كفاحي في الواقع "نص أنثوي" وبشدة، يكترث بالفروق الدقيقة للمشاعر المرافقة للحياة المنزلية العادية. والحياة العادية عليَّ أن أضيف، لا تنقصها الدراما.

كناوسجارد يكتب كاِمرأة

مقال سيري هوستفيدت

ترجمة: سلطانة إدريس

نشرت على موقع ليت هاب في ديسمبر 2015

سيري هوستفيدت روائية وباحثة تعيش في حي بروكلين بمدينة نيوريورك. حازت على درجة الدكتوراه في اﻷدب اﻹنجليزي من جامعة كولومبيا وتحاضر في الطب النفسي. حازت روايتها العالم المشتعل The Blazing World على جائزة لوس أنجلس للأعمال اﻷدبية في 2014.


كارل أوف كناوسجارد في النيويوركر

كتبت جورج إليوت في مقالتها "روايات سخيفة لروائيات نساء" التي نُشرت عام 1856، «لحسن الحظ أننا لا نعتمد على النظرية لنثبت أن الخيال أحد الأقسام الأدبية التي تتمكن منها النساء، بعد زملائهن الرجال الطيبون المساوون لهم كليًا». هل سيجادل أحد اليوم بعكس هذا؟ هل الكتابة نشاط يعتمد على جنس الكاتب؟ إن كانت كذلك، ماذا يعني هذا؟ كشفت دراسة اِستقصائية أجراها موقع جودريدز عام 2015 أن 80% من متوسط جمهور المرأة الكاتبة إناث، على عكس 50% من جمهور الرجل الكاتب. بصيغةٍ أخرى، الرجال الذين يكتبون الكتب الخيالية يمتلكون شريحة جماهيرية تُمثل العالم ككل بينما النساء لا يمتلكن هذا. لا شك في أن ثمة كاتبات اِستثنائيات تحدين هذه النسبة المتوسطة. عدد النساء اللواتي يقرأن الأدب الخيالي يفوق عدد الرجال. مع ذلك، النص الأدبي هو مجرد صفحات مطبوعة. إذا كانت هذه الطباعة تحتوي على راوي ذكر، فهل هي ذكورية؟ هل وجود أنثى كشخصية رئيسية تجعلها أنثوية؟ هل هناك صفات تجعل للكتاب جنس؟ 

أنا اِمرأة كاتبة متزوجة من الكاتب بول أوستر (لاحظوا أن ذلك يبدو غريبًا لكن ما سبقه ليس كذلك)، وكثيراً ما أُلقيت في قلب مواقفٍ أجبرتني على التساؤل إن كنت أتعرض للتمييز على أساس الجنس -سواء بوعي أو لاوعي- أو شيءٌ آخر. هل كان الصحفي الذي أصر على أن زوجي "علمني" التحليل النفسي وعلم الأعصاب (على الرغم من أني أخبرته أن كلامه خالٍ من الصحة تمامًا، وأن اِهتمام زوجي بكلا العِلمَيْن قليل) أحمق متحيز ضد المرأة أو مجرد رجل يريد أن يصدق أن بطله الأدبي كان مسؤولًا بشكلٍ أو بآخر عن تعليم زوجته؟ الرجل لم يكن عدائيًا بالمرة. بدا عليه الحيرة لأني ضليعة في هذه المواضيع أكثر من زوجي بكثير. وماذا عن الرجل المسن من دار النشر الفرنسية الذي قرأ روايتي الثالثة وقال ملوحًا بيده كالقاضي، «يجب أن تستمري في الكتابة»؟ هل كان مغرورًا أم متعاليًا؟ في صيف 2015، تلقيت رسالة من معجبة تُغدقني بالمدح على روايتي العالم المشتعل. يوجد في الرواية عشرون سردًا مختلفًا بصيغة ضمير المتكلم لذكور وإناث. كان لديها عدة أسئلة، لكن أحدها صعقني. أرادت أن تعرف إن كان زوجي هو من كتب قِسمًا في الكتاب لشخصية مذكرة، برونو كلاينفيلد. أعرف أن دافع سؤالها بريء، لكن ماذا الذي يعني هذا؟

تحكي الأرقام جزءًا من القصة لكن نادرًا ما تحكي القصة كلها. مراقبة النسب المئوية لقراء الكتب الخيالية من الذكور والإناث، وعدد مراجعات الكتب التي ألفها رجال ونساء وما إلى ذلك مثيرة للاِهتمام، لأنها تنبهنا لجوانب في الثقافة الأدبية لم نكن لنقدر على التحري منها دون الأرقام. ومع ذلك، الإحصائيات لا تفسر لماذا يحدث هذا. يُكتب حاليًا باستمرار عن التحامل اللاواعي، لكن اللافت للنظر ليس أنه موجود بل لماذا هو موجود وكيف يعمل بدواخلنا جميعًا. قراءة الروايات نشاطٌ واحدٌ من عدة نشاطاتٍ ثقافية، والطريقة التي تفشت عدوى الأفكار الأنثوية والذكورية في عاداتنا الأدبية لا يمكن محوها من الصورة الكبرى للثقافة، كما أنه ليس من السهل مناقشة هذه الثقافة كما لو كانت كتلة غير متغيرة وموحدة من الآراء المتفق عليها بالإجماع.

عام 1986، أجرى فيليب جولدبرج دراسة أصبحت مشهورة الآن مستخدمًا نساء الجامعة كعينة دراسية. أعطى مجموعتين من الطالبات نفس المقالة المؤلفة من قبل جون تي ماكاي أو جوان تي ماكاي لتقييمها. التقييم الذي حصل عليه جون كان متفوقًا من كل النواحي. وكأي دراسة، التكرار أظهر نتائج مختلفة. على كل حال، منذ ذلك الحين، دراسة تليها دراسة أثبتت ما أسميه التأثير المُحسن للذكر. دراسة عشوائية مزدوجة التعمية أجرتها جامعة ييل عام 2012 وجدت أنه عندما حكمت هيئة تدريس كلية العلوم على أوراق اِعتماد تعيين حمِلت اِسم ذكر أو أنثى، عُرض على الرجل الوهمي راتب أعلى وإرشاد مهني أكثر من المرأة الوهمية. الرجال والنساء كانوا مُنحازِين على حدٍ سواء. بالتأكيد، قلة من هؤلاء البروفيسورات كانوا واعين بأنهم يمنحون الرجال صفقة أفضل. هل أنا واعية باِنحيازاتي؟ هل الموضوعية ممكنة في هذه الحالات؟ هل يُخَلِّص البشر نفسهم من صفات غير واعين بوجودها؟ ومرة أخرى، لماذا الرجال هم من يملكون الأفضلية؟

