العديد من نشاطات الحياة، لا تُتعلم بالعادة، وإنما بالانخراط المتواصل والمستمر في عمليات متضمنة لنواح متعاكسة ومتداخلة.
مقال جوليان تشانج
ترجمة فاطمة عاهد بدر
نشر على موقع aeon سبتمبر 2020.
جوليان تشانج أستاذة مساعدة للفلسفة في جامعة يورك في تورنتو ومحررة مساعدة في مجلة دراسات أوكسفورد للابستمولوجيا.
عندما كنت في الخامسة عشر من عمري، توفى بغتةً أحد أقرب الأصدقاء إليّ. نقل الخبر لي مدرس الفيزياء بعد أن انتهيت من تأدية أحد الامتحانات، وكنت قد قضيت طوال مدة ذلك الامتحان أتساءل عن حجة غياب صديقي هذا. ما زلت غير قادرة على وصف شعوري آنذاك؛ كان شعورًا أقرب للصدمة والأسى والحيرةِ معًا. قضيت عدة أيام بلا نوم وعدة أيام أخرى في حالة ذهولٍ لا أعرف بما أفكر، ناهيك بما عليّ فعله.
وبعد مرور خمسة عشر عامًا، عندما كنت في كلية الدراسات العليا، توفى لي صديقٌ آخر، كان رجلًا أحببته كثيرًا. أتذكر اكتشافي للأمر عبر رسالة نصية. وحيث أن استجابتي الأولية لم تختلف كثيرًا عنما قبل، إلا أنه كان هنالك فارق ملحوظ في ما شعرت به لاحقًا. وهو أنه ومع كوني مرةً أخرى مذهولة وحزينة، إلا أنني كنت أقل حيرة مما كنت عليه وأنا مراهقة. كان ما زال بإمكاني التفكير، وإنجاز ما عليّ من مهام. تبين ليّ أن قدرتي على التعايش مع الفقد قد تحسنت كثيرًا.
ولربما تعتقد أن سبب هذا الاختلاف واضح —فقد كنت أكبر سنًا، ولدي تجربة سابقة في مواجهة الفقد. لكن التجربة الخالصة وحدها لا تكفي: ما يهم هو إذا ما كنا نتعلم من هذه التجربة أم لا. والتجربة قد تتضمن الكثير لتعلمه، خاصة إذا ما كانت تجربة في صعوبة وعسر أن تفقد شخصًا عزيزًا عليك. ومن بين كل الأشياء التي يمكن أن تتضمن عليها، يمكنها أن تتضمن الإبداع.
قد يبدو هذا الادعاء مثيرًا للدهشة. ففي النهاية، غالبًا ما يكون الإبداع مرتبطًا بفكرة المبدع العبقري المنعزل، وهو شخص لا يبرع فقط فيما يفعله، وإنما يغير العالم من خلاله. أضف إلى ذلك أنه حتى وإن لم نقيد أنفسنا بهذا المنظور الرومانسي أو البطوليّ إلى طبيعة الإبداع وقيمته، فإنه على الأقل عادة ما يُعتقد بأن الإبداع هو سعي إلى الابتكار أو الأصالة.
وهذه النظرة إلى الإبداع ليست عامة، خذ عندك نصوص جوانغ زي (莊子) الصينية الكلاسيكية، تمدنا هذه النصوص الفلسفية والأدبية برؤية أخرى. ووفقًا لأحد التأويلات، فإن الإبداع غير متصورٍ على أنه سعيٌ إلى الابتكار أو الأصالة، وإنما هو سعي إلى التكامل. بدلاً من السعي خلف شيء جديد، يُسعى نحو شيء يتآلف جيدًا مع الحالة التي هو جزء منها.
قصة بِيان صانع الدواليب، من أحد فصول جوانغ زي المعروف بتيان داو بما معناه "طرق الجنة" تصور بفاعلية هذا المنظور إلى الإبداع. والقصة بإيجاز، أن صانع الدواليب المعروف ببِيان أخبر دوقًا بأن كتاب العبر في قصص الأولين الذي يقرأه ما هو إلا "خثارٌ وبقايا"، فطلب الدوق ثائرًا تفسيرًا لقوله. أجاب صانع الدواليب بأنه، بالنظر إلى صنعته، فإنه يصنع ما يصنعه فقط لأنه نمّى فيه "مهارة" لا يمكن أن تحول بأسرها إلى كلمات.
إذا كانت طرقات مطرقته خفيفة جدًا، فإن إزميله ينزلق ولا يترسخ. وإذا كانت شديدة جدًا، فإن يعلق ولا يتزحزح. قال: 'لا غاية في الخفة، ولا غايةً في الشدة —يمكنك أن تمسكه يدك وتشعر به في عقلك، قد بلغت السبعين عاما وإلى عمري هذا ما زلت أنقر الدواليب بالإزميل. عندما مات الأولون، أخذوا معهم الأشياء التي لا يمكن أن تتوارث. لذا فإن ما تقرأه الآن لابد من أنه لا شيء سوى 'خثار وبقايا' الأولين".
فمع كونه مجرد حِرفيّ "وضيع"، إلا أنه كان لديه شيء مهم ليعلمه للدوق. كان قد أمضى سنينًا عديدة في الصناعة اليدوية للدواليب، مما خلق عنده قدرة على العمل والإنجاز في حرفته على نحو منتام لا يمكن أن يصور في قائمة خوارزمية من تعليمات. يمكنه استشعار أدق الخصائص في الخشب وأدواته ليصنع ما يريد —وهو شيء لا يمكن تحقيقه باتباع التعليمات.
فإن العبر والمواعظ لعيش حياة نبيلة ليست سوى محض "خثار" إذا كان ينظر إليها على أنها مجرد مجموعة من التعليمات التي يمكن للمرء قراءتها ثم اتباعها ببساطة، وإنما ينطوي عيش حياة نبيلة على ما هو أكثر من ذلك؛ أي أن هناك تكامل تلقائي بين الشيء وعكسه كالخفة والشدة، كما ينطبق هذا على المتوارث والمكتسب، السلبي والإيجابي، وحتى المثمر وغير المثمر —كل هذا قد يسري على صناعة الدواليب، وعلى أي شيء آخر. بعبارة أخرى، يشتمل عيش حياة نبيلة على الإبداع.
ونوعية الإبداع هذه لا يرى أنها من قبيل سعى إلى الابتكار أو الأصالة. فإن نسب الإبداع إلى صانع الدواليب لم يكن لحداثةٍ أو أصالةٍ فيه أو في صنعته. ولكن لقدرته الدقيقة على صناعة الدواليب في تكامل وائتلاف. هو ما لا يتعلمه المرء بكثرة الاستحضار، وإنما بالانخراط المتواصل والمستمر في نشاط عفوي.
تمكننا قصة صانع الدواليب من أن نفهم على نحو أفضل سبب اعتبار التعايش مع الفقد مسعىً خلّاقًا. فعلى الرغم من وجود وفرة من الكتب التي تتضمن نصائح عن كيفية التعايش مع الفقد، إلا أنه، وفي النهاية، اجتهاد شخصي -كصناعة الدواليب- لا يمكن استخلاصه في مجموعة منسقة من الارشادات. ولكي نبلغ ما نريد خلقه (كخلق إحساس بالقناعة أو الطمأنينة)، فإنه يتوجب علينا الاستجابة إلى أدق تفصيلة في حالتنا (من حيث أفكارنا، مشاعرنا، وظروفنا بشكل عام). وهو ما لا يمكن أن يحقق باتباع زمرة من الإرشادات، حتى وإن قمنا بإعداد قائمة تحسبيّة من "التوجيهات" المرنة والمتنوعة بينما نمضي قدمًا.
وليس وكأننا بينما نخوض في أدق التفاصيل المتعلقة بأفكارنا، مشاعرنا، وظروفنا، نفعل شيئًا مميزًا عما فعله سابقون كثر ممن أرادوا تعلم كيفية التعايش مع الفقد. إلا أنه -كما قلت سابقًا، كصناعة الدواليب- نشاط إبداعي، ما يعني أنه يتضمن تكاملًا تلقائيًا بين الشيء وعكسه كالتحسر والاغتباط، السخط والرضى، الشقاء والسرور. وعلى هذا، فكذلك القدرة على التعايش الموت في تكامل وائتلاف لا يمكن أن يتعلمها المرء بالعادة، وإنما بالانخراط المتواصل والمستمر في نشاط عفوي. وبالفعل، يمكننا الفصل الثامن عشر من أعماله جوانج زي المعروف بـ(至樂) أي "السعادة الخالصة" أو "البهجة الخالصة" من أن نستنتج أن حتى جوانغ زي نفسه انخرط في عملية إبداعية مماثلة بعد وفاة زوجته.
وقد تشتمل هذه النظرة إلى الإبداع على عدة مزايا أخرى.
أولًا، وللمفارقة، فحتى وإن نظرنا إلى الإبداع على أنه سعي إلى الابتكار، فالإعراض عن الابتكار قد يؤدي في النتيجة إلى إبداع أجلّ، وهذا لأن السعي إلى الأصالة قد يكون ذو نتيجة عكسية عندما يتعلق الأمر بتحقيق نتائج فريدة بحق. فإننا عندما نركز جهودنا على تحقيق شيء مبتكر، ينتهي بنا المطاف باستكشاف نطاق الاحتمالات المعتقد بأنها لا بد وأن يؤدي إلي النتيجة المرجوة، ما يجعلنا نغفل عن الاحتمالات الأخرى العديدة التي قد تفضي إلى شيء مبتكر.
وعلى هذا فإن استكشفنا لفكرة أن الإبداع ليس سعيًا إلى الابتكار لا يعني بالضرورة أن نتخلى بالكامل عن الابتكار، وإنما أن نراها كأحد النتائج الممكنة من بين عدةٍ أُخر. وإن هذا التوسع في الاحتمالات يجعل إدراك الإبداع (أيًّا كان ما يتألف منه) أكثر سهولة.
ثانيًا، التركيز على التكامل يشجعنا على فهم أن عناصر الإبداع تكون مرتبطة وناتجة بشكل أساسي عن البيئة المحيطة. وهذا أيضًا يوسع نظرتنا وتعريفنا للإبداع، ما يتيح لنا أن نتخيل الإبداع يُبتغى في نطاق أوسع من النشاطات. وفي النهاية، فإن العديد من نشاطات الحياة، لا تُتعلم بالعادة، وإنما بالانخراط المتواصل والمستمر في عمليات متضمنة لنواح متعاكسة ومتداخلة. ومن الأمثلة الإضافية لحديثي العهد بهذا المفهوم؛ تفاهم الفرد مع عائلته، بنائه لعلاقة مع أحد زملائه، وحتى تنظيم الفرد لشؤونه المالية.
إن هذه النظرة البديلة إلى الإبداع تمكننا من رؤيته كظاهرة اعتيادية يمكننا جميعًا أن نكون جزءًا منها –بدلاً من أن نراه كهبة، أو موهبة استثنائية يتمتع بها أفراد قليلون. وتمكننا من استيعاب فكرة أن يعيش المرء بإبداع: أي أن يعيش المرء حياة متكاملة وعفوية، حيث تتجانس وتتآلف جميع نواحي الحياة المتعاكسة لتتكشف عن شيء منمق وغني.