الحكايات المتناثرة عن مسنين يروون علاقتهم بالملاحة عن طريق النجوم ونظرتهم الشاعرية لها تذكرني بالحكايات التي رواها لي شيوخ الرعاة والصيادين في جنوب الصحراء لشرقية على ساحل البحر الأحمر

السفر على طريقة الملاحين القدامى

مقال مصعب الزيات

مراجعة كتاب الفن الضائع: ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل، تأليف جون إدوارد هوث، ترجمة سعيد الخرفان، الكويت: سلسلة عالم المعرفة


Photo by Savvas Kalimeris on Unsplash

قبل أن يجري رصف الطريق الواصل من مرسى علم لضريح قطب الصوفية الشيخ أبو الحسن الشاذلي في الصحراء الشرقية، سافر زوار الضريح مسافة كبيرة في الصحراء بين الجبال. في هذه الرحلات كان هناك من يضل طريقه ويموت. وإلى الآن هناك علامات في الجبال تدل على أماكن الصالحين الذين فقدوا حياتهم في رحلتهم للمقام. يمكننا التأثر بالدافع للمخاطرة بالحياة في سبيل زيارة مقام ولي من الأولياء. لكن من الممكن أن نتساءل عن السبب وراء قدرة بعض الناس على الوصول إلى المقام فيما يفقد الآخرون حياتهم؟ بمعنى آخر، ما مهارات السفر التي مكنت الناس لسنوات طويلة من السفر وسط الصحراء، والوصول لوجهتها بدون طريق واضح والأهم بدون الاعتماد على التكنولوجيا؟ وما هو تأثير غياب هذه المهارات على حياتنا وقدرتنا على البقاء؟ 

التساؤل حفز البروفيسور جون إدوارد هوث، أستاذ الفيزياء في جامعة هارفارد أن يؤلف كتابًا عن فنون الملاحة القديمة. جون تأثر بموت فتاتين ضلتا طريقهما وسط الضباب، وماتا أثناء ممارستهما رياضة الكاياك. والحادثة دفعته لمساءلة فكرة اعتمادنا على التكنولوجيا بشكل متزايد، وتأثيرها على إدراكنا وتفكيرنا المستقلين. لجأ الإنسان إلى التكنولوجيا لأنها تمنحه إحساسًا بالأمان، لكن فنون الملاحة القديمة تعيد النظر لإحساس الإنسان بالأمان وقدرته على النجاة، ليس بتغييب ذاته لصالح التكنولوجيا، إنما من خلال اكتشاف موهبته الفطرية وقدرته على تحديد موقعه في العالم من خلال العلاقة بالطبيعة.

البروفيسور جون عضو في برنامج يهدف لتعزيز الدراسات متعددة التخصصات التي تتجاوز حدود المجالات الأكاديمية التقليدية، والكتاب يمكن اعتباره ثمرة تخصصه في تدريس فنون الملاحة القديمة، ونموذج لعمل أكاديمي يتناول معرفة تقنية دقيقة من مداخل معرفية متنوعة. 

يقدم الكتاب فنون الملاحة القديمة باعتبارها معرفة إنسانية، متجاوزة للحدود الجغرافية. ويستمد مصادره من ثلاثة ثقافات كبيرة تغطي مناطق مختلفة من العالم، وتمثل طبقات من التاريخ. الثقافة الأولى هي ثقافة "النورديون"، وقد بدأت رحلات استعمارهم لأيسلندا وجرينلاند، في شمال المحيط الأطلسي في القرن التاسع الميلادي. وفي سبيل وصفه للطبيعة التي تحرك فيها الملاحين النورديون يذكر "تشكل العواصف العنيفة والأمواج الضخمة التي تجتاح شمال المحيط الأطلسي تحديًا كبيرًا للملاحة في مياه آيسلندا وجرينلاند، ويحجب الضباب الكثيف الشمس لأيام متواصلة. كانت الحياة على القوارب الشراعية المفتوحة بالتأكيد تعيسة ومنهكة. كان على البحار كي يقصد عمدًا إلى مكان ما في هذه المياه، أن يتمكن من قراءة الطقس للحصول على رياح ملائمة، وبناء قارب قادر على الإبحار ضد الرياح". الثقافة الثانية التي يعتمد الكاتب عليها في وصفه لفنون الملاحة هي الثقافة العربية. أتقن التجار العرب في القرون الوسطى الملاحة عبر المحيط الهندي وأقاموا خطوطًا قوية للتجارة مع الصين والهند، عبر طريق تجاري كان يتم فيه تبادل البضائع من التوابل والحرير. وأخيرًا يرجع لثقافة شعب يدعى اللابيتا. وهي قبائل كانت تسكن جزر في وسط المحيط الهاديء، وتنتمي لتاريخ أقدم من الحضارتين السابقتين، حيث تقترح الحفريات أنهم "نشأوا في أرخبيل بسمارك إلى الشمال الشرقي من غينيا الجديدة، بدأوا في استعمار الجزر إلى الشرق منذ نحو ست وثلاثين ألف سنة مضت". 

يقدم الكاتب نظرة متفحصة لعالم "ما قبل الفقاعة" بحسب وصفه للعالم الحديث الذي حاصر إدراكه وعلاقته بالطبيعة من خلال الهاتف المحمول. فالعالم الذي يخلقه الكاتب هو عالم قديم، ومعزول عن الانترنت ومفتوح على البيئة والظواهر الطبيعية. عالم استخدمت فيه النجوم والشمس والقمر كبوصلة طبيعية لتحديد الاتجاه والموقع، وأيضا كرابطة روحية بين السماء والأرض. فبحسب وصفه "تحكمت النجوم في الحياة اليومية وفي إرشاد المسافر بالليل. نظر كثير من الناس إلى العلاقة بين السماء والأرض كرابطة روحية"، ويستشهد بسفر أيوب، "هل عرفت سنن السماوات أو جعلت تسلطها على الأرض؟" (أي 38: 33).

خلال القراءة ثمة شعور دائم بالمشي في غابة، أو السفر في مركب شراعي وسط المحيط أو التنقل في وسط الصحراء. ويمكن فهم قدرة الكاتب على خلق هذا العالم بالنظر إلى خلفيته. فهو أولًا بمثابة ملاح، بسبب خبرته في تدريس وممارسة هذه الفنون. هذه الخبرة تنقل المعرفة من النظرية لأرض الواقع، وتعطي انطباعًا بالسفر في صحبة ملاح قديم يمتلك من المهارات ما يمكنه من الوصول إلى وجهة السفر النهائية بسلام. يتضح هذا من خلال وصفه لقصة مؤسسة للكتاب، عن عودته إلى المرفأ بأمان بعد نزول الضباب عليه أثناء تجديفه لزورق الكاياك. فبعد أن تجاوز الرعب الذي انتابه، استطاع تحديد اتجاه الريح وقراءة حركة الأمواج، وانتبه الى الأصوات المألوفة، وعلى الرغم من عدم وجود خارطة معه فإنه احتفظ بخارطة عقلية لما حوله من تجديفه السابق في المنطقة، ويضيف قائلًا: "عندما هبط الضباب لم أستطع أن أرى شيئًا عدى رقعة صغيرة من سماء زرقاء فوق رأسي مباشرة. كان علي أن أجتهد حتى أهدأ من روعي، وبالتجديف تتبعت مرور الوقت، وقيمت تقدمي مع ما رأته أم عقلي على أنه موقعي، كأني أحوم فوق البحر". 

يمكن تقدير مدى أهمية هذه المهارات من خلال ملاحظة الشبه بينها وبين تقنيات الملاحة عند قبائل الإنويت. حيث اقتبس الكاتب عن كولين إرفين، وهو أحد الباحثين الذين قاموا بدراسة إستراتيجيات الملاحة عند قبائل الإنويت في أمريكا الشمالية. ففي واحدة من مقابلاته ينقل إرفين عن أحد رجال الإنويت وصفه لاستخدام الرياح "عندما يخيم الضباب ولا أستطيع رؤية أي شيء من الصعب على معرفة الاتجاه. لكن إذا أمكنني معرفة اتجاه الرياح عندما تكون السماء صافية، يمكنني عندها استخدام الرياح لمعرفة الاتجاه عندما يهبط الضباب. يحدث هذا في الصيف عندما لا تكون هناك تلال من الثلوج، أو عندما أكون على متن قارب".

خبرة الكاتب كملاح هي ما يخلق شعورًا بالاستعداد للتعلم من الكتاب. وهو ما يشير إلى الخاصية الثانية في خلفية الكاتب وهي أنه" مُعلم" يمتلك القدرة على تبسيط المهارات بالرغم من تعقيدها. كما أنه يخلق نموذجًا للتعلم شبيه بنمط التعلم القديم، من خلال مزج المعرفة التقنية بالحكايات الشعبية والقصص والتحريض على الخروج للطبيعة والتجريب. كما يوضح على سبيل المثال، "هناك تمارين يمكن إجراؤها خلال ساعة أو ساعتين من وقت الفراغ. حاول فقط أن تعد الخطوات أحيانًا حين تذهب إلى مكان ما. لاحظ اتجاه الريح وموقع الشمس في السماء. احسب ارتفاع بناء أو علامة فارقة أخرى شاهقة قرب مكان إقامتك، ثم قدر المسافة إلى هذا البناء من موقع ما بمد يدك وقياس ارتفاعها الزاوي. سر إلى البناء وعد خطواتك انظر فيما إذا كان تقديرك للمسافة بطريقة الارتفاع الزاوي، وبطريقة عد الخطوات يتوافقان". 

أخيرًا، ينطلق الكاتب من مأساة عايشها. استكمالًا للقصة التي حكاها عن تجربته على مركب الكاياك يذكر "بعد شهرين أبحرت في زورق كاياك خلال الضباب أيضًا"، ويستطرد قائلًا "ومن دون أن أعلم حينذاك، تاهت شابتان في الضباب نفسه على بعد أقل من نصف ميل من موقعي حيث أضاعتا اتجاههما وكافحتا حتى الموت". ويضيف تعليقه على الحادثة "أظن أن الفتاتين لم تكونا تعلمان شيئًا عن الساحل، وأنهما افتقرتا إلى الخارطة العقلية ومن المفترض أيضًا أنهما لم تلحظا اتجاه الرياح والأمواج عندما انطلقتا في زورقيهما. لذا عندما أطبق الضباب عليهما لم تستطيعا توجيه زورقيهما، وجدفتا باتجاه البحر". إلى جانب الشعور بالصدمة، خلقت الحادثة احساسًا بالأسى على فقدان مهارات التواصل مع الطبيعة. وولدت صوتًا غاضبًا على اعتمادنا الزائد على الهاتف المحمول. هذا الصوت الغاضب يورطنا كقراء في البحث عن إجابة لتساؤلات الكتاب حول فهم الطبيعة بدلًا من الخوف منها والانعزال عنها. 

في أثناء وصفه لمهارات الملاحة عند شعوب وسط المحيط الهادئ، يذكر الكاتب أنهم كانوا في رحلة السفر للمستعمرات الجديدة يفضلون الإبحار عكس التيار، بالرغم من أن هذا بدا منافيًا للمنطق، لكن الباحثين قرروا فيما بعد أن السفر عكس التيار يسهل عملية الرجوع للوطن الأم. يمكن اعتبار الكتاب رحلة تاريخية معاكسة ضد التيار. ففي الوقت الذي يتجه فيه أنظار العالم ناحية التقنية والتطوير، يغوص الكتاب أكثر ناحية التقنية القديمة ويكشف مدى تعقيدها وبراعتها، فيما يشبه الهجرة العكسية. 

يؤسس الكتاب رحلته بمناقشة الضياع وسلوك الأشخاص التائهين وحالتهم النفسية. وأن هناك ترابطًا بين سلوك الأشخاص الضائعين يشبه نمط حياتهم في الحقيقة، "تقلد الإستراتيجيات التي يستخدمها التائهون أساليب حياتهم، ويمكن استخدامها لتمثيل ذلك. يقضي بعض الناس حياتهم وهم يجربون مهنة بعد أخرى. بعضهم يمضون قدمًا على مسار محدد غير عابئين بما يحيط بهم. ويبدو أن بعضهم يتقلبون عشوائيًا. يريد آخرون أن يتسلقوا إلى موقع مرتفع، واستيعاب المشهد حولهم". فالتوهة يمكن أن تكون بمعنى من المعاني هي انفصالنا عن الطبيعة. والبداية للرحلة بمناقشة سلوكنا أثناء التوهان مؤسس للرحلة وللرغبة في اكتشاف الطريق.

كما يؤسس لخوض الرحلة نفسيًا بتوضيح الترابط بيننا وبين هذه المهارات القديمة، من خلال كشفه عن أن جهازنا العصبي مهيأ لتحديد الاتجاه بشكل غريزي، فيذكر أنه "بينما قد تختلف لغات الملاحة وإستراتيجيتها من ثقافة إلى أخرى، يبدو أن توصيلات الدماغ التي تخلق اللغة والخرائط العقلية والمهارات الأخرى هي خاصية فطرية نولد بها. تعتمد مهارة الملاحة على التفاعل بين الذاكرة والإدراك والخارطة العقلية". تشير هذه الفكرة إلى لحظة فارقة في مسيرتنا البشرية، فالتغيرات التي تحدث في علاقتنا بالطبيعة ليست فقط على مستوى التغيرات المناخية والأزمات البيئية. لكنها تشمل الملكات والإمكانيات البيولوجية الموجودة في أجسادنا، وكما يوضح: "يخلق الاستخدام الواسع لأجهزة GPS قضية أخرى ذات صلة: ما الذي سيحصل للخرائط العقلية في حقبة GPS؟ هل ستضمر القدرة على تصور مسافات بعيدة، أو حتى هل ستفشل في التطور بالنسبة لأجيال ترعرعت على هذه الأجهزة؟".

يعيد الكتاب اكتشاف مفردات لغة إنسانية قديمة قادرة على منح البشرية نوع من الترابط والإحساس بالقدرة على تحديد موقعها في العالم. وهو يراعي أن احتياجنا لهذه اللغة نشأ تحت وطأة التغيرات النفسية العميقة التي أحدثتها التكنولوجيا واختراع الـ GPS في علاقتنا بالمسافات والمكان، شيء شبيه باختبار البشرية الطيران لأول مرة. كما يصف على لسان أحد الطيارين الشعور بتغير المسافة من اختراع الطائرة "اهتزت نفسياتنا نفسها حتى الجذور، حتى أكثر أعماقها سرية. فأفكارنا عن الانفصال والمسافة والعودة هي انعكاسات لمجموعة جديدة من الحقائق، على الرغم من أن الكلمات نفسها لم تتغير".

يمكن النظر إلى الكتاب على أنه بمثابة نقد لفكرة التقدم والبدائية. من خلال إعادة الاعتبار للفنون المعقدة التي طورها البشر في رحلتهم للتواصل مع الطبيعة، فهو يعصف بحالة تماهي الإنسان مع التكنولوجيا والانبهار بها. كما أنه يعيد النظر في مسألة أن كل ما هو قديم بدائي. ويقدم فكرة أن التكنولوجيا التي صنعها الإنسان سلبته شخصيته وقدراته، وتركته عاجز أمام الطبيعة. فالمديح يذهب إلى التكنولوجيا لا إلى عقل الإنسان، لكن في المقابل فإن الإنسان الحالي متأخر ومسلوب للمهارات المعقدة والصعبة التي طورها أسلافه.

بالإضافة إلى ذلك فإن ما تقدمه فنون الملاحة القديمة هو بمثابة انفتاح على الجسد واعادة اكتشاف مفرداته وتدريبه لاستخدامه كبديل عن التكنولوجيا. وهو ما يمكن اعتباره بمثابة إعادة إحياء حواس الإنسان لتساعده على اكتشاف موقعه من جديد. ففي سياق حديثه عن تحديد الاتجاهات، يذكر "قسمت معظم الثقافات الاتجاهات إلى أربعة اتجاهات أصلية على الأقل شرق وغرب وشمال وجنوب. ربما يتعلق هذا بتناظر جسم الإنسان أمام - خلف، يمين - يسار". كما أنه يبحث عن أصل استخدام البحارة العرب وحدة" الأصابع" لقياس ارتفاع النجوم، فيقتبس عن عالم إنجليزي-هندي يدعى جيم بينسيب في مقابلة له مع بحار عربي العام 1836: "مد ذراعيه، عندما استفهمت منه عن وحدات الاصبع. ثم وضع أصابعه أفقيًا، وحسب بواسطتها ارتفاع نجم القطب، كما خمنت أنها الطريقة البدائية القديمة التي استخدمها البحارة العرب". 

إلى جانب الدور الذي قامت به هذه المهارات في منح الإنسان القدرة على البقاء في مواجهة التحديات البيئية التي تواجهه، يمكن النظر إليها كأداة للتحرر. في سياق الكتاب يمكن اعتبارها كأداة للحرية من هيمنة التكنولوجيا. وفي فترات تاريخية سابقة دعمت هذه المهارات حركات النضال والتحرر من الاستعباد والرق. كما يذكر الكاتب أنه قبل الحرب الأهلية الأمريكية، ظهرت منشورات ضد الرق تصف الدروب السرية تحت الأرض والتي يستخدمها السود للفرار من الجنوب إلى الشمال جاء فيها، "يعرف عبيد المزارع كلهم تقريبًا نجم القطب الشمالي، وهم مثل الهنود مراقبون جيدًا للطبيعة وتغيرات الطقس المختلفة، وتجبرهم عاداتهم ورغباتهم على مراقبة أشياء قد تكون مفيدة لهم، والتي تمر دون ملاحظة من الآخرين، وبالتالي يمكن للهندي أن ينتقل ضمن غابات لا دروب فيها من دون بوصلة، وعندما لا يستطيع رؤية القطب الشمالي يمكنه شق طريقه بمراقبة الطحالب الخضراء على الأشجار، والتي هي دومًا على الجانب الشمالي. يتجه قلب العبد مثل إبرة مغناطيسية دوما باتجاه الحرية في الشمال، يتعلم اتجاه القطب الشمالي ويأخذه كدليل له". 

كما دعمت هذه المهارات شخصيات نسوية قادت النضال نحو الحرية، مثل هارييت توبمان الفتاة التي هربت من العبودية في مقاطعة بروداس في ماريلاند في العام 1849 لتجد ملاذًا آمنًا في فيلادلفيا. قامت توبمان بعد ذلك بالعمل كمرشد الدروب السرية للعبيد الفارين من الأسر. واكتسبت طابعًا أسطوريًا في الأدبيات النسوية لإتقانها مهارات الملاحة. يقتبس الكاتب من كتاب "تسع نساء من التقاليد الثورية الأمريكية"، حيث كتبت جوديث نايز عن توبمان: "كانت لديها وسيلتان فقط لتحديد الاتجاه: اتباع نجم القطب الشمالي عندما تكون السماء صافية، وتحسس الطحلب الأخضر الذي ينمو على الطرف الشمالي من جذوع الأشجار عندما تكون السماء غائمة".

تنقل هذه الحكايات العلاقة مع فنون الملاحة لجانب معاصر فيه قدر من الصراع مع السلطة، والقوى التي تحاول الهيمنة على الإنسان. كأنه تأكيد على مفهوم النجاة باستخدام فنون الملاحة، لكن بشكل مختلف عن فكرة النجاة القديمة. 

يتجاوز الكتاب فكرة توظيف مهارات الملاحة لثقافة على حساب ثقافة أخرى. ويتعامل معها على أنها تراث إنساني دون الحديث عن تاريخ الملاحة في منطقة معينة، أو في لحظة تاريخية محددة. خلافًا للكتب الأخرى التي تحاول توضيح دور الملاحة في تعزيز هيمنة ثقافة ما في لحظة تاريخية معينة، أو التي تحاول إعادة الاعتبار لمجموعات ثقافية تم تهمشيهم في الحقبة الاستعمارية لصالح الغرب. فبالرغم من إدراكه للدور الذي قدمته مهارات الملاحة لتفوق الغرب على الشرق في العصر الحديث، حيث يذكر أنه "يمكن للمرء أن يحاجج أن إتقان تقنيات الإبحار والملاحة كان السبب الرئيسي في هيمنة أوروبا الغربية على العالم من القرن الخامس عشر حتى الآن"، إلا أنه ينتقل مباشرة للجزء التقني، ويقدمها بنظرة علمية يتشارك فيها البحارة النورديون والتجار العرب رحلاتهم مع الفرس والرومان واليونانيين. ويلقي نظرة مفصلة في حقيبة الملاحين القدامى والأدوات التي تحتويها ودور كل أداة منها في إتمام الرحلة. لجأ الكاتب إلى اعتماد هذه المنهجية، كمحاولة للبدء "في تقدير القرابة التي تشترك فيها هذه الثقافات جميعًا في فن تحديد الاتجاه البشري".

أحد العناصر الأساسية التي استعان بها الكاتب ضمن هذه المنهجية هو دمجه للخرائط، حيث يعكس استخدام الخرائط رغبة الكاتب في أن يشمل مدى جغرافيًا يعبر عن العالم غير مقيد بمنطقة معينة أو بثقافة واحدة. بالاضافة إلى ذلك، تعطي الخرائط تصورًا للجغرافيا وإحساسًا بمدى المهارة التي امتلكها الرحالة مع اختلاف الظروف البيئية. يمكن اعتبار توثيق الكتاب لأشكال الخرائط البدائية وتطورها عملًا توثيقيًا في حد ذاته لجانب من جوانب المعرفة الانسانية. توضح الخرائط تاريخية سعي الإنسان نحو تحديد موقعه وفهم المكان الذي يعيش فيه، وأيضا تصوراته ومعتقداته ورؤيته عن العالم. فمثلًا، اشتملت الخرائط الورقية التي تعود إلى العام 1375 على وصف لأوروبا والبحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا بعناية دقيقة، لكنها أيضًا وصفت "جزرًا خيالية من الأساطير، كأنها تغطي الأماكن الممكنة كلها. يظهر بعضًا منها نهرًا من الذهب يجري وسط الصحراء الكبرى جنوب جبال الأطلس"، وكأن الخرائط كانت محاولة لتفسير العالم وفك طلاسمه ليس بنفي الخيال لكن بتحديد مواقعه ودمجه بدقة مع العالم الواقعي.

استطاع الكاتب أن يخلق ألفة مع الطبيعة من خلال الخرائط الجغرافية وخرائط النجوم للمجموعات النجمية وأشكالها، مع سرده للحكايات الشعبية حول أسماء تلك المجموعات، ووصفه حركة الشمس والقمر مع خطوط الطول والعرض على أرض الواقع. كما أنه منحنا ادراكًا لدور الحواس في فهم مدى تعقيدها وتراكمها. فالاحساس بتواتر الضوء مثلًا هو ما يخلق الزمن، لكن الضوء نفسه له درجات تختلف حسب الفصول، فكما يوضح: "إذا روقبت الشمس بشكل منتظم فسيكون لها معنى ملموس. خلال الربيع ترتفع الشمس أعلى في السماء، وتتغير نوعية الإشعاع بسرعة مع مرور كل يوم. في الصيف عندما تكون الشمس في أعلى مكان لها في السماء، يكون النهار أطول، يصدر أشعة متفاوتة الشدة وألوانًا براقة. في الخريف يصبح النهار أقصر بسرعة، وتنخفض الشمس في السماء. في الشتاء تكون الشمس منخفضة في السماء، وتكون طبيعة الضوء معتمة وبتدفق منخفض". وهي ملاحظات لها قيمة فنية وجمالية، فرسومات فنسنت فان كوخ مثلًا تظهر بوضوح "التقابل في خصائص الإشعاع الشمسي بين الأقاليم الشمالية والجنوبية. فأعماله الأولى في هولندا وباريس معتمة وخافتة، غير أن أعماله اللاحقة في بروفانس مشرقة وممتلئة بالتقابل القوي في الألوان". فالكتاب يعمق من إحساسنا بالجمال الذي تحمله تفاصيل الطبيعة، ويعطينا مساحة للتأمل مهمة لاكتساب الخبرة في التواصل معها والاعتماد عليها. 

على الرغم من ذلك، يؤخذ على الكتاب أنه لم يوضح بشكل كاف أبعاد تنافس القوى والصراعات التي حدثت للهيمنة من خلال امتلاك مهارات الملاحة. تشير هذه النقطة إلى العنف الذي فرضه الغرب على الثقافات المختلفة، ونفيه كل المعرفة القديمة لصالح التكنولوجيا، وترافق ذلك مع استخدام للقوة في كثير من الأحيان. بالإضافة إلى ذلك فإن الملاحة بشكلها القديم لا تتناسب مع السرعة التي فرضتها الحداثة. بالنظر إلى أن تراكم هذه المعرفة تستغرق أجيالًا طويلة لتعليمها، حتى داخل الجيل الواحد، فإن تعلم هذه المهارات يحتاج وقت وصبر ومصاحبة. الحداثة إيقاعها مختلف، والزمان الذي تفرضه مختلف، وهو ما يطرح إشكالية مدى مناسبة هذه المهارات لإيقاع الحداثة، وأن إعادة الاعتبار لها لا يمكن أن تحدث من غير خلق الزمن الخاص بها. وهو ما يستدعي تقديم تنازلات من الإنسان في العصر الحديث خاصة في الغرب، الذي يعتمد تفوقه بالأساس على السرعة والتكنولوجيا. فالكتاب يقدم وجهة نظر كونية، لكن لكي يخرج من كونه مجرد احتفاء بحالة رومانسية قديمة، يحتاج إلى اشتباك أعمق مع المفردات التي خلقتها التكنولوجيا وعلاقات القوى التي شكلتها. 

في أثناء حديثه عن النجوم، يذكر الكاتب عن سيدة مسنة سنة 1818، أغنية حول أعمدة نجمية تمسك قبة السماء، وترسم نوعًا من خارطة سماوية بصيغة شعرية. ويعلق في النهاية أن هذه الأغنية "بمنزلة الصدى الخافت لفترات أكثر جرأة في فن الملاحة، لم يصل إلينا أثرها". 

الحكايات المتناثرة عن مسنين يروون علاقتهم بالملاحة عن طريق النجوم ونظرتهم الشاعرية لها تذكرني بالحكايات التي رواها لي شيوخ الرعاة والصيادين في جنوب الصحراء لشرقية على ساحل البحر الأحمر. في إحدى الليالي بعد انقطاع التيار الكهربائي في قرية القلعان، وهي آخر قرية صيادين في محمية وادي الجمال، حكى لي أحد الصيادين نقلًا عن أبيه الذي كان شيخ صيادين القرية، أن والده كان له نجمة محددة يعرف منها موعد صلاة الفجر. وحكى أنه كان يبحر في رحلات الصيد بالمراكب الشراعية اعتمادًا على النجوم وحركة الرياح. أضاف أنه مرة سافر مع أبيه على مركب حديث، وطلب من والده أن يرشدهم إلى مكان الجزيرة التي يتجهون إليها بعد أن ادعى أنه لا يمكنه استخدام البوصلة أو الـ GPS على سبيل الاختبار، واستطاع والده الشيخ أن يصل بهم لمكان الجزيرة في وسط البحر ببراعة، وبدقة أكبر، لأنه كانت لديه خبرة بالمسار في البحر والانحرافات البسيطة التي يمكنها أن تجعل الرحلة أسهل. حكايات الملاحة عن طريق النجوم تخلق عالمًا شاعريًا، وغالبًا يبدو النظر إلى هذه المهارات نوع من المهارات الخيالية، لكنها كانت جزءًا من حياتنا لفترات ليست ببعيدة، وما يصل إلينا منها يمكن اعتباره صدى أكثر خفوتًا لفترات أكثر اتصالًا مع الطبيعة واتساقًا مع إيقاعها.