تناقش الخبيرة اللغوية والأخصائية النفسية فرجينيا فاليان في كتابها "تقدم النساء: لماذا هو شديد البطء؟" ما تسميه بمخططات الجندر الضمنية، أفكار لاواعية عن الذكورية والأنثوية تُصيب إدراكنا وتميل إلى المبالغة في تبجيل إنجازات الرجال والحط من إنجازات النساء. تُقيِّم النساء اللواتي يشغلن مناصب السلطة روتينًا بدرجة أقل من أقرانهم الذكور حتى وإن كان الإختلاف في الأداء معدوم. كشفت دراسة في عام 2008 أنه عندما خَضعت الأوراق الأكاديمية لمراجعة مزدوجة التعمية من الأقران -لم تكشف هوية المؤلف ولا المراجع- زاد عدد قبول الأوراق التي ألفتها نساء بنسبة لافتة للنظر. عام 2004 نُشرت دراسة "عقوبات النجاح: ردود الفعل على نساء نجحن في مهام ذكورية الطابع" لهيلمان وآخرون. القصة واضحة من عنوانها. دراسة في عام 2001 للوري رودمان وبيتر جليك اختُتِمَت بهذه الكلمات، «لطف الأنثى كصفة متأصلة هو إيمان ضمني يُعاقِب النساء ما لم تخفف قوتهن باللطف». لكي يُقبلن، على النساء أن يقدمن تعويضًا عن طموحهن وقوتهن باللطف. الرجال ليس عليهم أن يمتلكوا أدنى قدر من اللطف الذي يجب أن تكون عليه النساء.

لا أؤمن أن النساء ألطف بالفطرة أكثر من الرجال. قد يكن تعلمن أن اللطف يكافأ والطموح غير المغلف يُعاقب. قد يتملقن حتى يصلن إلى ما يصبن إليه لأنه سلوك يجازين عليه ولأنها اِستراتيجية خفية قد تثمر بنتائج أفضل من الصراحة المباشرة، لكن حتى عندما تكون النساء واضحات ومباشرات، لا يُسمعن أو يُرين. خلال مناقشة ورقة في لقاء أكاديمي حضرته، شاهدت اِمرأة تشرع في طرح سؤال. بعد أن نبست ببضع كلمات، قاطعها رجلٌ، مستأثرًا بالمنصة، ومدافعًا عن رأيه بإسهاب. بعد ذلك، شرعت في نُقطتها مرة أخرى ورجل آخر قاطعها وهي في منتصف الجملة. في المجمل الأخير، أربعة رجال اِنقضوا على ملاحظاتها قبل أن تقحم نفسها عنوة في الحوار وتقول رأيها. حينها، اِستيائها كان قد تضخم، وحصولها على المنصة في الأخير دفعها لتبدي نقدًا عدائيًا وعنيفًا للورقة. بعد اِنتهاء اللقاء، غادرت القاعة برفقة زميل، قال مشيرًا إلى المرأة: "لقد كانت لئيمة للغاية".

كلنا سمعنا مثل هذه القصص. أعيدت مرارًا وتكرارًا بأشكال مختلفة وفي أماكن مختلفة. ما أذهلني حول هذه الحادثة أن الرجال الذين قاطعوا المرأة لم يبد عليهم أنهم يدركون فظاظة سلوكهم. كان الأمر كأنها شخصٌ لا مرئي بصوت غير مسموع، شبحٌ منفصلٌ في الغرفة. لم تكن صغيرة أو خجولة أو واهنة الصوت أو مترددة. في الواقع، كانت خالية من كل هذه الصفات التي يلقى عليها أسباب فشل النساء في أن يُسمعن في الاِجتماعات المثيلة لهذا اللقاء. النساء خانعات للغاية، النساء يفضلن أسلوب الأخذ والعطاء. النساء أقل حدة من الرجال وذوات توجه اِجتماعي أكثر. النساء يكترثن بمشاعر الآخرين. هذه المرأة لم تنقصها الثقة، ولم تأبه بمقدار ذرة لو أن تعليقاتها مهينة لمؤلف الورقة. كل ما في الأمر أنها واجهت صعوبة في أن تنبس ببنت شفة. لو كانت صرخت سؤالها من الأول، لكانت حصلت على المنصة، لكن بتكلفة. بعد معاملة فظة بشكل فظيع، حقيقة أن الوقحين الفعليين كانوا غافلين عن وقاحتهم هو ما جعلها أكثر بشاعة. سبب إلقائها لكلماتها المكبوتة بنبرة عالية وجازمة مفهوم، لكنه ما اعتُبِر لاحقًا صفة من اللؤم.

أحزنني الأمر. كلا، سلوك كهذا ليس سببًا لإراقة الدماء. إنها أمور اعتيادية، لكن أثر هذا النوع من إلغاء الآخر لا يجب أن يؤخذ بخفة. أن تتحدث، ولا يكتفون بتجاهلك فحسب، بل يتكلمون فوق كلامك كأنك غير موجود لهو أمرٌ مريعٌ لأي شخص. إنها إهانة لكينونة الإنسان، وعامًا بعد عام من هذه المعاملة تنطبع آثار قبيحة على النفس. لكن كيف كان هؤلاء الرجال عُمي عن وجود تلك المرأة وصُم عن سماعِ كلماتها؟ ماذا يجري حقًا؟ ما أن تتسيد مجالك، التعلم بجميع أنواعه يجري بطريقة لاواعية وآلية. يبدو الوعي شحيحًا ومحفوظًا للتعامل ليس مع المدركات المتوقعة والروتينية في حياتنا، بل مع ما هو حديث وغير متوقع. الأنشطة المحفوظة عن ظهر قلب تستدعي أدنى حد من الوعي، لكن لو أثناء وقوفي في المطبخ، اِلتفت ورأيت غوريلا تقرع النافذة، يصير الوعي الكامل إجباريًا.

يعتبر الإدراك الحسي محافظًا ومتحيزًا بطبيعته، شكل من أشكال الصور النمطية التي تساعدنا على فهم العالم. في أغلب الأحيان، عندما لا تقرع غوريلا نافذة مطبخنا، نرى ما نتوقع رؤيته. لا نستقبل معلومات خفية من العالم بل تأويلات إبداعية عنه. نتعلم من الماضي عبر أحداث عاطفية مهمة، نبصر الحاضر بضوء ما تعلمناه، ثم نضيف ذلك الدرس للمستقبل. بطريقة ما، تلك المرأة أصبحت غير ملحوظة للرجال الذين يتحدثون في تلك القاعة. أنا مقتنعة تمامًا أن الرجال الذين قاطعوها سيذهلون ويحرجون لو رأوا فيلمًا بما جرى. تحت هذه الحادثة الشائعة -رجال يقاطعون النساء- يجب أن يكون هناك عدد من التجارب التي تصبح توقعات، أو ما يسميه بعض العلماء "سوابق"، وهي قوية بما يكفي لتحيل شخصًا كاملًا إلى سراب، على الأقل لمدة ما، لكن ما هذه الاِفتراضات أو الأفكار اللاواعية بالضبط وما علاقتها بقراءة الأدب.

قصة شخصية أخرى تحمل إجابة واعدة أو على الأقل إجابة جزئية. أجريت مقابلة ذات مرة مع الكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسجارد في نيويورك أمام الجمهور. بعد فترة قصيرة من نشر أول مجلد من سيرته الذاتية "كفاحي" بالإنجليزية. أنا من المعجبين بالكتاب، أو بالأصح سلسلة الكتب، سواء بالنرويجية أو بالترجمة الإنجليزية الممتازة (حتى الآن)، وكنت سعيدة بإجراء مقابلة مع الكاتب. أعددت أسئلة، وأجاب عليهم بإخلاصٍ وذكاء. قرابة نهاية حديثنا، سألته لماذا يمتلئ الكِتاب بمئات الإشارات إلى كُتاب، ولم تذكر فيه إلا اِمرأة واحدة فقط: جوليا كريستيفا. ألا يوجد أعمال لنساء أثرت عليه ككاتب؟ أهناك سبب لهذا الإهمال المريع؟ لماذا لم يذكر كاتبات أخريات؟ 

أتت إجابته بسرعة، «لا منافسة». أجفلت للحظة بسبب رده، وعلى الرغم من أنه كان عليَّ أن أطلب منه التوضيح، كان الوقت قد نفد منا، ولم تتح لي الفرصة لأطلب ذلك. إلا أن إجابته ظلت ترن في ذهني كنغمة متواترة: "لا منافسة." لا أصدق أن كناوسجارد يظن فعلًا أن كريستيفا هي المرأة الوحيدة، من الأحياء والأموات، القادرة على الكتابة والتفكير جيدًا. سيكون هذا منافٍ للعقل. تخميني بدلًا من ذلك هو أن المنافسة بالنسبة له، أدبية وغيرها، تعني أن يحرض نفسه ضد رجال آخرين. النساء، مهما كن عبقريات، ببساطة لا يحتسبن، مع إمكانية استثناء كريستيفا، والتي يصادف أنني أعرف أنها كانت أشهر من النار على عَلم في الفترة التي اِلتحق فيها كناوسجارد بجامعة بيرجن، وقد تكون اِنزلقت في كتابه لهذا السبب. لو أنه عاش في مكانٍ آخرٍ وفي زمانٍ آخر، فيرجينيا وولف أو سيمون فيل قد يشغلن مكانة "المرأة المثقفة أو الأدبية". كناوسجارد ليس وحيدًا في إقصائه للنساء من المنافسة. في الواقع، قد يُعتبر أكثر صراحة من العديد من الكتاب الذكور والأكاديميين وغيرهم من معشر الرجال الذين لا يرون أو يسمعون اِمرأة لأنها ليست منافسة. لا أظن أن هذا السبب الوحيد لاِختفاء النساء من الغرفة أو على النطاق الأوسع للأدب، لكنها بالتأكيد فكرة مثيرة للاهتمام، فكرة يجب تناولها. هل كناوسجارد واعٍ ببساطة لسلوك يؤمن به ضمنيًا الرجال الآخرون والنساء ولا يستطيعون أو لا يفصحون عنه؟ 

في لقاء مع صحفي من صحيفة ذا أوبزرفر الإنجليزية، اِعترف كناوسجارد أنه تعرض للمضايقة عندما كان طفلًا، نودي باسم فتاة والمثلي جنسيًا، واعترف بأنه لم يتعافَ من ذلك أبدًا. قال في اللقاء: «أنا لا أتحدث عن المشاعر، لكني أكتب كثيرًا عن المشاعر. القراءة، هذا أنثوي، الكتابة، هذا أنثوي. إنه جنوني، حقًا جنوني، لكنه ما زال بداخلي». فكرة أن القراءة والكتابة مصبوغتان بطابعٍ أنثوي رسخت جذورها بعمق في النفسية الجمعية الغربية. وكناوسجارد محق، ثمة شيء مجنون حيال هذه الفكرة. ماذا يعني أن القدرة على القراءة والكتابة، أعظم وأحدث تقدم في تاريخ البشرية، يجب أن يمتهن على نحو ساخر (لم يترك كناوسجارد مجالًا للشك أن هذا ما يعنيه) كمجال نسائي مشؤوم؟ عندما لقرون، طبقة معينة كان لديها امتياز حق الوصول للقراءة والكتابة وفي تلك الطبقة ذات الاِمتياز، الصبيان هم من يحصلون على تعليم ممتاز، ليس الفتيات، شيءٌ كتبت عنه فيرجينيا وولف في "غرفة تخص المرء وحده" بمرارة ملحوظة، كيف هبطنا في هذا النطاق الثقافي الفضولي؟ وعلاوة على ذلك، لو الأدب نفسه بطريقة ما أنثوي، لما تُدفَع النساء خارج المنافسة الأدبية؟

نحن جميعًا، رجالًا ونساء، نبرمج الرجولة والأنوثة في مخططات مجازية ضمنية تُقسم العالم إلى نصفين. العلوم والرياضيات صعبة وعقلانية وواقعية وجادة وذكورية. الأدب والفن كلاهما ناعم وعاطفي وغير واقعي وأرعن وأنثوي. في ورقة تنصح المعلمين بطرق لتشجع الصبيان على القراءة، صادفت هذه الجملة التي ترن كصدى للذكريات المؤلمة من طفولة كناوسجارد الذي وصف فيها بأنه كالبنات: «يُعبر الصبيان غالبًا عن نفورهم من القراءة كنشاطٍ سلبي، بل حتى أنثوي». فِهم الأرقام والتلاعب بها لا يحمل نفس وصمة العار. هل إجراء عمليات حسابية فعل أكثر نشاطًا؟ ألا يجب أن يتقن الطفل القراءة والكتابة؟ أليس إتقان القراءة والكتابة أساسي لمواجهة العالم؟ وبما أن الأرقام والحروف علامات مفاهيمية، وفي الإنجليزية على كل حال علامات لاجنسانية، فالتحامل على القراءة لأنها أنثوية ليس إلا غباء، أو كما وصفه كناوسجارد، جنون. لكن التحيز ترابطي. أي شيء ترتبط هويته بالفتيات والنساء يخسر مكانته، سواء كان مهنةً، كتابًا، فيلمًا، أو مرضًا. لكن السؤال العميق هنا حول مشكلة المشاعر. ما الذي جعل كناوسجارد ينتقل مباشرة من المشاعر إلى الأنثوية؟

