر ينوء به عاتقك؟"

أجابه "أريبو" بشفاه مرتعشة: "نحن... إنها سنة عجفاء، نجونا منها من قبل وسننجو منها مجددًا. إننا جائعون، لكن ما زلنا نملك بعضنا البعض، أليس كذلك؟ وقد صلى الكثير من الناس إلى الآلهة الأخرى ولم يحمهم هذا من القحط". أكمل حديثه بينما يهز رأسه ويضع بعض الأعشاب الذابلة في المحراب. "لا، يروقني اتفاقنا الحالي".

رد الإله: "الأسوأ قادم، ولن أستطيع فعل أي شيء كي أنقذك".

تمر السنين ويقدم "أريبو" القرابين بيد ملأتها التجاعيد ويقضي من بعض الأيام ساعة أو أكثر ضائعًا في تأملاته مع الإله.

وفي يوم مشؤوم، عبرت الحرب البحار القرمزية وحطت رحالها في بلاد "أريبو".

ليأتي في خطى متعثرة إلى معبده ممسكًا بيد بطنه وبيد أخرى يبارك الموقع المقدس بدمائه بينما ترتفع ألسنة اللهب من حقل القمح خلفه والعظام المتفحمة داخله. وصل زاحفًا على ركبتيه إلى معبد الأحجار ليسرع الإله إلى مقابلته.

قال الإله في نحيب خافت: "لم أستطع إنقاذهم. أنا آسف، أنا آسف، أنا في غاية الأسف".

تساقطت الأوراق محترقة من جذوع الأشجار يصحبها مطر متأنٍ من الرماد.

"لم أفعل أي شيء! كل تلك السنوات ولم أفعل أي شيء لك!"

"صه..." قالها "أريبو" متذوقًا دماءه بينما تتشوش رؤيته. اتكأ على المعبد ووضع جبهته على الصخر متضرعًا هامسًا: "أخبرني، أخبرني مجددًا، أي إله أنت؟"

خرج الإله وقال بينما يحتضن رأس "أريبو" ويغلق عينيه: "أنا... أنا إله الأوراق المتساقطة"، ثم استحضر صورتها في ذهنه قبل أن يكمل "الديدان الزاحفة في باطن الأرض. الخط حيث تلتقي الغابة بالحقل. رائحة المطر قبل سقوطه. قشر التفاح العالق بين أسنانك".

ندت ابتسامة عن شفتي "أريبو".

قبل أن يكمل الإله: "أنا إله العديد من النكرات، بقايا الطعام المتعفنة، النظرات الخاطفة. نسمة الهواء..." وتهدج صوته وأكمل مجتازًا دموعه "... التي سرعان ما تزول".

"جميلة،" نطقها أريبو بينما يخضب دمه الصخور وتشربه الأرض. "كلها، كلها كانت أشياء فائقة الجمال".

وبينما تحترق الحقول ويكسف الرماد الشمس، بينما يسقط الرجال صرعى وتحتدم الحرب وتقذف السماء سخطها على الأرض، رقد "أريبو" الفلاح في معبده المتواضع، تحمي الحجارة رأسه وعاد إلى داره وإلهه.

-2-

 عثرت "سورا" على المعبد متهدمًا سقفه فوق العظام.

قالت: "يا لك من إله مسكين، لم يتبقَ أحد لدفن كاهنك الأخير" لكنها قطعت جملتها، فقد كانت من بلاد بعيدة "أم هكذا يكرمون الموتى هنا؟"

- اسمه كان "أريبو" وكان فلاحًا.

قالها الإله بعدما قطع تأمله لتجفل "سورا" على إثره، حيث إنها لم تسمع صوت إله من قبل.

- كيف أكرمه؟

- ادفنيه تحت محرابي

- حسنًا

اتجهت "سورا" لتجلب جاروفها ثم بدأت في التقاط العظام من بين الأغصان المكسورة والأوراق المتساقطة - "انتظري"- ثم وضعتها في قطعة من الصوف عديم اللون، فلم يكن في حوزتها قماش غيره.

صاح الإله: "انتظري، لن أفيدك بشيء. فأنا لست إلهًا على أي شيء ذي قيمة".

جلست "سورا" ونظرت إلى المحراب بينما تنصت إلى الإله.

"عندما ضربت العاصفة وأفسدت قمحه، عجزت عن إنقاذه. عندما خرب الحصاد وضربه الجوع، عجزت عن إطعامه. وعندما حلت الحرب...".

تهدل صوت الإله قبل أن يكمل:

"عندما حلت الحرب، عجزت عن حمايته. جاءني نازفًا من المعركة ليموت بين ذراعي".

نظرت "سورا" إلى العظام الملفوفة عند أقدامها مجددًا وقالت: "أظنك إله شيء ذا قيمة جليلة".

"ما هو؟"

أجابت وهي تضع الجمجمة بحرص في لفة الصوف:

"إله أريبو".

-3-

تعاقبت الأجيال وتعافت القرية من مآسيها، شيدت البيوت مجددًا وعادت الخضرة إلى الحدائق وتعافت الجروح ونُسي العجوز الذي عاش على التل وتحدث إلى الحجارة والحصى، إلا أن المعبد ظل قائمًا باسمه. آمن الكثير إنه خالٍ، حيث صمت إلهه منذ دهور، ومع ذلك شعر كل من يمر بجوار المعبد بنخزة في قلبه وكأنه ينعي فقدان صديق قديم. زجر البرد المنساب من جنبات المعبد كل زائر محتمل حيث تنقبض قلوب كل من يقترب منه إلا قلة قليلة، منها بالذات الأطفال اللاهين الذين يضعون باقات من الورود البيضاء والزهرية على المحراب بعدما يلتقطونها من السهل المحيط.

جلس الإله في بيته الوديع متأملًا الطريق البعيدة والمارة والأحصنة والعربات والأوراق المتساقطة التي تقلبها الأرجل المهرولة. كم مضى من الوقت على ما حدث؟ تقدم العالم ونزل من ركابه لأنه يعرف أنه عاجز عن تقديم أي مساعدة، وظن بينه وبين نفسه أن العالم مكانٍ قاسٍ وبكل تأكيد حتى أن الآلهة المفيدة اضطرت إلى هجرانه ما دام الطوفان يدمر الحقول والعطن يصيب المحاصيل وتأكل النار البيوت.

ووصل أيضًا إلى استنتاج مفاده أن البشر كائنات خرقاء، قد تعبد إلهًا لا يحقق الأمنيات ولا يسبغ النعم، وقد تبني لهم معبدًا وتقدم القرابين بلا مقابل، وقد تجالسهم وتشاركهم التأمل في تعبد غير ذي جدوى. وقد يدفنون غريبًا دون طمع في جائزة. كم من لطف غريب عديم الطائل قٌدم له دون انتظار مقابل. وكم أن البشر كائنات رائعة وحمقاء ونبيلة وميؤوس منها.

لذا زين الغروب بأوراق الشجر الصفراء وحث الديدان على الرقص في باطن الأرض وزخرف الحدود بين الغابة والحقل بالورود والتوت وعمد الهواء قبل الشتاء بلسعة من البرد وزين قشر التفاح بنمش حمرته تسر الناظرين وهشاشة تتحطم مع القضمات وعدة عشرات من النكرات الأخرى إحياء لذكرى الرجل الذي أثنى على عمل الإله في أنفاسه الأخيرة.

صدح صوت مألوف: "مرحبًا يا إله كل جمالٍ متواضعٍ في العالم".

فرت دموعًا من مقلتي الإله لتصل إلى شفاه ملتوية، ثم همس بصوت أجش إثر مئة عام من الصمت: "أريبو، أنا إله الإخلاص واللطائف الخفية والأواصر مستحيلة القطع. أنا إله الحب المتفاني غير المشروط والصدقات الأزلية والثقة".

أعلنها "أريبو" مطمئنًا رفيقه بكل كلمة.

رد الآخر مخرجًا الكلمات من بين دموعه: "هذا رائع يا (أريبو)، أنا في غاية السعادة لك، إله بقوتك سيحتاج معبدًا عملاقًا بلا شك. هل ستغادر إلى المدينة لتجمع المزيد من العابدين؟ سيقدسك الجميع".

قال "أريبو" مبتسمًا: "لا. أبعد من هذا، إلى العاصمة إذن؟ أشكرك جزيل الشكر على زياراتي قبل رحيلك".

ضحك "أريبو" برفق وهز رأسه قائلًا: "لا، لن أذهب إلى هناك أيضًا".

واصل الإله العجوز كلامه "أبعد من هذا؟ أي طموح عملاق يجوب قلبك. لا شك لدي إنك ستحققه...".

قاطعه "أريبو": "في الواقع، أفكر في المكوث هنا إن كنت ستقبل بهذا".

صُعق الإله الآخر ولكنه لم شتات أفكاره وقال: "ولمَ قد ترغب في العيش هنا؟"

"أنا إله الأواصر مستحيلة القطع والصدقات الأزلية. وأنت إله أريبو".


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه