بالنسبة لفريري التوعية النقدية هي من أهم غايات التعليم. وبيعرفها إنها مسار للتحرُر بيبدأ من قدرة الإنسان ككائن واعي بذاته والعالم من حواليه انه يقف على مسافة من العالم ده ويفهم وضعه ووضع السياق والتاريخ اللي هو فيه

التوعية النقدية

مقال ناريمان مصطفى


باولو فيريري
باولو فيريري

"ليه الجنوب تحت؟" و"ليه السما زرقا؟" كانوا سؤالين أطلقهم مشروع "علامة استفهام" ولف بيهم محافظات مختلفة فى مصر عشان يسأل الناس السؤالين ويوثق إجاباتهم وينشرها فى فيديو على اليوتيوب. فاكرة إنى سألت أسئلة شبه دى فى المدرسة أو البيت وأنا صغيرة زي مثلاً: "هو ليه القلب مايل ناحية الجنب الشمال؟" أو "ليه بنت عمو حارس العمارة مش بتيجي معايا الصبح نفس المدرسة؟" بس عادة الإجابة كانت بتكون "بطلى لماضة وطولة لسان" أو "هو كده وخلاص". 

فتح المجال للتفكير الموّسَع عن أى وضع بيبدأ دايماً من السؤال بتاع "ليه" بشكل مُتسلسل. يعنى مثلاً لما نقول "التعليم بايظ"، فهل التعليم عشان الطلبة مش شاطرة ولا المدرسين معندهاش ضمير ولا المدارس ما فيهاش مصادر للتعليم ولا الدولة ما عندهاش فلوس عشان تصرف على التعليم؟ ولو الدولة ما عندهاش فلوس تصرف على التعليم فبرضه السؤال ليه ما عندهاش فلوس للتعليم؟ ولو التعليم ما ينفعش فى وطن ضايع.. فليه الوطن ضايع؟

العملية دى من التساؤل المستمر عن طريق التحاور مع الناس عن الأشياء اللي قد تبدو إنها "هى كده وخلاص" أو "طلعنا لقيناها كده"، وتطوير السؤال مع كل إجابة جديدة لمحاولة فهم أشمل وأعم لوضع معين، هي عملية بيطلق عليها التربوي "باولو فريري" اسم "التوعية النقدية" conscientizacao - conscientization . باولو فريري كان مُعلم وتربوي ومفكر وعامل مجتمعي برازيلي، وبدايته كانت كرجل دين في الكنيسة. كان معظم شغله بين فترة الستينات وأوائل التسعينات. يعنى فترة سياقها فيه تحرُر من الاستعمار وانقلابات عسكرية وتحوّل لديمقراطية وكان جزء من حركة ومجموعة من الناس اسمها "لاهوت التحرير" بتحاول إعادة التفكير في الدين بشكل يخدم العدالة الاجتماعية وتحرير البشر. وفى نفس السياق أطلق مدرسة تربوية فى عالم التعليم اسمها "التربية النقدية" واللي من خلالها لف قرى البرازيل واشتغل مع الفلاحين فى حلقات محو أميّة ولكن مش بس عشان يتعلموا ألف باء، لكن عشان يتعلموا ألف باء في سياق من التساؤل والتحاور عن وضعهم والظلم اللى بيتعرضوا له، وده اللي بيسميه فريري عملية تطوير الوعي النقدي. 

في 1970 كتب فريري تلات مقالات بعنوان "التوعية النقدية: العمل الثقافي من أجل الحرية". بالنسبة لفريري التوعية النقدية هي من أهم غايات التعليم. وبيعرفها إنها مسار للتحرُر بيبدأ من قدرة الإنسان ككائن واعي بذاته والعالم من حواليه انه يقف على مسافة من العالم ده ويفهم وضعه ووضع السياق والتاريخ اللي هو فيه ويعبر عن أزماته بإبداع، وفي نفس الوقت ياخد فعل يغيّر في العالم ده. العملية دي ما بتحصلش بين يوم وليلة ولا هي وجهة معينة بنوصلها ونقف عندها. هي مسار بنمشيه ونفضل نطوّر فيه. وبناء عليه، قسّم فريري مساحات الوعي اللي بنفسر بيها العالم حوالينا لأربعة: الوعي السحري والوعي الساذج والوعي المتعصب والوعي النقدي.

الوعي السحري هو اللي الناس بتفسر فيه أحوالها وبتفهم أزماتها عن طريق تعويلها كلها على قوة مجهولة وخفية، زي مثلاً السما زرقا عشان زي ما المثل الشعبي بيقول "أبو خيمة زرقا"، بمعني إن هي أصلاً سودا، وربنا بيفرش قماشة زرقا عليها الصبح ويشيلها بالليل. وبالمثل إننا نقول الناس الفقرا فقرا عشان "آهو ده المقدر والمكتوب" من غير ما نسأل هو مين اللي كاتبه وكاتبه ليه. 

الوعي الساذج هو اللى بنبدأ من خلاله نُدرك إنه فيه مُسبب للأشياء ولكن غالباً بيتركز المُسبب ده فى الفرد وقدراته والدواير اللى حواليه، يعني مثلاً التعليم فاشل عشان الطلبة مش شاطرة، والفقرا فقرا عشان مش بيسعوا كفاية انهم يكونوا اغنيا، وانهم أكيد لو سعوا حالهم هيتغير. وبيبدأ صاحب الوعي الساذج انه يشوف هو مين اللي ناجح في مجتمعه بمقاييس المجتمع ويقلده. يعني مثلاً لو اللي ناجح هو اللي بيتخرج من مدارس أجنبي وبيشتغل فى وظايف بعينها وله طريقة معينة فى العيشة زي اللبس اللى بيلبسه والأماكن اللي بيخرج فيها والمزيكا اللي بيسمعها واللغة اللي بيتكلمها، يبقي يبدأ صاحب الوعي الساذج بتقليد ده تماماً ويشوف انه هو ده السعي اللي هيبدل حاله بدون السؤال عن الفرق بين الظروف اللي متوفرة له واللي متوفرة للشخص اللي المجتمع بيعرفه انه ناجح. 

أما صاحب الوعي المُتعصب، ففريري بيعرفه على انه الشخص اللي عنده موقف من السيناريو اللي المجتمع بيفرضه عليه وبيشوف انه عايز يكون له وجهة نظر تانية، بس بيقرر يبني وجهة النظر دي من خلال الانتماء لجماعة أو ايديولوجية معينة بديلة عن المسار العام. وجهة نظر الجماعة البديلة بتكون هى مركز تفسير كل شيء بالنسبة للشخص ده وبيكون متعصب لها ومرونته فى تقبل الأشياء المختلفة تكاد تكون معدومة. يعني مثلاً التعليم بايظ بس عشان مش بنتعلم فيه الأفكار اللى الجماعة اللى هو تبعها بتروّج لها سواء الأفكار دي يمينية ولا يسارية ولا علمية ولا أدبية. 

بالنسبة بقى لصاحب الوعي النقدي، فبيبدأ يلاحظ ويستعجب ويسأل وما يقبلش باللي المجتمع بيقول عليه مُسلّمات أو الإجابات الجاهزة المتعبية لكل موضوع، وبيبدأ يبص على جذور المشاكل وأصلها جي منين. ومع تطوّر الوعي ده لا بيقبل شيء ولا يرفضه كله علي بعضه كده، ولكن بيفلتره ويشوف إيه اللي منطقي منه وايه اللي مش منطقي، وبيقبل يغير رأيه مع مُدخلات جديدة.

فريري بيشوف إن مش كل الأفراد عندها نفس مستوى الوعي في كل جوانب حياتها. مثلاً ممكن الواحد يكون قادر يفكر فى وضع التعليم بشكل نقدي، ولكن لما بيحاول يفهم الفقر مثلاً، يشتغل الوعي السحري عنده وتقفل معاه ويرفض التفكير فيه تفكير نقدي. فريري كمان بيشوف إن مساحات الوعي دي مش بس مساحات فردية، إنما كمان مساحات مجتمعية، يعني فيه مجتمع بتغلب عليه مساحة وعي معينة سواء سحرية أو ساذجة أو متعصبة أو ناقدة.

مساحات الوعي مش بس بتأثر على فهمنا لطبيعة الأشياء ولكنها بشكل مباشر بتأثر علي محاولاتنا لعمل تدخل لإصلاح الأشياء. يعنى لو كل شيء مقدر ومكتوب، يبقي مفيش داعي نتدخل ودع الخلق للخالق، ولو الناس هي السبب فى كل حاجة وسعيها هو اللي هيؤدي لحتمية الوصول، يبقي يللا نعمل "توعية" (يعنى نعرّف الناس) بالطريقة الغلط اللي عايشين بيها حياتهم ونقلب البلد ماكينة تدريبات وكورسات تنمية بشرية عشان كل فرد يبقى أفضل ما يمكن أن يكون عليه ويطلق قوة عقله الباطن ويستاهل هذا الوطن العظيم اللي إحنا محظوظين بإننا عايشين فيه، وكأن فيه طريقة صح للعيشة حد حاططها إحنا مش عارفينه والمفروض نعرف و"يتم توعيتنا" بالطريقة الصح دي. 

أما في مسار التوعية النقدية، فعشان نتدخل للإصلاح، وبحسب فريري فلازم نمشي في مسار يبدأ بفتح مجال للتساؤل حوالين الوضع القائم، والوضع اللي وصلنا له وايه اللي وصّلنا له من عوامل مش بس فردية ولكن الأهم منهجية أو مؤسسية أو تاريخية، وعمل ده من خلال تحادث وحوار مستمر بين الأفراد خاصة الأفراد اللي في أدنى الهرم الاجتماعي وإنهم يعيدوا تعريف معنى العدالة لنفسهم وشكل العالم اللي عايزينه.  

يعني مثلاً بنت عمو حارس العمارة ما كانتش بتيجي معايا نفس المدرسة اللي بروحها كل يوم الصبح واللي بتكلم فيها إنجليزي مش عشان أنا لمضة ولساني طويل ولا عشان يا حرام عمو معهوش فلوس، إنما عشان أسباب تانية كتير، منها على سبيل المثال إن التعليم بيُستخدم كأداة لإعادة إنتاج النظام الطبقي وكل طبقة ليها مدارسها اللي تحفظ للأهالي في الطبقة دي بإن أولادهم ما يقابلوش الطبقات اﻷقل وإن المدرسة لو قبلت الطبقة الأقل، هتخسر ولاد الناس الأغنيا أو الطبقة المتوسطة اللي بتدفع فلوس أغلى في المدرسة. طب وهو ليه فيه طبقية؟.. إلخ. المهم نكمل نسأل "طب وليه الوضع كده؟" ومن هنا يرتبط السؤال والفهم لجذور الأمور بالفعل ومحاولاتنا للتدخل المبنية على السياق والعوامل الهيكلية المؤثرة فيه مش بس طبيعة الأفراد.