قد يُطلق على كناوسجارد ملك الكتابة الآلية المعاصر. "كفاحي" نص منفلت من التحكم. هذه طبيعة المشروع. سألته عن الكتابة الآلية في المقابلة، لكنه لا يعرف أي شيء عن تاريخها سواءً العلم نفسي أو السريالي. لم يعرف أي شيء عن هذا النوع الأدبي الفرنسي الذي استفسرت عنه: الخيال السير-ذاتي. وهو مصطلح ظهر على يد سيرج دوبروفسكي، في الخيال السير-ذاتي، بطل الكتاب واسم المؤلف يجب أن يتطابقا، ومادة الكتاب يجب أن تأتي من سيرته الذاتية، مع إمكانية اِستخدام الأساليب الخيالية (من المثير للاهتمام أن كتاب كناوسجارد تم تجاهله في فرنسا من قبل شريحة عريضة، كما حدث في ألمانيا، حيث العنوان لم يترجم "كفاحي"). في مقابلته معي، أصر على أنه لم ينقح الكتاب، لم يعدل كلمة بعد أن كتبت، وليس لدي سبب لأُشكك فيه. العمل سيل نيء وغير خاضع للرقابة من الكلمات الصادرة من نفس هشه ومليئة بالكدمات، نفس ندركها جميعًا بدرجة أو بأخرى لكن نختار أن نحميها. إنها الرواية كسيرةٍ ذاتيةٍ طليقة، تدفق عالي من المشاعر غالبًا، ومع ذلك تستعير تقاليد شكل الرواية، وصف وحوار واضح -الذي لن يتذكره أي إنسان، هذا الشكل الفضفاض الواسع يعني أن القارئ عليه أن يتحمل إسهاب حتمي- مقاطع ممطوطة، ولا يحدث فيها سوى القليل جدًا. هناك أيضًا استطرادات نصف فلسفية، تأملات حول الفن والكُتاب والأفكار، بعضها نابض بالحياة وبعضها فاتر.

يكتب كناوسجارد عن "مشاعره" كثيرًا، ويستمر في ذلك حتى وهو يهان أثناء عملية الكتابة، حينما يبدو كأبله وساذج. شفافية شجاعة كهذه ساحرة في أي شخص، لكنها قد تكون ساحرة أكثر حين تصدر من رجل، لأن الرجل الذي يكشف عن مشاعره مُعرض أكثر لخطورة العار. سقطته مسافتها أطول ودويها أقوى. صدم الكِتاب جمهوره النرويجي. قبل ظهور الترجمة الإنجليزية، نقل لي أقاربي وأصدقائي النرويجيون عن نوبة جنون كناوسجارد المفاجئة. سِير البؤس لا تحظى برواج في النرويج؛ باِستثناء المذكرات اليومية التي تنشر بعد الوفاة عادةً، لا يوجد تقليد لاِعترافات على شاكلة أنا قُرحة تنزف. الإرث الحالي في الولايات المتحدة وإنجلترا، إذ لم يكن في فرنسا وألمانيا، لمجلدات الكاتب التي تحمل روحه ويبوح فيها بكل شيء ليست عار بل بطولة. على الرغم من أن كناوسجارد أعترف لهواجسه المعذبة عن أفراد عائلته الذين جرحهم بكتابة روايته الضخمة، النقاد لم يعتبروا كفاحي عملًا فيه تنازلًا أخلاقيًا. هناك مفارقات ساخرة عديدة في كل هذا، وبطبيعة الحال يجب أن تناقش بدقة إذا أردنا أن تُفهم جملة "لا منافسة" في عالم الحروف بفطنة.

المشاعر والتعبير المنفتح عنها مرتبط بالأنوثة والجسمانية. لطالما كانت الرواية سوقية، بل محتقرة حتى، ومرتبطة بشدة بالحياة المنزلية والنساء ومشاعرهن. مقالة جورج إليوت التي نشرتها بلا اِسم جزءٌ منها كان محاولة لتمييز مكانتها وموقفها الجاد المثقف الواقعي، بعيدًا عن النساء اللواتي يكتبن كتبًا سخيفة غير واقعية ببطلات مثاليات وبلغة نثرية متخمة بالمشاعر. هذه الحاجة للابتعاد عن البهرجة الأنثوية ليست بجديدة. في القرن الثامن عشر، الرواية، خصوصًا الروايات التي تكتبها نساء وتوجه للنساء، "روايات للسيدات" حظيت بمكانة منخفضة لدى النقاد. في "إستراتيجيات جندرية لنقد الأعمال الخيالية المبكرة" اقتبست لورا رونج من أمبروز فيليبس، الذي سوق إعلانيًا لمجلته الدورية، المفكر الحر، "كبديل راق للأعمال الخيالية التافهة من روايات ورومنسيات تنخرط فيها معظم النساء" وتشير رونج بعد ذلك إلى أن مقدمات هذه الروايات المبكرة شجعت «ترابطًا بين القارئة والبطلة، أو.. بين القارئة والنص المجسد كامرأة». اُحتقرت الرواية لفترة طويلة باعتبارها شيئًا أنثويًا.

بالنسبة للرومانسيات والمشاعر التي اعتُبِرَت مبدأ أنثوي، لقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بجميع أنواع الفنون، وما زلنا نعيش تحت تأثيرها الساحر. الرجل الأنثوي أو الرجل ذو المشاعر كان بمثابة الدعامة لفترة. لم ينس أحد إحساس جوته أو الشاب فيرتر وعاطفته الرقيقة المتألمة، أو انتحاره الذي أثار موجة من المحاكاة. يُشير ثيس إي مورجان في كتابه "رجال يكتبن الأنثوية: الأدب والنظرية وسؤال الجندر" إلى المخاطر المنطوية في أن يجد الشاعر الرومانسي نفسه على أرض أنثى. على الرغم من لغة مورجان النثرية الغريبة إلا أن وجهة نظره مقبولة. «إذا كان تخيل أصوات مشاعر الأنثى يفتح مصدر مشوق من المشاعر للذكر الشاعر، فنصوص ووردزوورث تكشف عن مخاوف مزعجة: إن الرجل الذي يكتب بحس أنثوي قد يكتشف ويُولِّد مشاركات أكثر تعقيدًا عن الجندر مما كان يتخيل في البداية». بعبارة أخرى، أن تُصبح اِمرأة أو تسمح لمرأة أن تتسلل بداخل ذاتك الكتابية لهو تحولٌ جذريٌ خطير.

رحلة كناوسجارد نحو الأنوثة ليست محاكاة هزلية أو تشبُّه بالنساء وارتداء ملابسهن. إنها ليست عالم من مهرجان رابليه أو مرتدي ثياب الجنس الآخر أو المرح المتحرر الذي قد يحصل جراء لعب دور الجنس الآخر، ولا مغامراته تشبه الحكاية الخيالية الشهيرة التي يُبدل فيها الرجل والمرأة مكانهما ليوم. هي تذهب لتحرث الحقول، وهو يمكث في المنزل مع الأطفال. العبرة من القصة هي أن الرجل الذي اِستهزأ من عمل المرأة لسهولته، يكتشف أنه يتطلب رشاقة ومهارة لا يمتلكها هو. كلا، وصف كناوسجارد الطويل للحياة المنزلية، تقشير البطاطس وتغيير الحفائض، المشاعر العدائية التي يكنها لأطفاله الذين يحبهم، وغضبه العارم لكونه حبيسًا ومختنقًا بمسؤوليات المنزل لا تنتمي لشيء كما تنتمي لسرد المرأة. بالفعل، تفاصيل كناوسجارد الدقيقة للواقع المنزلي تستحضر رواية القرن الثامن عشر الإنجليزية، بالتحديد رواية كلاريسا لريتشاردسون، وتمامًا مثل كلاريسا، هذه التفاصيل المنزلية مبجلة، بل وتعتبر نبيلة كجزء من قصة إنسانية فريدة.

في مقالة لمجلة سليت، تُجادل كاتي روفي بأن نفس كتالوج الأعمال المنزلية لربة المنزل والبؤس الذي يصاحبها لم يكن ليحظى بنفس التأثير النقدي لو كان مؤلف" كفاحي" اِمرأة. روفي كانت سريعة في الإشارة إلى أن هذا ينطبق على المراجعين الذكور والإناث. إنها لا تقلل من إنجاز كناوسجارد. إنها من معجبيه. وهي بالأحرى تشير إلى مشكلة سياقية. ماذا لو كانت امرأة تنوح حول الأمومة وإحباطاتها. امرأة مليئة بالسخط بسبب تحضير العشاء وغسل الملابس، أو اِمرأة تتمنى البقاء لوحدها لفترة لكي تكتب؟ أليس هذا ما يتوق إليه كناوسجارد في معظم الوقت، غرفة تخص المرء وحده والحرية للكتابة؟ لو أن آلاف الصفحات من كفاحي إقرارًا لأي شيء، فهي أن الرجل وجد وقت ليكتب.

لكن ماذا لو كانت اِمرأة من تتذمر؟ روفي لا تقول هذا، لكن ربة المنزل المسحوقة شخصية وضعيّة. على الرغم من أن بهجة ورضا الحياة المنزلية صورت بطريقة رومانسية جدًا في القرن العشرين، إلا أن ملاك المنزل تلك قصت جناحاتها، أليس كذلك؟ ربة المنزل البيضاء من الطبقة المتوسطة التي لا تكل ولا تمل، وصفتها بيتي فريدان ببراعة؟ عزلتها بالطبع كان جزء منها بسبب اِمتيازاتها. النساء اللواتي يعملن في مهن وضيعة ليدعمن أسرهن لم يكن لديهن أبدًا رفاهية الشعور بالضجر في منازلهن. تصدت روفي لأولئك الذين يصرون على أن عظمة كناوسجارد الفنية هي التي أنقذته من الابتذال، بأن مهما كان فنيًا، إن كتبت أوليفيا كراوس الافتراضية نفس العمل لن تؤخذ أبدًا بنفس الجدية. في الواقع أوليفيا كراوس ستختفي. 

عندما يصبح رجلًا ربة منزل، عندما يعيش قصة جرت العادة أنها تخص النساء وحدهن، هل هذه القصة جديدة أم قديمة؟ لنكن صريحين. أي قصة تغرق أو تسبح في السرد، لكن مع ذلك لمن المذهل أن نفكر في "كفاحي" داخل الإطار السردي الذي منحته سيمون دو بوفوار اسمه الشهير "أن تصبح اِمرأة". نعرف أن القاص رجل لأنه يقلق حول الأشياء الرجولية. لن يستخدم حقائب سفر بعجلات. إنها أنثوية. يعاني من القذف المبكر، ليست علة أنثوية. وصف والد الكاتب كرجل ذي نزوات عشوائية وغير منطقية وسرعة انفعالية عنيفة مفاجئة، طاغية تافه استخدم سلطته الأبوية ليحط من قدر اِبنه، الفتى الذي يعيش في حالة تأهب دائمة لإنذار الخطر تحت نظرة سلفه المتسلطة.

في الدول الإسكندنافية، توقع أن الرجل يجب أن يشارك في الحياة المنزلية والعائلية أكبر من أي مكان آخر في العالم. إجازة الأبوة منتشرة في كل مكان. لكن الأهم من ذلك، يمكن للمرء أن يشعر بالفرق في الطريقة التي يتحرك بها النساء والرجال ويتحدثون ويعتنون بأنفسهم في هذه البلدان. هناك شعور ملموس بأن النساء يتمتعن بسلطة أكبر من نظيراتهن في دول أخرى. في النرويج، النساء يمتلكن حق التصويت في الانتخابات منذ 1913. ككاتبة، أُعامل بشكل مختلف في الدول الاسكندنافية. يبدو الصحفيون أقل توقًا لاختزال عملي في نوعي الجنسي أو سيرتي الذاتية مقارنة بالصحفيين في فرنسا وإيطاليا على سبيل المثال. في الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح من الرائج أكثر أن يعتني الآباء أيضًا بأطفالهم، على الأقل أكثر مما اِعتادوا عليه في السابق. ملحمة كناوسجارد قد تكون أخفقت في فرنسا لأن العرض المسرحي الكئيب لأب يغير الحفائض ويطهو العشاء قوته الاستقطابية ضعيفة في تلك الثقافة الذكورية المفتولة العضلات.

كفاحي في الواقع "نص أنثوي" وبشدة، يكترث بالفروق الدقيقة للمشاعر المرافقة للحياة المنزلية العادية. والحياة العادية عليَّ أن أضيف، لا تنقصها الدراما. المشهد الذي يصف فيه كناوسجارد قرب نهاية المجلد الأول من عمله المكون من ستة مجلدات تنظيفه هو وأخوه منزل والدهم المتوفى المغطى بالقذارة واحد من أقوى النصوص التي قرأتها منذ سنوات. قلت لنفسي، هذا التنظيف بمثابة رحلة نحو الرعب الميتافيزيقي. الواقع المنزلي اليومي، الذي لطالما كان إقليم الرواية بالكاد يكون حميدًا. لطالما فكرت أن فعلًا بسيطًا مثل جمع ثمانية بالغين لحفلة عشاء والطلب من كل واحدٍ منهم مشاركة قصة حياة عائلته سيكشف بسرعة عن المرض، القتل، الانتحار، إدمان المخدرات، العنف، السجن، والأمراض العقلية وكل الأمور التي قد تكون مرعبة لكنها قريبة منا جميعًا بشكل مذهل.

ماذا يعني في ضوء كل هذه الأشياء النسائية المنزلية أن كناوسجارد لا يعتبر النساء منافسًا أدبيًا؟ أهو خوف؟ أهو قلق أم "الفهم المضطرب" بأن القراءة والكتابة التي فسرها هو نفسه على أنها أنشطة أنثوية على نحو ما عميق، يمكن أن يتعافى فقط إذا أقصيت النساء من التاريخ الأدبي والمعركة الحقيقية للكتب الناشبة بين الرجال؟ هل كناوسجارد، كرجل وكنص، مثال على الرحلة النفسية التي شرحتها المعالجة النفسية جيسيكا بنجامين في كتابها روابط الحب؟ تقول إنه بالنسبة لبعض الأولاد تتحول الحاجة للاِنفصال عن الأم صاحبة السلطة الكاملة في الطفولة المبكرة إلى ازدراء لها ولبنات جنسها (وهي شائعة لكنها تختلف في الأولاد عن البنات). أم أنه احتقار لما هو طاغي الأنثوية في كناوسجارد نفسه. ذلك الشعور الوديع المتألم المنبعث من صميم شخصيته، والذي نقب عنه بشجاعة متفردة في كتاباته؟

أليس صحيحًا، على كل حال، أن ذات الفتاة/المرأة هذه قومت بشدة من ذات الفتى/الرجل، لأن سرد المرأة هذا هو في الواقع سرد رجل، خطورة الأنوثة الطاغية هنا تزيد الأمر ضراوة؟ لست متأكدة بصراحة، لكني أظن أن هذه الأسئلة أيقظت منابع قلق في هذه الظاهرة الأدبية المتفردة. الكتابة كرجل، أمر مارسته العديد من المرات، أمر جعلني أتعاطف بشدة مع مخاوف الرجل من الإخصاء. ثم أن الرجال ليسوا وحدهم من يقاومون الصفات المدموغة بالأنثوية. الكثير من النساء يتبنين وضعًا رجوليًا، بناء على أين يجدن أنفسهن في العالم. 

يجري تذكير امرأة فيزيائية، على سبيل المثال، بسبب اختيارها لمجال عملها، بينما الذكر الروائي يتم تأنيثه بالضرورة بسبب اختياره. بصفته متعهدًا للمشاعر والعاطفة رجولته سومت بالفعل، وإذا تناول الأكثر أنثوية من المواضيع الأنثوية، شقاء البقاء في المنزل مع الأطفال، فلقد ارتحل بعيدًا عن نهج الحارس الوحيد الذي ينتهجه بني جنسه. ومع ذلك، الحقيقة العنيدة بأن كناوسجارد رجل، مغاير الجنس، حسنت وأضافة صلابة ليس فقط على شخصيته كمؤلف، بل نصه كذلك، الذي من المفترض منا قبوله كسيرة ذاتية صريحة كمرآة. هذا وهم بالتأكيد. لا نص يعكس فينومينولوجيا الواقع. لكن التعارض الجذاب حقيقة راسخة بين صورة الروائي الصلب الوسيم ذي الهيئة الرجولية على غلاف الكتاب وبين مشاعره والمواضيع الأنثوية. على عكس الروائيين الآخرين الذين يشهرون أدبهم الخيالي بشخصيات لا تمثلهم، نسج من الخيال يعيش حصرًا في عالم الرواية، كناوسجارد في العالم وكناوسجارد في عالم الكتب مفترض أنهم واحد ونفس الشخص.

المرأة الروائية في المقابل، في مأزق مضاعف. لو كتبت قصص خيالية، شيء في غاية النعومة يصبح أكثر نعومة بسبب هويتها كأنثى، ولو كتبت عن تجربتها الشخصية في مذكرات عن الحياة المنزلية، عن تجارب إنجاب الأطفال والاعتناء بالرضع، عن اللقاءات المملة بالآباء والأمهات في مركز العناية النهارية أو الحضانة، عن نوبات السأم وثقل وطأة غياب الاستقلالية، قد تختفي دون أن تخلف أثرًا أو قد تنفى لحي الأقليات حيث توجد كتابة المرأة. وقد لا يحدث هذا. استقبال الأدب الخيالي متقلب. لو أدرك الناشرون نجاح الكتاب منذ رؤيت المخطوطة، لكان مجال النشر تجارة مختلف للغاية. 

لأنني أكتب كتب خيالية وواقعية ولدي اهتمام دائم بعلم الأعصاب والفلسفة (ما زالت مجالات للذكر)، فأنا أجسد الاِنقسام الذكوري/الأنثوي، الجاد/ليس جاد جدًا، القاسي/الرقيق في عملي الخاص. عندما أنشر ورقة في صحيفة علمية أو محاضرة في مؤتمر للعلوم، أجد نفسي في أرض الذكور، لكن عندما أنشر رواية، قطعًا أبقى في أرض النساء. يختلف الجمهور في المناسبات العامة وفقًا لذلك، من حوالي ثمانين بالمائة ذكور في العلوم والفلسفة إلى نفس النسبة من الإناث في جلسات القراءة والأحداث الأدبية. هذه الجغرافيا الجندرية تصبح سياق لعمل المرء وإدراكه. في أي مرحلة بالضبط تأتي المنافسة؟

المنافسة السافرة على شكل سجال لفظي، المزايدة وتفكيك ورقة ما بشكل مفصل من الأمور الشائعة في العلوم والفلسفة، وهي بالتأكيد ليست جديدة على الإنسانيات. قدمت محاضرة مرة عن الصدمة النفسية والأدب في جامعة السوربون في باريس، وانهالت عليَّ الأسئلة بسرعة وشدة ما أن أنهيت كلامي. أحببت ذلك. فمن جهة، في هذه العوالم المعرفة قيمة. كلما زادت معرفتك، كنت أفضل، وأنا أستمتع بالمعركة الحية للأفكار التي تحدث في هذه العوالم الفكرية المنعزلة ولكن حامية الوطيس. بالإضافة إلى أنني تعلمت الكثير من هذه اللقاءات الحيوية. لقد تغير رأيي بسببهم. القتال حول الأفكار ممتع، وإن كنت متمكنًا من المجال الذي تتحدث عنه، فالاحترام الفوري قد يكون مضمونًا وقد يُلحق فيما بعد بعروض لتشارك الأوراق وربما تنخرط في حوارات بالبريد الإلكتروني. المعرفة واستخدام هذه المعرفة للتفكير جيدًا له قوة. المخططات الضمنية والانحيازات لا تُستأصل. تختفي النساء من المشهد في هذه العوالم أيضًا، كالمرأة في قصتي التي تسعى بشدة للحصول على غرفة صغيرة لتسلط الضوء على كلماتها، لكن في الظروف المناسبة، ورقة عبقرية ولامعة أو محاضرة قد تخترق المخططات وتصبح بمثابة الغوريلا التي تقرع على النافذة.

