قبل لقاء ميج الأول مع الملكة مباشرة، تذكرت قصة شهيرة عن أمي حين حاولت معانقة الجدة. لقد كان في الواقع اندفاعًا أكثر منه عناقًا، إذا صدق شهود العيان؛ انحرفت الجدة لتجنب العناق، وانتهى الأمر برمته بشكل محرج للغاية، بعيون متجنبة وتذمر واعتذارات.

اقتباسات من كتاب "الاحتياطي" للأمير هاري

الاقتباسات من اختيار وترجمة رولا عادل رشوان


الأمير هاري، عن CNN

"الماضي لم يمت.. بل إنه حتى لم يصبح ماضيًا بعد..".

ويليام فوكنر

اتفقنا أن نلتقي بعد انتهاء الجنازة ببضع ساعات، في حدائق فروجمور[1]، بالقرب من الآثار القوطية القديمة. وصلت هناك أولًا. نظرت حولي، لم أر أحدًا.

راجعت هاتفي. لا رسائل نصّية، لا بريد صوتي. "ربما سيتأخران بعض الشيء". هكذا فكّرت بينما أتكئ على الجدار الحجري. تركت هاتفي بعيدًا وقلت لنفسي: "ابق هادئًا". كان الطقس مثاليًا في شهر أبريل. لم نعد في الشتاء تقريبًا، ولم نصل للربيع بعد. وقفت الأشجار عارية، لكن الهواء كان خافتًا. السماء رمادية، بينما أينعت زهور الزنبق. الضوء في المكان شاحب، لكن مياه بحيرة الإنديجو تلألأت عبر ممرات الحدائق. فكّرت كم يبدو كل شيء جميلًا. وكم يبدو حزينًا أيضًا. في يوم من الأيام، كان هذا بيتي ومقرّي الأبدي. ذلك الذي ثبت في النهاية، أنه لم يكن سوى محطة أخرى قصيرة الأجل.

عندما هربت أنا وزوجتي من هذا المكان، خوفًا على سلامتنا العقلية والجسدية، لم أكن متأكدًا متى سأعود. كان ذلك في يناير عام 2020. الآن، بعد خمسة عشر شهرًا من ذلك التاريخ، ها أنا ذا، بعد أيام من ذاك الصباح الذي استيقظت فيه لأجد 32 مكالمة فائتة تبعتها محادثة قصيرة واحدة مع الجدّة: "هاري ... رحل الجد". اشتدت الريح وأصبحت أكثر برودة. انحنيت بكتفي، وفركت ذراعي، وندمت على ارتداء قميصي الأبيض الخفيف. تمنيت لو لم أغير البذلة التي ارتديتها في الجنازة. وددت لو فكرت بإحضار معطف. أدرت ظهري للريح ورأيتها، تلوح في الأفق خلفي، بقايا البنايات القوطية العتيقة. التي لم تكن في الواقع أكثر قوطية من "الميلينيوم ويل".[2] تلك التي أفادها وجود مهندس معماري ماهر بعض الشيء، وبعض الخبرة الفنية، هكذا تجري الأمور هنا، لا أكثر. هكذا فكّرت.

انتقلت من جوار الجدار الحجري إلى مقعد خشبي صغير. جالسًا، فحصت هاتفي مرة أخرى، نظرت نحو أعلى وأسفل ممر الحديقة. أين هما؟ عاصفة أخرى من الرياح. أمر غريب، لقد ذكّرتني بجدّي. ربما بسلوكه اللامبالي، أو حسه الفكاهي الحاد. تذكرت حادثة مهمّة جرت قبل سنوات. سأله أحد رفاقي، محاولًا فقط بداية محادثة معه، عن رأيه في لحيتي الجديدة، والتي أثارت قلق الأسرة وبعض الجدل في الصحافة. "هل يجب على الملكة إجبار الأمير هاري على الحلاقة؟" نظر جدي إلى رفيقي، ونظر إلى ذقني، وابتسم ابتسامة شيطانية. "هذه ليست لحية!" ضحك الجميع.

"لحية أو لا لحية، تلك هي المسألة!" لكن على كل العموم، لنترك الأمر للجد للمطالبة بلحية أطول. دعها تنمو ودعنا نرى بعض شعيرات فاخرة من سلالة الفايكنج اللعينة! فكرت في آراء الجد القوية، وهواياته العديدة - قيادة العربات، والشواء، وضرب النار، والطعام، والبيرة. فكّرت في أن تلك ربما طريقته في الاحتفاء بالحياة. كان لديه هذا القاسم المشترك مع والدتي. ربما كان هذا هو السبب في أنه كان معجبًا جدًا بها. حتى قبل أن تصبح الأميرة ديانا بوقت طويل، عندما كانت مجرد ديانا سبنسر، معلمة روضة أطفال، وصديقة سرية للأمير تشارلز، كان جدي هو المدافع الأهم عنها. قال البعض إنه توسط في زواج والديّ. إذا صحّت تلك الأقاويل، يمكنني أن أفكر فيه باعتباره السبب الرئيسي في وجودي. لولاه، ما كنت أنا، ولا أخي الأكبر.

من ناحية أخرى، ربما ظلّت والدتي على قيد الحياة إن لم تتزوج أبي…. تذكرت محادثة قريبة بيني وبين الجدّ، أنا وهو فقط، بعد فترة وجيزة من بلوغه السابعة والتسعين. كان يفكر في النهاية. قال إنه لم يعد قادرًا على متابعة هواياته. ومع ذلك، فإن أكثر ما يفتقده هو العمل. قال إنه بدون عمل ينهار كل شيء. لم يبد حزينًا، فقط مستعدًّا. "عليك أن تدرك حين يحين وقت الرحيل يا هاري". ألقيت نظرة خاطفة الآن على المسافة، نحو الأفق الصغير بين الآثار بجانب فروجمور.

المدفن الملكي. مكان الراحة الأخير للعديد من أفراد العائلة، بما في ذلك الملكة فيكتوريا. وكذا واليس سيمبسون المغضوب عليها، وزوجها إدوارد الذي يشاركها نفس الصفة، الملك السابق وعمي الأكبر. بعد أن تخلى إدوارد عن عرشه من أجل الزواج بواليس بعد أن فرا من بريطانيا، شعر كلاهما بالقلق بشأن عودتهما النهائية – وصار كلاهما مهووسًا بدفنه هنا. ووافقت جدتي الملكة على مناشدتهما. لكنها وضعتهما على مسافة من أي فرد آخر من العائلة، تحت شجرة عالية منحنية. ربما هي إشارة أخيرة من إصبع رافضة. ربما منفى أخير. تساءلت كيف شعور واليس وإدوارد الآن بكل ما حدث لهما. هل كان الأمر يستدعي كل هذا القلق في النهاية؟ فكّرت إن كان قد خطر لهما ذاك التساؤل على الإطلاق. هل هما الآن سابحان في عالم حرّ بينما لا يزالان يفكّران في خياراتهما السابقة، أم أنهما الآن يقطنان اللامكان بينما يفكران في اللاشيء. هل يمكن أن يكون كل شيء قد ذهب سدى بالفعل؟ هل الوعي، كما الوقت، ينتهي أو يتوقّف؟ ربما هما الآن، كما أظنّ، راقدان بجوار الآثار، أو بجواري، يتنصّتان على أفكاري. وإن كانت تلك فرضية صحيحة، ألا يمكن أن تكون والدتي أيضًا هنا تفعل نفس الشيء؟ لطالما منحني التفكير بها رجفة من الأمل ودفعة من الطاقة، وطعنة حزن.

أفتقد والدتي كل يوم منذ رحيلها، لكن اليوم، بينما أنا في انتظار الموعد الموتّر في فروجمور، أجدني في اشتياق شديد إليها. لا يمكنني حقًا أن أستفيض في شرح السبب وراء هذا الشعور، كما لا يمكن دائمًا الاستفاضة في وصفها بالكلمات. على الرغم من أن والدتي كانت أميرة، وقد سمّيت على اسم أحد الآلهة، إلا أن تلك الصفتين تحديدًا لا يكفيان وصفها ولا يمنحانها حق التقدير. اعتاد الناس مقارنتها بالرموز والقديسين، من نيلسون مانديلا إلى الأم تيريزا، لكني شعرت أن كل مقارنة مماثلة، رغمًا عن لطفها، ما تزال بعيدة عن الواقع.

المرأة الأكثر شهرة على هذا الكوكب، واحدة من أكثر النساء المحبوبات، والدتي كانت ببساطة عصيّة على الوصف، كانت تلك هي الحقيقة الواضحة. ومع ذلك... كيف يمكن لشخص ما بعيد عن الأحداث اليومية أن يظل حقيقيًا جدًا، وحاضرًا بشكل واضح، وحيويًا بكل تلك الروعة في ذهني؟

كيف يمكنني أن أراها تمامًا كما أرى تلك البجعة في البحيرة؟ كيف لي أن أسمع ضحكاتها العالية كصوت الطيور التي تغرّد الآن فوق الأشجار العارية؟ هناك الكثير الذي لا أتذكره عنها، كنت صغيرًا جدًا عندما ماتت، لكن المعجزة الأكبر كانت أنني تذكرتها بتلك الدقّة، ابتسامتها الساحرة، وعينيها الهشتين، وحبها الطفولي للأفلام والموسيقى والملابس والحلويات - ولنا. أوه كم أحبتنا، أخي وأنا. "أحبهما بهوس". هكذا اعترفت ذات مرة إلى أحد المحاورين. حسنَا يا أمي، تلك المشاعر متبادلة!

ينسى الناس كم سعت أمي من أجل السلام. جابت العالم مرات عديدة، وتجوّلت عبر حقول الألغام، واحتضنت مرضى الإيدز، وواست أيتام الحرب، لطالما جاهدت في سبيل جلب السلام إلى شخص ما في مكان ما، وكنت أعرف كيف تمنّت - لا، كم رغبت – في تحقيق السلام ذاته بيني وأخي، وبيننا - نحن ولداها وأبونا. وبين جميع أفراد الأسرة. لذلك، ها أنا ذا، سافرت إلى البيت لحضور جنازة الجد، تلك التي طلبوا منّي أثناء مراسمها حضور هذا الاجتماع السري مع أخي الأكبر، ويلي، وأبي للحديث عن الأحوال الحالية، لإيجاد مخرج. لكنني الآن أنظر مرة أخرى إلى هاتفي، ثم نحو أعلى وأسفل مسار الحديقة وأفكّر: ربما غيرا رأيهما. ربما لن يأتيا. لمدة نصف ثانية فكرت في الاستسلام.

ثم، في النهاية، رأيتهما. كتفًا إلى كتف، وهم يخطوان نحوي، بدا مغتمّين، كأنهما جاءا مهددين أو رغمًا عنهما. أكثر من ذلك، بدت خطواتهما متناسقة تمامًا. انقبض قلبي. اعتادا أن يختلفا حول أمر أو آخر، لكنهما بديا الآن متحدي الخطوة – كأنهما فردان في حزب واحد.

حسنًا يا أمّي، فكرت في المبادرة، لنبدأ. تمني لي الحظ. التقينا في منتصف المسار.

- ويلي؟ أبي؟ مرحبًا

- هارولد.

نطقها فاترة مؤلمة.

وصلا واجتمعنا أخيرًا، لمناقشة الوضع. حاولت أن أشرح جانبي مما حدث. لم أكن في أفضل حالاتي. بالنسبة لمبتدئ في مجال المفاوضات، كنت متوترًا لا أزال، وأقاتل من أجل الحفاظ على مشاعري حيّة، بينما سعيت أيضًا إلى أن أكون مستجيبًا ودقيقًا. أكثر من ذلك، تعهدت لنفسي ألا أجعل هذا الحوار يتحول إلى جدال آخر. لكنني سرعان ما اكتشفت أن هذا لم يكن قراري على الإطلاق. كان لأبي و "ويلي" دورهما في اللعبة، وكانا مستعدين للقتال. في كل مرة أغامر فيها بتقديم تفسير جديد، حيث تتولّد في عقلي طريقة جديدة لأوصل لهما ما أعني، يقاطعني أحدهما أو كلاهما. لا يريد ويلي على وجه الخصوص سماع أي شيء. بعد أن أحرجني عدة مرات، بدأ كل منّا في قنص الآخر بكلماته، مرددين بعض الكلمات نفسها التي قلناها منذ شهور - سنوات. احتدّ الأمر حتى أن أبي رفع يديه فجأة.

- كفى

ثم وقف يفصل بيننا، ناظرًا إلى وجهينا المندهشين.

- من فضلكما يا ولديَّ، لا تحولا سنواتي الأخيرة في هذا العالم إلى بؤس مطلق.

بدا صوته مهزومًا، هشًا. بدا صوته، إن أردت الصدق، عجوزًا.

- لقد غادرت، يا هارولد.

- نعم.. وأنت تعرف لماذا.

- لا. لا أعرف.

- لم… تعرف!

- بصراحة لا.

لم أستطع أن أصدق ما كنت أسمعه. كان أمرًا مريعًا بالفعل كوننا نختلف حول من كان فينا على خطأ، أو كيف نظرنا إلى الأمور بشكل مختلف، أما أن يدّعي الجهل التام بالأسباب التي أرغمتني على الهرب من الأرض التي شهدت مولدي - الأرض التي قاتلت من أجلها وكنت على استعداد للموت فداء لها - بلدي الأم؟

التفت إلى أبي كان يحدّق ناحيتي بتعبير على وجهه يقول: أنا كذلك لا أعلم أيضًا..

"واو! فكّرت. ربما لا يعلمان حقَا!"

ولكي أكون منصفًا، ربما لم أكن أنا نفسي أعلم. أشعرتني الفكرة ببرودة سرت داخل جسدي، ووحدة رهيبة. لكنها حمّستني أيضًا. فكّرت: عليّ أن أخبرهما. كيف يمكنني إخبارهما. لا أستطيع. سوف يستغرق هذا دهرًا.

علاوة على ذلك، من الواضح أنهما ليسا مستعدين من الأصل للاستماع لما سأقول. ليس الآن على أي حال، ليس اليوم. وهكذا:

أبي، "ويلي"، أيها العالم… دعنا نبدأ.

***

غلاف الكتاب، عن townandcountrymag

لم أكن في مقام "الجدة". لم أكن في مكانة "أبي". ولم أكن في منزلة "ويلي". كنت في المرتبة الثالثة، خلفهم جميعًا. يتخيل كل فتى أو فتاة، مرة واحدة على الأقل في العمر، أنفسهم كأمير أو أميرة. لذلك، سواء كنت بديلًا احتياطيًا، أو لا، لم يكن الأمر بهذا السوء. أعني أن وقوفك بحزم وراء الأشخاص الذين أحببت، ألم يكن هذا هو تعريف الشرف؟ تعريف الحب؟

انتهيت و "ويلي" من العشاء، وشاهدنا المزيد من التلفزيون، ثم بدأنا في ممارسة طقوس ما قبل النوم، تسللنا إلى الناحية العلوية من غرف البالغين وجلسنا نتنصّت عليهم، على أمل سماع كلمات مشينة أو ربما قصة. سحبت الملاءات حتى ذقني، لأني لم أكن من هواة الظلام التام. لا، هذا ليس صحيحًاـ في الواقع لقد كرهت الظلام. أخبرتني أمي بتلك الحقيقة عن نفسها أيضًا. لقد ورثت هذا عنها، هكذا اعتقدت دائمًا، بالإضافة بالطبع إلى أنفها وعينيها زرقاء اللون، وحبها للناس، وكراهيتها للسخافة والزيف وكل الأشياء الفاخرة.

- أبي؟

كان يقف على حافة السرير ينظر لأسفل. جعلته ملابس النوم البيضاء يبدو وكأنه شبح في مسرحية.

- نعم يا عزيزي.

منحني نصف ابتسامة، وتجنّب النظر إليّ. لم تعد الغرفة مظلمة، ولا مضيئة أيضًا. بل سطع شيئًا بين الظل والضوء، بني اللون قليلًا، أشبه بالماء الجاري في الأحواض القديمة. نظر إليّ بطريقة غريبة، وهي طريقة لم ينظر إلي بها من قبل. بخوف ربما؟

- ما الأمر يا أبي؟ جلس على حافة السرير. وضع يده على ركبتي.

- حبيبي، لقد تعرضت ماما لحادث سيارة.

أتذكر أنني فكرت: حادث... حسنًا. لكنها على ما يرام؟ أليس كذلك؟

أتذكر بوضوح أن الفكرة ومضت في ذهني. وأتذكر أنني انتظرت بصبر أن يؤكد أبي أن أمي كانت في واقع الأمر على ما يرام، وأتذكر أنه لم يفعل. ثم تحوّلت الفكرة داخلي إلى مجادلة صامتة مع أبي، أو مع الله، أو كليهما: لا، لا، لا. نظر أبي إلى أسفل، إلى طيات اللحاف والبطانيات القديمة والملاءات.

- تعرضت لبعض المضاعفات. أصيبت ماما بجروح بالغة وأخذت إلى المستشفى يا حبيبي.

هكذا اعتاد أن يناديني "حبيبي"، لكنه يكررها كثيرًا الآن. كان صوته ناعمًا. في حالة صدمة، على ما يبدو.

- أوه. مستشفى؟

- نعم. أصيبت في رأسها.

هل ذكر مصوري الصحافة الصفراء؟ هل قال إنها مطاردة؟ لا أعتقد. لا أستطيع أن أقسم على ذلك، ولكن غالبًا لم يفعل.

 كانت أمي، كما الجميع يعانون بالطبع مع مصوري الصحافة الصفراء، لم يكن ذكرهم سيضيف جديدًا.

فكرت مرة أخرى:

أصيبت... لكنها بخير. لقد نقلوها إلى المستشفى، وسوف يعالجون ما حدث لرأسها، وسنذهب ونراها. اليوم. الليلة على أبعد تقدير.-

- لقد حاولوا، حبيبي. لم تنج من الحادثة.

اخترقت هذه العبارات ذهني مثل السهام في اللوحة. لقد قالها بهذه الطريقة، لم تنج من الحادثة. ظننت حينها أننا قد وصلنا بالفعل إلى النهاية.

هذا غير صحيح. لم يكن مجرد ظنّ. لا شيء على الإطلاق احتمل حتى مجرد الظن. كانت النهاية واضحة، مؤكدة، لا رجعة فيها. لا شيء مما قلته له يحتل ذاكرتي الحالية. من المحتمل أنني لم أقل أي شيء. ما أتذكره بوضوح مذهل هو أنني لم أبك. لم أذرف دمعة واحدة. لم يعانقني أبي. لم يكن خبيرًا في إظهار العواطف في ظل الظروف العادية، كيف يمكن أن يُتوقع منه أن يظهرها في غضون تلك الأزمة؟

لكن يده سقطت مرة أخرى على ركبتي وقال: "سيكون الأمر على ما يرام".

غادرنا في وقت لاحق مع أبي متوجهين إلى باريس. برفقة شقيقتي أمي، الخالة سارة والخالة جين. قالت إحداهما إنها بحاجة لمعرفة المزيد عن الحادث ولترتيب عودة جثة أمي. جثة. استمر الناس في استخدام هذه الكلمة. كانت أشبه بلكمة في حلقي، وكذبة لها طعم الدم، لأن أمي لم تكن ميتة.

كانت تلك الفكرة المفاجئة التي راودتني. لم أكن أملك حينها إلا التجوّل في القصر والتحدث مع نفسي، تمكنت منّي الشكوك، والتي أصبحت بعد ذلك بمثابة اعتقاد راسخ. كان كل ما حدث خدعة. وللمرّة الأولى لم تكن اللعبة تمارس علي من قبل الناس من حولي، أو الصحافة، ولكن من أمّي. كانت حياتها بائسة، لقد تعرضت للمطاردات، والمضايقات، وطالتها الأكاذيب. لذا فقد دبّرت الحادث كتمويه وهربت.

أذهلتني الفكرة، لكنني تنفست الصعداء أخيرًا. بالطبع! كل هذا خدعة، حتى تبدأ حياة جديدة! في هذه اللحظة بالذات، لا بدّ أنها تستأجر شقة في باريس أو تعيد ترتيب الزهور في مقصورة الكوخ الذي اشترته في مكان ما في جبال الألب السويسرية. قريبًا، قريبًا، سوف ترسل لي و"ويلي". كل شيء واضح للغاية! لماذا لم أر تلك الاحتمالات من قبل؟ لم تمت أمّي! إنها تختبئ! شعرت بأنني أفضل الآن. ثم تسرّبت الشكوك مجددًا. انتظر! أمي لن تفعل هذا بنا. هذا الألم الذي لا يوصف، لم تسمح لأحد أن يشعرنا بذلك أبدًا، ناهيك عن التسبب في ذلك. ثم أعود إلى الفكرة المريحة: لم يكن لديها خيار. كان هذا أملها الوحيد في الحرية. ثم يعود الشك مرة أخرى: أمي لن تختفي، إنها مقاتلة كبيرة. ثم أعود لأفكّر: ربما هذه هي طريقتها في القتال. لا بدّ انها ستعود. لا بدّ أنها ستفعل. سيحلّ عيد ميلادي بعد أسبوعين فقط.

لقد رحلت. لا إنها تختبئ. ماتت. لا لقد زيّفت موتها.

بعد سنوات، وأخيرًا جلست أنظر إلى صور أمي في الحادثة. كانت هناك أضواء كثيرة حول رأسها، كما الهالات. غريبة. كان لون الأضواء – كشعرها – ذهبيًا. لم أكن أعرف مصدر تلك الأضواء، لم أستطع أن أتخيل مصدرها. على الرغم من أنني توصلت إلى كل أنواع التفسيرات الخارقة للطبيعة. حين أدركت مصدرها الحقيقي، انقبضت معدتي. وميض الكاميرات. كانت من أثر وميض الكاميرات. وعبر الوميض ظهرت أجساد هلامية لأشباح، مصوري الصحافة الصفراء، رؤوسهم وأجسادهم منعكسة على الأسطح اللامعة، المعدنية والزجاجية. هؤلاء هم الرجال الذين طاردوها... لم يتوقفوا أبدًا عن تصويرها بينما كانت تستلقي بين المقاعد، فاقدة للوعي، أو نصف واعية، وبين لحظات طيشهم صاروا يصورون بعضهم بعضًا بلا قصد. لم يتحقق أي منهم من حالتها، أو يحاول مساعدتها، أو طمأنتها. كانوا فقط يصورون، يصورون، يصورون.

***

الأميرة ديانا، عن stylecaster

المشهد 1

ميج والجدة

قبل لقاء ميج الأول مع الملكة مباشرة، تذكرت قصة شهيرة عن أمي حين حاولت معانقة الجدة. لقد كان في الواقع اندفاعًا أكثر منه عناقًا، إذا صدق شهود العيان؛ انحرفت الجدة لتجنب العناق، وانتهى الأمر برمته بشكل محرج للغاية، بعيون متجنبة وتذمر واعتذارات. في كل مرة حاولت فيها تصور المشهد، كان يذكرني بمحاولة نشل بائسة، أو بحركة تدخّل كما في لعبة الرجبي. تساءلت، بينما أشاهد جدتي تحتفي بـ "براين ماي[3]"، إذا كان أبي قد حاول يومًا عناقها؟ على الأغلب لا. عندما كان في الخامسة أو السادسة من عمره، تركته الجدة، وانطلقت في جولة ملكية استمرت عدة أشهر، وعندما عادت، كان كلّ ما منحته هو مصافحة قويّة. والتي ربما كانت حتى أكثر مما حصل عليه من الجد. في الواقع، كان الجد منعزلًا جدًا، مشغولًا جدًا بالسفر والعمل، بالكاد وقعت عينه على أبي في سنوات حياته الأولى.

قالت ميج: عظيم! أنا أحب الجدات.

سألتها إذا كانت تعرف كيف تنحني. قالت إنها تعتقد أنها تعرف. لكنها أيضًا لم تستطع تخمين ما إذا كنت جادًا في سؤالي.

- أنتِ على وشك مقابلة الملكة.

-أعلم، لكنها جدتك.

- لكنها الملكة.

دخلنا غرفة الجلوس الأمامية الكبيرة وكانت هناك. الجدة. العاهل. الملكة إليزابيث الثانية. تقف في منتصف الغرفة. استدارت قليلا. ذهبت ميج مباشرة إليها وانحنت انحناءة طويلة بلا عيوب.

- جلالة الملكة. تسعدني مقابلتك.

كان كل شيء لطيفًا للغاية. حتى أن الجدة سألت ميج عن رأيها في دونالد ترامب.

لطالما اعتقدت ميج أن السياسة لعبة لا يمكنها أن تربح فيها، لذلك غيرت الموضوع إلى كندا. حدّقت فيها الجدة.

- اعتقدت أنكِ أمريكية.

- أنا كذلك، لكني أعيش في كندا منذ سبع سنوات حيث أعمل.

بدت الجدة سعيدة.

- الكومنولث. جيد. جميل.

بعد لحظة، سألتني ميج شيئًا عن مساعد الملكة. سألتها عمن كانت تتحدث.

- ذلك الرجل الذي يحمل حقيبتها. الرجل الذي أوصلها إلى الباب.

- لم يكن ذلك مساعدها.

- من كان إذن؟

كان هذا ابنها الثاني. أندرو. يبدو مؤكدًا أن "ميجان" لم تجر عنا بحثًا في جوجل.

***

هاري وميجان، عن skynews

المشهد 2

أبي وهاري

- إذن هل تنوي الاستمرار في عملها؟

- ماذا قلت؟

- هل تريد الاستمرار في التمثيل؟

- أوه. أعني، لا أعرف، لا أعتقد ذلك. أتوقع أنها سترغب في أن تكون معي، وتؤدي بمهام منصبها الجديد، كما تعلم، الأمر الذي سيجعلها تتخلى عن مسلسل "سوتس[4]" بالطبع... لأنهم يصورون في ... تورنتو.

همم. أتفهم. حسنًا، عزيزي، أنت تعلم أنه لا يوجد ما يكفي من المال لأنفقه في هذا الشأن.

اتسعت عينايّ. إلام كان يحاول التلميح؟ حسنًا لقد شرح لي. أو أنه حاول.

- لا يمكنني تحمل نفقة أي شخص آخر. أنا مضطر بالفعل لدفع تكاليف معيشة أخيك وكيت.

جفلت.

التفت إلى "ويلي"، ونظرت إليه قائلًا: هل تسمع هذا؟

كان وجهه ثابتًا بلا تعبير. لم يكن أبي يدعمنا ماليًا، أنا و"ويلي" وعائلتانا بدافع من سخائه مثلًا! كانت تلك وظيفته. كان هذا هو الاتفاق. اتفقنا على خدمة القصر، والذهاب إلى أي مكان أرسلنا إليه، وتنفيذ كل ما أمرنا بتنفيذه، والتنازل عن استقلاليتنا، والحفاظ على أيدينا وأرجلنا داخل القفص المذهّب في جميع الأوقات، وفي المقابل تعهد حراس القفص بالتكفّل بإطعامنا وكسوتنا. هل كان أبي، بكل الملايين التي يملكها من دوقية كورنوال المربحة الثرية، يحاول أن يقول إن وجودنا هنا تحت أسره قد بدأ يكلفه الكثير؟ بالإضافة إلى ذلك - ما هي تكلفة إسكان ميج وإطعامها؟

أردت أن أقول، إنها لا تأكل كثيرًا، كما لا بدّ أنك تعلم! وسأطلب منها أن تصنع ملابسها بنفسها، إذا أردت. اتضح لي فجأة أن الأمر لا يتعلق بالمال. ربما كان أبي يخشى ارتفاع تكلفة الحفاظ علينا ها هنا، ولكن ما لم يستطع تحمله حقًا هو وجود شخص جديد يسيطر على النظام الملكي، ويستحوذ على الأضواء، أن يأتي شخصًا لامعًا وجديدًا ويطغى عليه وكاميلا. لقد عاش ذلك من قبل، ولم يكن لديه أي نيّة أو رغبة في أن يعيشه مرة أخرى.

***

هاري وويليام، عن insider

القصر الملكي.. مرة أخرى

كان "أبي" و"ويلي" لا يزالان يدعيان عدم معرفتهما بالسبب وراء هروبي من بريطانيا، ما زالا على إنكارهما، وقد كنت مستعدًا الآن للرحيل مرة أخرى. ثم طرح أحدهما سؤالًا عن الصحافة. سألا عن الدعوى التي أقمتها ضد تعرضي للاختراق والقرصنة. لم يسأل أي منهما حتى الآن عن ميج، لكنهما كانا حريصين على معرفة كيف تسير دعواي، لأن ذلك أثر عليهما بشكل مباشر.

- لا تزال القضية جارية.

- مهمة انتحارية.

 تمتم "أبي".

- ربما. لكن الأمر يستحق.

- إذا كنت تستطيع فقط تحمل أوزارها، أيها الفتى العزيز، لفترة قصيرة أطول، حينها فقط، وبأغرب الطرق، سيتعلمون أن يحترموك.

ضحكت. فأكمل أبي: "كل ما أقوله هو، لا تأخذ الأمر على محمل شخصي".

- بالحديث عن أخذ الأمور على محمل شخصي…

 أخبرتهما أنني قد أتعلم تحمل الصحافة، وحتى أن أغفر إساءة معاملتها، ربما، أما أن تتواطأ عائلتي فيما حدث – فذلك أمر سيستغرق وقتًا أطول للتغلب عليه. مكتب أبي، مكتب "ويلي"، تمكين هؤلاء الشياطين، هذا إن لم نفترض أن تعاونهما معهم كان مباشرًا؟

جعلوا "ميج" تظهر كأنها متنمرة - كانت تلك أحدث حملة شريرة ساعدا في تنظيمها. كان الأمر صادمًا للغاية، وفظيعًا للغاية، حتى بعد أن بددت أنا وميج كذبتهما بتقرير من خمس وعشرين صفحة، مليء بالأدلة، بالطبع سيكون من العسير أن أتجاهل كل تلك الأفعال.

ارتدّ أبي خطوات إلى الوراء. هزّ ويلي رأسه. بدأا يتحدثان مقاطعين بعضهما بعضًا. قالا:

- لقد تحدثنا في هذا الأمر مائة مرة. أنت متوهم يا هاري.

لكنهما كانا هما المتوهمان. حتى لو، بفرض الجدل، قبلت أن أبي و"ويلي" وموظفيهما لم يفعلا شيئًا صريحًا ضدي أو ضد زوجتي - كان صمتهما حقيقة لا يمكن إنكارها. وكان ذلك الصمت مروعًا. ومستمرًا وموجعًا.

- استمع إلي يا هارولد، استمع! أنا أحبك يا هارولد! أريدك أن تكون سعيدًا.

خرجت الكلمات من فمي: "أنا أحبك أيضًا ... لكن عنادك ... غير عادي!"

- "وأنت؟ ألست عنيدًا بذات القدر؟"

انسحبت بعيدًا مرة أخرى. أمسك بي مرة أخرى، وأدار جسدي في مواجهته للحفاظ على التواصل البصري.

- هارولد، يجب أن تستمع إلي! أنا فقط أريدك أن تكون سعيدًا، هارولد. أقسم... أقسم بحياة أمي.

توقفت. وهو توقّف. وكذلك فعل أبي. لقد وصل بنا إلى هناك.

لقد استخدم الرمز السري، كلمة المرور. منذ أن كنا صبيين، كان من المفترض استخدام هذه الكلمات الثلاث فقط في أوقات الأزمات الشديدة. "أقسم بحياة أمّي". لما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، احتفظنا بهذا العهد الذي يسحق روحينا حين ينطق، احتفظنا به فقط وحصريًا للأوقات التي احتاج فيها أحدنا إلى أن يُسمع صوته، وأن يُصدق، بسرعة. للأوقات التي لا يمكن لأي شيء آخر أن ينتصر في مقابل ذاك القسم. توقفت وقد ارتجف جسدي، كما كان من شأن القسم أن يفعل. ليس لأنه استخدمه، ولكن لأنه لم ينجح. أنا ببساطة لم أصدقه، لم أستطع أن أثق به على الإطلاق. والعكس صحيح. هكذا فهم هو أيضًا. لقد رأى أننا وصلنا إلى ذاك الموضع المحتقن بالأذى والشك حتى أن تلك الكلمات المقدسة لا تستطيع أن تحررنا.


[1] حدائق خاصة تقع بالقرب من قصر "ويندسور" – بريطانيا

[2] لندن آي أو عجلة لندن هي ساقية سياحية ضخمة أنشئت في العاصمة البريطانية قبيل مطلع القرن الحادي والعشرين، وتعد من معالم لندن السياحية، وتقع على ضفاف نهر التيمز يمكن للشخص ركوبها لمشاهدة معالم مدينة لندن، والتمتع بالمناظر الجميلة أثناء دورانها حول محورها.

[3] مطرب بريطاني

[4] "Suits" مسلسل أمريكي شهير عن عالم القانون والمحاماة، كانت "ميجان ماركل" تقوم ببطولته قبل زواجها من الأمير هاري