كان هناك صورة لفتاة، يقول شاهد قبرها إن عمرها خمسة عشر عامًا. كان عمري عشرة أعوام تقريبًا عندما رأيتها، كانت جميلةً جدًا، وكان شعرها أسود طويلًا، وعيونها داكنةً ووجهها مستديرًا. كنت أذهب دائمًا إلى قبرها وأردت أن أكون مثلها، على الرغم من أني كنت أعلم أن وجهي لا يشبهها.

رسائل من أبي

قصة روبرت أولن باتلر

ترجمة: هشام الصباغ


وُلِدَ «روبرت باتلر» في جرانيت سيتي، إلينوي بأمريكا عام 1945، وتخصص في المسرح في جامعة نورث ويسترن، ثم درس الكتابة المسرحية في جامعة آيوا. عمل مترجمًا للجيش الأمريكي خلال حرب فيتنام، ويظهر في معظم أعماله الأدبية مدى معرفته بفيتنام وثقافتها وشعبها. تحدث عن تلك المرحلة من حياته في لقاء صحفي لـ«كتب باولز»[1] عام 1996، وعبر عن مدى حبه للفيتناميين، وعن كرمهم وانفتاحهم: «كانوا دائمًا ما يدعونني لبيوتهم وثقافتهم وحياتهم». اشتهر بكتاباته عن معاناة الفيتناميين وتأثرهم بالحرب –سواء كانوا مدنيين أو جنودًا شاركوا في الحرب– وعن الاختلافات الثقافية بين الفيتناميين والأمريكيين، ويظهر بوضوح في قصصه مدى براعته في نقل لغة ونبرة ووجهة نظر كل من الفيتناميين والأمريكيين.

كتب باتلر مجموعته القصصية «رائحة طيبة من جبل غريب» في عام 1992، وفازت بجائزة بوليتزر عام 1993. تروى كل قصة في المجموعة على لسان مهاجر فيتنامي، يعيش في ولاية لويزيانا. نُشِر العديد من قصص المجموعة لأول مرة في مجلات أدبية، ثم جُمعت وأعيد إصدارها في عام 2001 مع إضافة قصتين: قصة «سالم» وقصة «مفقود».


روبرت أولن باتلر، صورة لجو روندون

«عزيزتي فران، كيف حالك؟ كم وددْتُ لو كنت أنت ووالدتك هنا معي. الجو بارد هنا في هذا الوقت من السنة، أراهن على أنك ستحبين هذا الجو». وجدتُ تلك الرسالة وأنا أقلّب في الرسائل التي أرسلها إلي أبي عندما كنت في سايجون.[2] حينها، وأنا في سايجون، تسائلت، وكيف له أن يعرف أني سأحب هذا الجو؟ فلم يبدُ لي أن برودةَ الجو شيء جيد، كان الجو متجمدًا حسب كلامه. بطرف إصبعي لمست قطعة ثلج، وأبقيته هكذا لأطول وقت يمكنني تحمله، لم أستطع أن أُبقي إصبعي لأكثر من دقيقة وتألمتُ بشدة. وفكرتُ، كيف يقضي الساعات والأيام في جو كهذا؟

لن يؤثر في شيء عدم فهمي لمعنى برودة الجو حينها، فبمرور الوقت، انتقل أبي إلى مكان نادرًا ما يشتد البرد فيه، وأخرجنا أخيرًا أنا وأمي من فيتنام. لكن كل ما في الأمر هو أنه كان كثيرًا ما يتحدث عن أحوال الجو في رسائله: الجو اليوم بارد، الجو اليوم حار، السماء غائمة اليوم، اليوم السماء صافية. أين أنا من كل ذلك؟

يكتب «عزيزتي فران» لأن اسمي فران، وهو اختصار فرانسين. يبدو صوت اسمي كأسْماء الفيتناميين، ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك؛ أخبرت أصدقائي في سايجون أن اسمي تران، وهو اختصار لـ«هون تران» بمعنى «قبلةُ على الجبينِ». عاش أبي الأمريكي في أمريكا وعشتُ أنا وأمي الفيتنامية في فيتنام؛ كنت لا أزال فتاة فيتنامية. نادتني أمي فرانسين أيضًا، وسعدتْ لتسميتي بهذا الاسم. قالت إنه ليس اسمًا أمريكيًا فحسب، بل وفرنسيًا أيضًا.  ولكني أردتُ اسمًا لسايجون، وتران كان كذلك.

كنت ابنةُ من أبناء الغبار.[3] كانوا يسموننا كذلك عندما غادر الآباء الأمريكيون –بما فيهم أبي– لوطنهم، وتولى الشيوعيون الحكم، هكذا سمونا نحن أصحاب الوجوه التي ترى مثلها في الرسومات عند أكشاك الكتب التي في شارع (نجوين هو). تُلقي علينا نظرةً فترى فتاةً جميلةً تجلسُ أمام مرآتها، وفي النظرةِ التي تليها سترى بدلًا من ذلك جمجمة شخص ميت، لا جلد على وجهه، فقط تجويف واسع للعينين وأنياب كاشرة. كذلك كنا نحن أبناء الغبار في سايجون، ترانا مرة فيتناميين ومرة أخرى أمريكيين، ومتى نظرت إلينا لن تستطيع أن تثبت نظرك علينا وترى الشيء ذاته، سترى شيئًا ثم الآخر وهكذا.

وجدت بالأمس صندوقًا لأبي به رزمة من الرسائل، وجدته في كوخ التخزين خلف منزلنا هنا في أمريكا، أعيش الآن في مدينة «ليك تشارلز» بولاية لويزيانا. وجدتُ تلك الرزمة من الرسائل في كوخ التخزين حيث يوجد العديد من الرزم والمئات من الرسائل، جميع ما احتفظ به أبي من نسخ الرسائل التي كان يرسلها في محاولته لإخراجنا من فيتنام. قلّبتُ في الرسائل فوجدت: «ترهات، ما تحاولون قوله ما هو إلا ترهات. ابنتي التي من لحمي ودمي، مر علي تسع سنوات وسبعة أشهر وخمسة عشر يومًا مذ آخر مرة رأيتها».

كانت كلمات غاضبة، كتبها بمشاعره. مر علي عامٌ هنا في هذا المكان، وعمري الآن سبعة عشر عامًا، ويبدو أن الأمر تطلب أكثر من تسع سنوات وسبعة أشهر وخمسة عشر يومًا لكي أخرج من فيتنام. من يسمع قصتي سيتوقع مني أن أصف كيف كانت مشاعري، لكن أتمنى لو كان باستطاعتي.  تُركنا أنا وأمي في سايجون، غادر أبي إلى أمريكا، وظن أنه سينهي بعض الإجراءات الورقية ويجهز لنا مكانًا، ومن ثم نغادر أنا وأمي إلى أمريكا في الحال، ولكن لم تجرِ الأمور هكذا؛ فُقد صندوقٌ وكان به بعض الأوراق المهمة ومن بينها وثيقة زواج والديّ وشهادة ميلادي، وسقطت فيتنام الجنوبية بعد ذلك في يد الشيوعيين. وحتى من كان يرى أنها ستسقط، رأى أنها سقطت بسرعة. من كان يدري؟ ليس أبي.

وجدتُ رسالةً أرسلها إلي في سايجون بعد سقوطها تقول: «يمكنك أن تتخيلي كيف أشعر، شعر العالم أجمع بخيبة أمل جراء ما حدث». لكنني –إذا أردتَ مني الصدق– لم يكن بإمكاني أن أتخيل كيف شعر أبي،  لم أكن أعرف شيئًا عن العالم سوى سايجون. ولم يكن العالم حتى كذلك حينها؛ عندما كنت صبية صغيرة أعطوها اسمًا غير سايجون، سموها «مدينة هو تشي منه». وهذا الاسم هو اسم رجل[4] –أنتم تعلمون ذلك– ولنفس الاسم عدة معانٍ أخرى أيضًا، وأنا أتعامل مع هذا الاسم بالطريقة التي ينظر بها الجميع لأبناء الغبار: أنظر إليه مرة، فأجد له معنى، ثم أنظر له بطريقة مختلفة فأجده يعني شيئًا آخر. من الممكن أيضًا أن تعني هو تشي منه «معجون نشا شهي جدًا»،[5] وهكذا كانت رؤيتنا –أنا وبعض من أصدقائي ذوي الآباء الأمريكيين– للاسم الجديد للمدينة. كنت ألتقي معهم في المقابر الفرنسية بشارع «فان تان زان»، ونتحدث عن مدينة هو تشي منه، التي سأشير إليها بـ«معجون النشا».  كنا نتحدث عن حياتنا في مدينة معجون النشا، ونلعب تلك اللعبة التي نختبئ فيها داخل المقابر: كل منا في مكان منفصل، نبقي رؤوسنا منخفضة، ونتحرك ببطء، ونرى كم من أصدقائنا سنجد. إذا رأيت الشخص الآخر قبل أن يراك، تحصل على نقطة. وإذا لم يرك أحد أبدًا، وكأنك خفّي، تفوز.

جعلتني المقابر حزينةً، ولكني شعرت براحة هناك بطريقة ما، شعرنا كلنا بذلك أنا وأصدقائي. كانت المقابر وعرة. «كوشيه»، «بيكارد»، «فيرنت»، «بيليفوه»، الكثير من الأسماء المكتوبة على القبور كانت تشبه تلك الأسماء، ولم يوضع على تلك المقابر زهرة قط؛ غادر منذ زمن بعيد إلى وطنه فرنسا كل من أحب هؤلاء الموتى. وكان هناك جزء من المقابر به موتى فيتناميين، وُضِع على قبورهم بعض الزهور، ليس الكثير. شواهد قبورهم بها صور بإطارات بيضاوية صغيرة محفورة في الحجارة، صور تحمل وجوه الموتى الفيتناميين الأثرياء، نساء ورجال أغلبهم من كبار السن. وكان هناك بعض الشباب أيضًا، مات أغلبهم في عام 1968 حينما كثر القتل في سايجون. كنت أختبئ دومًا في هذا الجزء من المقابر، كان هناك ولد لطيف للغاية، يرتدي نظارةً شمسيةً، ويتكئ على دراجةٍ ناريةٍ ويضع يده على فخذه. مات في فبراير 1968، ولم أكن معجبةً به على كل حال. بدا لطيفًا ولكن أيضًا مغرورًا جدًا. وبالقرب منه كان هناك صورة لفتاة، يقول شاهد قبرها إن عمرها خمسة عشر عامًا. كان عمري عشرة أعوام تقريبًا عندما رأيتها، كانت جميلةً جدًا، وكان شعرها أسود طويلًا، وعيونها داكنةً ووجهها مستديرًا. كنت أذهب دائمًا إلى قبرها وأردت أن أكون مثلها، على الرغم من أني كنت أعلم أن وجهي لا يشبهها. ذهبت إليها ذات يوم –كان عمري وقتها نفس عمرها تقريبًا– فوجدت المطر قد تسرب عبر الإطار الصغير إلى الصورة، وتلاشى وجهها. كنت أرى شعرها، ولكن ملامح وجهها تلاشتْ ولم أعد أستطيع رؤيتها، فقط خطوط داكنة من أثر الماء، وتجعدت الصورة من الحواف. بكيتُ لذلك.  كان هذا بمثابة موتها.

كان أبي يرفق أحيانًا صورًا مع رسائله. كان يقول: «عزيزتي فران، هذه صورة لي، من فضلك أرسلي صورة لك». ولي صديقة عندما كان عمرها سبعة عشر عامًا، كان لها صديقة مراسلة في روسيا. كانوا يكتبون لبعضهم رسائل بسيطة بالفرنسية، قالت صديقتها: «من فضلك أرسلي صورة لك، وسأرسل لك صورة لي»، فارتدت صديقتي «أهو ثاي»[6] أبيض، وذهبت إلى حديقة «لي تان تون» بوسط المدينة لتأخذ لنفسها صورة أمام شجرة الأثب الكبيرة. أرسلت الصورة، واحتوى الرد على صورة فتاة سمينة شعرها غير ممشط، تقف بجانب بقرة في مزرعة تعاونية.[7]

أعتقد أن جدي لأمي كان مؤيدًا للحكومة، ويقول الشيوعيون أن أمي كانت متعاونةً معهم، أو ثائرةً ضد الحكومة، أو شيئًا من هذا القبيل. كان كل ذلك في طفولتي أو حتى قبل أن أولد، وكلما حاولت أمي أن تفسر لي كل تلك الأمور: هذا الأب خلف البحر، ونحن الذين من الواضح أننا لن نذهب إليه أبدًا. لم أكن أحب أن أسمع منها الكثير، أدركت أمي ذلك؛ بعد فترة لم تعد تقول المزيد. وضعت صورته أعلى مرآتي، أعتقد أنه كان يبتسم فيها، كان خارج المنزل في مكان ما، يرتدي قميصًا، وفي خلفية الصورة بحيرة أو شيئًا كهذا، أعتقد أنه كان يضيق عينيه بتأثير الشمس، أكثر من كونه يبتسم.  كان هناك عدة صور له على مرآتي، كانت صوره دائمًا خارج المنزل، وكان يضيق عينيه دائمًا. يقول في أحد رسائله لي: «عزيزتي فران، وصلتني صورتك، أنت جميلة جدًا مثل والدتك. لم أنساك». فكرت، أنا لا أشبه أمي. أنا فتاة الغبار. هل نسي ذلك؟

أخبرتني إحدى الفتيات اللتين اعتدتُ التنزه معهن في المقابر قصةً، وترى أنها قصة حقيقية لأنها حدثت لأعز صديقات أختها. كانت صديقة أختها صبية صغيرة عندما بدأت القصة. ووالدها جندي في جيش جنوب فيتنام، كان يحارب بعيدًا في مكان سري، كمبوديا أو مكان ما. كان ذلك سريًا للغاية، لذلك لم تعرف أمها عنه أي شيء. كانت الفتاة صغيرة جدَا عندما غادر أبيها؛ لا تتذكره حتى، ولا تعرف شكله أو أي شيء عنه. ولكنها كانت تعرف أن من المفترض أن يكون لها أب، لذلك كانت كل مساء عندما تضعها أمها في السرير، تسأل عن أبيها، أين هو؟ وفي إحدى الليالي، سألت الفتاة بقلب يملؤه الحزن؛ ففكرت الأم أن تختلق شيئًا ما.

كانت هناك عاصفةً رهيبةً، وانقطعت الكهرباء في سايغون. فذهبت الأم إلى المائدة لتضيء مصباح زيت، وكانت الفتاة الصغيرة تتشبث بها خائفة. وعندما أضاءته، انعكس ظلها كبيرًا جدًا على الحائط، فقالت الأم: «لا تبكي يا صغيرتي، انظري»، وأشارت إلى الظل. «إنه والدك، سيحميك». ابتهجت الفتاة الصغيرة لذلك. توقفت عن الارتعاش من الخوف فورًا، وغنت لها أمها لتنام.

وفي الليلة التالية، قبل الذهاب إلى النوم، طلبت الفتاة الصغيرة أن ترى أبيها. وعندما حاولت الأم أن ترفض، انزعجت الفتاة الصغيرة بشدة، فاستسلمت الأم وأضاءت مصباح الزيت، وألقت بظلها على الحائط. تقدمت الفتاة للحائط، وجعلت كفيها ملاصقين لبعضهما أمامها، وانحنت للظل. قالت: «عمت مساء يا أبي» وذهبتْ للنوم. وتكرر هذا في المساء التالي، والذي يليه، واستمر الأمر هكذا لأكثر من عام.

وفي إحدى الليالي، قبيل النوم، عاد الأب أخيرًا للمنزل. فرحت الأمُ فرحةً غامرةً؛ بكتْ وقبلته وقالت: «سنجهز وليمة قربان شكر تقديرًا لأجدادنا. ادخل إلى ابنتنا، على ما أعتقد هي جاهزة للنوم. سأذهب للسوق لأشتري بعض الطعام من أجل احتفالنا».

دخل الأب إلى الفتاة الصغيرة وقال لها: «ابنتي الجميلة، لقد عدت إلى المنزل. أنا أبوكِ، لم أنسَك قط».

ولكن الفتاة الصغيرة قالت: «أنت لست أبي. أنا أعرف أبي. سيأتي هنا بعد قليل. يأتي كل ليلة، ويقول لي ليلة سعيدة قبل النوم».

صُدم الأب من خيانة زوجته، ولكن لما في قلبه من كبر لم يقل لها أي شيء عندما عادت للبيت. لم يقل أي شيء، صلى أمام ضريح أجدادهم لفترة وجيزة، ثم التقط حقيبته وغادر. مرت الأسابيع، واشتد حزن الأم حتى ألقت بنفسها في نهر سايجون وغرقت.[8]

سمع الأب بالخبر، واعتقد أنها قتلت نفسها بسبب الخزي. وعاد إلى البيت ليكون أبًا لابنته، ولكن في الليلة الأولى كانت هناك عاصفة وانطفأت الأضواء، فأشعل الرجل مصباحًا زيتيًا، وأُلقي بظله على الحائط. ضحكت الفتاة في سعادة وذهبت للظل وانحنت له قائلة: «عمت مساء يا أبي». عندما رأى الرجل ذلك، أخذ ابنته الصغيرة لوالدته، وتركها وغادر ليلقي بنفسه في نهر سايجون، ويموت مع زوجته.

تقول صديقتي أن هذه القصة حقيقية. ويعرفها كل شخص في الحي الذي تسكن فيه صديقة أختها تلك. ولكني لا أعتقد أنها حقيقية. لم أقل ذلك قط لصديقتي، ولكنها بالنسبة إلي، ليس لها معنى. لا أستطيع أن أصدق أن الفتاة الصغيرة رضيت بالأب الظل. كان ظلامًا على الحائط، سطحيًا، وأحبته. أتفهم لماذا لم تندمج مع ذلك الرجل الذي ظهر فجأة في إحدى الليالي وقال: «أنا أبوك، دعيني أقل لك عمت مساء». ولكن الرجل الأخر –الظل– لم يكن أبًا كذلك.

عندما التقيتُ أنا وأمي بأبي في المطار، كان هناك أناس يحملون كاميرات وميكروفونات. عانق أبي أمي عناقًا طويلًا، أصدر صوتًا كالصرخة، وقبلّها بقوة، فابتسم حاملو الكاميرات والميكروفونات وهزوا رؤوسهم في رضا. ثم ترك أبي أمي، ونظر إلي وأصدر فجأة صوت إختناق خفيض، نوع من الحشرجة في مؤخرة حلقه، كالصوت الذي يصدره الأرنب عندما تحمله رغمًا عنه. ارتبكت يدُ أبي أمامه، وتخشبت قدماه وهو قادم نحوي، عانقني وكأنني مبتلةً وكأنه يخشى على ثيابه الجديدة مني، بالرغم من أنه كان يرتدي قميصًا سخيفًا.

وُضِعت جميع رسائل أبي –بما فيهم الرسائل التي تلقيتها في سايجون والصور– في صندوق خلف خزانة غرفتي؛ يفوح من خزانتي رائحة عطري، وتمتلئ بما يتناسب لأذهب به للمدرسة من جميل الثياب. قليل من يقدرون على التعبير عن مشاعرهم بكلمات، خاصة وإن كانت مكتوبة. قليل أمام الكاميرا من يستطيع أن يُظهر على وجهه ما يجب إظهاره. سنوات من الكلمات السطحية، والتحديق في الشمس، يصعب علي نسيان تلك الأمور. جلستُ اليوم طوال النهار بالخارج مع صراصير الخشب والنمل الحفار، ورائحة العفن وتسوس الخشب، جلست في كوخ التخزين خلف منزلنا، أتعرق بشدة، يقطر العرق من أنفي وذقني. رسائل كثيرة في حجري، يقول أبي في إحدى الرسائل للحكومة الأمريكية: «لو كانت امرأة بيضاء لعينة، لو كانت راقصة بالية روسية[9] مع ابنتها لكانت على متن طائرة في غضون أربعة وعشرين ساعة. إنهما زوجتي وابنتي. ابنتي جميلة جدًا، تستحق أن تضعوا وجهها على العملات المعدنية، العشر سنتات والخمسة وعشرون، لن يفك أحد نقودًا دون أن يتوقف ويقول: ‹يا إلهي، يا له من وجه جميل›». أقرأ هذه الرسالة الآن، مختبئةٌ في كوخ التخزين، بعيدةٌ عن كل عين، غارقةٌ في العرق، يذكرني ذلك بالفترة بين الشتاء والصيف في سايجون. أعرف أن أبي سيكون هنا بعد قليل، لأن جزازة العشب هنا في إحدى الزوايا، عندما استيقظ هذا الصباح قال: «السماء صافية، سيكون يومًا حارًا، سأقص العشب». سأتركه يراني هنا عندما يفتح الباب، وسأطلب منه أن يتحدث إلي كما كان يتحدث في تلك الرسائل؛ عرف ما يجب قوله عندما كان شديد الغضب من شخص غريب.


[1] كتب باولز: سلسلة محلات لبيع الكتب في بورتلاند بولاية اوريجون.

[2] سايجون: عاصمة جمهورية فيتنام الجنوبية في ذلك الوقت. (المترجم)

[3] أبناء الغبار: كان يطلق على الطفل الذي له أب أمريكي غادر بعد الحرب، وأم فيتنامية بقت في فيتنام بعد مغادرة زوجها. وتستخدمه فران هنا للتعبير عن عدم وضوح هويتها، مُغبرَّة الوجه. (المترجم)  

[4] هو تشي منه: يعتبر مؤسس الحزب الشيوعي الفيتنامي، وله دور رئيسي في استقلال فيتنام من اليابان في 1945، وعلى إثر ذلك الاستقلال أصبح رئيسًا لفيتنام الشمالية. مات عام 1969 قبل أن يحقق حلمه بتحرير الجنوب وإقامة دولة موحدة؛ عندما سقطت سايجون عاصمة الجنوب غيروا اسمها لـ«هو تشي منه» تكريمًا له. وكتب أحمد فؤاد نجم قصيدة في رثائه. (المترجم)

[5] إذا نطقت «هو تشي منه» في اللغة الفيتنامية بطريقة معينة ستعني حينها «معجون نشا شهي جدًا»، وهو نوع من التلاعب اللغوي كان رائجًا حينها في فيتنام، مثال: بعد سقوط سايجون كان الفيتناميون يقولون عن صورة هو تشي منه أنهم سيحبون أن «lộng kiếng» بمعنى ضعوها في في إطار زجاجي ولكن ما يقصدون قوله فعليًا هو «liệng cống» بمعنى رميه في مجاري الصرف. (المترجم)

[6] أهو ثاي «aó dài»: لباس فيتنامي تقليدي. (المؤلف)

[7] مزرعة تعاونية: مزارع جماعية تعتمد على الملكية المشتركة للموارد وتجميع العمل والدخل وفقًا للمبادئ النظرية للمنظمات التعاونية. (المترجم)

[8] قصة من التراث الشعبي الفيتنامي، وتتشابه مع قصة كهف أفلاطون الرمزية. (المترجم)

[9] يشير للتهديد الشيوعي، الذي يراه باتلر السبب الرئيسي للحرب. (المترجم)


الترجمة خاصة بـBoring Book.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.