كتابة الروايات لا تعتمد على هذا النوع من المعرفة. بعض الروائيين اللامعين متبحرين في العلم على نحو مدهش والبعض الآخر ليس كذلك. سعة الإطلاع ليست ما يجعل عملًا ما جيداً، كما برهنت بوضوح روايات لأمثال ليونيل تريلينج وإدموند ويلسون وغيرهم، وبرغم من أن فكرة الأفضل والأضخم والأجمل والأكثر عصرية حاضرة بقوة في الثقافة الشائعة، الأدبية وخلافها، لكن ألا تبدو منافسة الكلاب الشرسة في عالم الروايات أمرًا غريبًا بعض الشيء؟ على ماذا تشمل تلك المنافسة؟ كل كاتب يتوق لأن يُقدر ويُمدح، لكن كل كاتب يجب أن يعرف أن الجوائز والتهاني سهلة المنال تكون غالبًا قصيرة الديمومة. كتابة رواية لا تشابه حل نظرية فيرمات. الحل الصحيح في الرواية هو الحل الذي يشعر الروائي أنه صحيح، وإذا اتفق القارئ، ينشأ بينهم توافق. وهذا قد يكون جزءًا من المشكلة. لو الأدب هو في النهاية "ذائقة"، إذا لم يوجد "إثبات" رياضي نهائي بالتفوق أو الدونية، فقد يصبح من المهم أن نحرسه من الهَارْبيز (رسل العالم السفلي) والشيطانة السقوبة الكامنة في النموذج نفسه. وهذا يقول إن المنافسة موجودة في كل المشاريع، والمنافسة تولد الحسد والحقد، وهي سمات عالمية لكل ثقافة فرعية، علمية وفنية.

المنافسة يمكن أن تكون لعبة حية، نوع من الرقص الذهني أو رياضة تنعش المشاركين فيها. علماء النفس التطوري يدعمون فكرة أن النساء لسن تنافسيات أو أقل تنافسية من الرجال، لكن هذه الفكرة دفعتني للانفجار ضحكًا. أين كانوا يعيشون هؤلاء الناس؟ هل هم عُمِي عن طموح الأنثى ليس فقط في الوقت الحاضر بل طوال التاريخ البشري الموثق؟ هذه الفانتازيا التي تصور الرجال تنافسيين والنساء خجولات تتطلب رجوع إلى التاريخ التطوري الضبابي للصيادين وجامعي الثمار في منطقة السافانا، التفاصيل يجب تركها للتخمين. فكرة أن الانتخاب الجنسي شكل الثقافة الأدبية هي فكرة داروينية جديدة مشكوك في أهليتها. ومع ذلك، فكرة أن الذكر المنحل يتزاوج يمينًا ويسارًا مع أي أنثى تظهر في الأفق والأنثى التي تتعرض للتمييز تواصل العيش ما زالت قائمة، على الرغم من الدليل المبين بأن العديد من الفصائل المختلفة تنتهك هذه القاعدة التي من المفترض أنها منيعة.

ليس لدي فكرة عما إذا كان كناوسجارد يشير لمصدر دارويني عن المنافسة في مقابلته معي. قد يكون كذلك. أُحب داروين كمفكر وكاتب، ولا أختلف أننا كائنات متطورة، لكن الداروينية الجديدة لعلم النفس التطوري هجين مثير للشك من داروين ونظرية العقل التنافسي، هجين كان رائجًا في النرويج قبل بضع سنوات من لقائنا بسبب برنامج تلفزيوني شهير للغاية، شوهد كثيرًا، ونوقش كثيرًا، وقد يكون الكاتب قد شاهده أو سمع حديثًا عنه. في هذا الفكر، تستخدم المنافسة الذكورية لشرح قائمة طويلة من الفروق الجنسية بسبب صفات منتخبة طبيعيًا. إنه مثال استفزازي لما يسميه ريتشارد ليونتين "البيولوجيا كأيديولوجيا". على الرغم من أنه قد يكون مصدر راحة أن تشرح الحاجة للبقاء بمفردك والتحرر من أعباء رعاية الأطفال أو الرغبة العارمة للكم كُتاب آخرين في المنطقة الأدبية كسمة محددة جينيًا، إلا أن نقاط ضعف هذه النظرية عديدة، وأصبحت أضعف مع مرور السنين.

النموذج المعياري الشامل للعقل في علم النفس التطوري واهٍ في أفضل حالاته، نُقض ببحوث علم الأعصاب التي تشير إلى أن العقل ليس مجموعة "أسلاك صلبة" لنماذج منفصلة صممها الانتخاب الطبيعي. الحمض النووي هو مادة خاملة تعتمد على بيئتها الخلوية، ويعتمد التعبير الجيني على قصة الكائن الحي ككل، بتعبير آخر، ما يحدث له. لكن حتى الأفكار السخيفة لها قوة، وتصيب عدَوتها الإدراك. أن تنظر لكاتبةٍ في عينيها وتصرح بكامل وعيك أنها وكل امرأة أخرى عاشت على الكوكب "ليست منافسة" (مع احتمالية اِستثناء جوليا كريستيفا) لهو تعليق صاعق على أقل تقدير.

اللعبة إذن وفقًا لكناوسغارد تنتمي للرجال، وهنا القصة تصبح حزينة حقًا لكلا الجنسين من وجهة نظري. يكتب مايكل س. كيميل في مقالته التهكمية البليغة، "الرجولة كرهاب من المثلية: الخوف والعار والصمت في تكوين الهوية الجندرية"، «الرجال يثبتون رجولتهم في أعين الرجال الآخرين». مكانة الذكر وكبريائه وكرامته تدور حول ما يظنه الرجال الآخرون. النساء لا يحتسبن. اِقتبس كيميل من ديفيد ماميت، الكاتب الذي صور عوالم من الرجال فقط أكثر من مرة: «تمتلك النساء، في عقول الرجال، مرتبة متدنية في السلم الاجتماعي لدرجة أنه من اللاجدوى أن تُعرف نفسك من منظور اِمرأة». من هذا المنظور الضيق، يتجاهل الرجال أو يقمعون كل النساء لأن فكرة أنهن قد يكون منافسات من منظور الإنجازات الإنسانية غير واردة. مواجهة اِمرأة، أي اِمرأة، هي إخصاء بالضرورة.

يكتب كيميل: «رهاب المثلية هو الخوف من أن الرجال الآخرين سيزيلون أقنعتنا، ويكشفون لنا وللعالم أننا لا نرتقي للمستوى، أننا لسنا رجالًا حقيقيين». هذه المقولة قد تصف في الواقع الرعب والإهانات المستمرة في "كفاحي". في العالم المصاب بجنون العظمة والمحكم بغرابة من قِبل الرجال البيض المغايرين جنسيًا، السر القذر، وفقًا لكيميل، هو أن نصف الإله المُنَصَّب لا يشعر بكل هذه القوة. في المقابل، إنه محفوف بالقلق، مشاعر ولدت من محاولة اِستبقاء مكانة غير منيعة، نوع متنامٍ من النفس الزائفة. مثل «مشاعر الرجال الذين نشأوا يؤمنون بأحقية شعورهم.. بالقوة، لكن لا يشعرون بها». الرجل الذي يسحب حقيبة سفره بدلًا من أن يحملها، يجازف بأن يصبح المرأة الضعيفة أو الرجل الناعم. إنه ذاهب في رحلة إلى الأرض المخيفة الملوثة الخاصة بالنساء والمثليين، حيث رجولة الرجل الحقيقة قد تفضح كواجهة مهلهلة.

المفارقة هي أن الجانب المخفي لقوة الذكر الأبيض، للهو ومديح النفس والتربيت على الظهر بقوة ومظهر الملاكم هو الهشاشة الشديدة. كل إنسان معرض لأن يُجرح. إذا كانت المشاعر التي تنتج عن الجروح والخدوش الحتمية التي تتراكم خلال مسيرة الإنسان الحياتية تُفهم على أنها "أنثوية" إذن يبدو لي أننا جميعًا مشوشون بشكل فظيع. الفرق بين هشاشة الذكر والأنثى هي أنه في حالة المرأة هذه الصفة تتلاءم مع مخططات إدراكنا بسهولة أكبر من تلائمها مع هشاشة الرجل.

لكن الإهانات ترد أكثر على النساء لأنهن لا يعتبرن منافسات ويعاملن كالأشباح في الغرفة. بالإضافة لأنهن عندما يترقين إلى مكانة المنافس الجاد، عندما تقرع الغوريلا المؤنثة النافذة ويوجه نحوها الإنتباه الكامل، الإستجابة قد تكون مبهجة ومرحبة، لكنها قد تكون أيضًا شريرة. عالمة أعصاب عبقرية وصغيرة وجميلة قابلتها في مؤتمر أخبرتني قصة إهانتها على الملأ على يد زميل بارز يكبرها في السن بكثير. أظن أن هذا الرجل لم يحتمل فكرة أن الذكاء الهائل الذي يهدد مكانته وصل إلى المشهد على هيئة طرد متجسد في أنثى بهية. قسوته غير المبررة أمام جمهور عريض كانت أكبر من تحملها. بكت. الدموع على كل حال مفهومة، تتلاءم بمثالية مع المخططات الضمنية التي تُوجِه إدراكنا. النساء لا يَحتملن. يتهاوين. نصيحتي العملية البحتة: لا تتحمسي. لا ترفعي صوتك. اِكظمي الغيظ. اِكظمي الغيظ بشدة، لكن إياكي والبكاء.

بكى كناوسجارد كثيراً في "كفاحي". دموعه ليست فقط "غير رجولية،" إنها هدم للرواقية القوية التي تتغلغل في الثقافة النرويجية. أعرف هذا، لقد ترعرعت تحت ظلها. يجب أن يكون لديك سبب جيد ولعين للبكاء: موت شخص عزيز، حادثة فظيعة خرجت منها مشوه وتنزف، مرض ألمه مبرح، وحتى في هذه الحالات، هذا النوع من إظهار المشاعر مقبول في المساحات الخاصة، ليست العامة بالتأكيد. عندما نُشر "كفاحي" في النرويج، كان الأمر أشبه بأن يتعرى رجلٌ بالغ ثم يمشى لوسط المدينة ويعتلي دكة ليولول وينتحب على مرأى جميع المواطنين. وفي حالة كناوسجارد، الأمر أسوأ لأن العامة متطلعة على الأسباب، ولم تكن دائمًا ذات شأن وتستحق النشيج. منع الدموع قد يكون صعبًا على طفلٍ حساس. أعرف هذا أيضًا، لقد كنت فتاة. كارل أوفه كناوسجارد يعرف لأنه كان فتًى صغيرًا حساسًا، وهذا قد يكون أصعب. الكرامة والصلابة يجب أن تقود الروح النرويجية. النرويج اِعتادت على أن تكون ثقافة جافة العينين دومًا. مع ذلك، كناوسجارد الخاص بكناوسجارد، بطل ملحمته الشخصية مفرطة الطول، هو مستنقع حقيقي من كثرة البكاء. يالمفارقات الساخرة لعالم الأدب. 

عندما أعود بذاكرتي لتعليق "لا منافسة"، أفترض أنني يجب أن أشعر بالإهانة أو الاِستياء بشدة، لكن ليس هذا ما أشعر به بتاتًا. ما أشعر به هو التعاطف والشفقة على الشخص الذي أدلى بالتعليق، لا شك في صدقه، ومع ذلك فهو سخيف فعلًا. آلاف الصفحات من فحص الذات لم تُنوره حول "المرأة" بداخله على ما يبدو. «ما زال بداخلي» لا تكفي لملاحظة أن نصًا أنثويًا من قبل رجل ونصًا أنثويًا من قبل امرأة يمكن تلقيهما بشكل مختلف أو لتثير الانتباه للأرقام التي تمثل انعدام العدالة الجنسية في عالم الكتابة. إنه أمر أساسي وجوهري أن يصبح الرجال والنساء واعين بالكامل لما هو على المحك، أن يكون واضحًا بشكل جلي لكل فرد منا يهتم بالرواية أن هناك شيئًا سخيفًا وخبيثًا في الوقت ذاته يعمل في عادات قراءتنا، أن مصير العمل الأدبي لا يمكن أن يحدد بجملة (لا منافسة) المرفقة في عقد اجتماعي باطل لأفراد الجنس نفسه ومكتوب تحت رعاية الخوف، إن جملة كهذه لا يمكن أن تكون أقل من "جنون".

وبذلك أعود لبداية هذه المقالة ولكلمات شخص لم يكن عرضة للتعليقات السخيفة: «لحسن الحظ أننا لا نعتمد على النظرية لنثبت أن الخيال هو أحد الأقسام الأدبية التي تتمكن منها النساء، بعد زملائهم الرجال الطيبون المساوون لهم كليًا».


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها