اعترفت زوجة ترافن أنّ زوجها عاش ما يشبه عشرة أرواح، واخترع هويات عديدة؛ من بينها برونو ترافن، وريت ماروت، وهال كروفس، وموريس ريثناو، وأوتو فايجه، وترافس تورسفان، ومارتينيز، وترافن روبرت ماروت، وكويتز أولي، وهاينريش أوتو باكري، والعشرات غيرهم.

برونو ترافن.. بطل بألف وجه

مقال: أحمد الزناتي

برونو ترافن عن موقع People's World


برونو ترافن هو الاسم المُتداول لواحد من أكثر أدباء القرن العشرين إغراقًا في الغموض والتخفي. ثمّة من يزعم أنه مولود في 22 فبراير 1882، ويقول آخرون إنه من مواليد 25 فبراير من العام نفسه، وهناك من يؤكّد أنه ولِد في 3 مايو 1890. قال بعض أصدقائه إنه من مواليد الولايات المتحدة، بينما تشير تقارير صحافية إلى أنه من مواليد ألمانيا، مُستندةً إلى كتابة أعماله الأولى باللغة الألمانية.

ظلّت هوية ترافن الحقيقية مجهولة لفترة طويلة. فبالنسبة للبعض هو برونو ترافن، الروائي الأمريكي المولود في شيكاجو، وبالنسبة لآخرين هو أوتو فايجِه، الكاتب الألماني الهارب من العدالة لأفكاره الفوضوية الهدّامة، وبعض الصحافيين على اقتناع أنه موريس ريثناو، الابن المارق لمؤسس شركة آي جي متعددة الجنسيات، بينما يزعم مؤرخون أنه ابن غير شرعي لفيلهلم الثاني، قيصر الرايخ الألماني وأم ألمانية كانت تشتغل بالتمثيل في أمريكا.

كشفت أبحاث أخرى عن اسم رابع له هو: ريت ماروت، الكاتب الفوضوي، الألماني الأصل، الذي فرّ إلى المكسيك سنة 1926، ومات فيها سنة 1969. بذل ترافن جهودًا مُضنية طوال حياته لتجنب أيّ اتصال مع وسائل الإعلام، مما دفع باحثون إلى غربلة الأكاذيب والحقائق المرتبطة بحياته الشخصية وهويّته الحقيقية التي ما تزال حتى اليوم موضع أسئلة وتكهنات. نُشرت كتب عديدة تحاول سبر أغوار حياته، من أهمّها الكتاب الذي نناقشه هنا. 

***

في سنة 2005 أصدر  الأكاديمي البريطاني روي باتيمان، الأستاذ غير المتفرّغ بجامعة كاليفورنيا كتابًا بعنوان الرجل الذي لا يعرفه أحد: برونو ترافن؛ حياته وأعماله، حاول فيه جمع الأخبار والحكايات المتناقضة حول حياة ترافن وهويّته الحقيقية، والتي لم يفلح أحد في كشفها على نحو حاسمٍ حتى بعد وفاته. في هذا الكتاب قدّم باتيمان أبحاثًا وافتراضات حول حقيقة ب. ترافن، مُتنقلًا بين الشخصيات المتعدّدة التي تقمّصها الرجل، ومُناقشًا أعماله المكتوبة باللغتين الإنجليزية والألمانية، مع التركيز على روايتيّ سفينة الموتى ورواية كنز السييرا مادارا. نراجع في السطور القادمة أهمّ النقاط الواردة في الكتاب.

بعد نشر أعماله الأولى في منتصف العشرينيات من القرن الماضي ظهرت تكهنات عديدة حول الهويّة الحقيقة لترافن، بسبب تشابه أسلوبه الروائي حدّ التطابق مع أسلوب الناشط الفوضويّ ريت ماروت، أحد المحرّضين على احتجاجات عمال بافاريا الدموية سنة 1919، والتي سُحِقتْ من قبل القوات الحكومية، ليُعتقلَ ترافن بعدها، ويواجه عقوبة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى، لكنه ينفذ بجلده قبل تنفيذ حُكم الإعدام بساعات، ليظهر في لندن بعد هروبه بأيام قليلة. 

توجّه ترافن بعدها إلى السفارة الأمريكية في لندن، وقدّمَ طلبًا للحصول على جواز سفر أمريكي بدل فاقد، لكنه خضع لسلسلة من التحقيقات بسبب مظهره الغريب وتضارب رواياته. الطريف أنّ ماروت/ ترافن في أثناء التحقيقات روى قصصًا محبوكةً بمهارة فائقة عن أصله، واختلق العديد من الأسماء المزيفة. ففي البداية حاول إقناع موظفي القنصلية الأمريكية في لندن بقبوله كمواطن أمريكي المولد، مُدعيًا ​أن سجلات ميلاده قد فُقِدت في زلزال سان فرانسيسكو عام 1906، وحكى تاريخ حياته في شيكاجو بأدقّ التفاصيل. فلما فشل في ذلك، حاول إقناع سلطات دائرة الهجرة البريطانية أنّه مواطن ألماني اسمه أوتو فايجِه، وأعطاهم عنوان عائلته.

تواصل المحقّقون مع عائلة أوتو فايجِه، فاكتشفوا المفاجأة؛ أكّدتْ عائلة فايجِه من خلال صور العائلة وبعض الأوراق الرسمية أنّ لديهم ابنًا يُدعى أوتو، انخرط في سنوات شبابه الأولى في الحركات الفوضوية المتطرّفة في ألمانيا، وظلّ مُلاحَقًا حتى اختفائه. لم تكتف الشرطة البريطانية بذلك، فأرسلت محققًا من سكوتلاند يارد لزيارة والدة فايجِه، للاستفسار إن كان لديها ابنًا يُدعى أوتو. أكدت الأم المعلومة، وأظهرتْ صورة ابنها أوتو، الذي كان شديد الشبه بترافن، لكنها أنكرتْ معرفة مكانه، خوفًا على ابنها الهارب.

بعد شهور من التلاعب بالمحقّقين، أخفقت السلطات الأمريكية والبريطانية في الوصول إلى تحديد هويّة ترافن الحقيقية تحديدًا نهائيًا وقاطعًا. فأمام تعدّد حكاياته لم تملك جهات التحقيق سوى إخلاء سبيله، لتقلّه سفينة تجارية إلى المكسيك حيث عاش معظم سنوات حياته، ومارس مهنًا كثيرة، منها عامل في مزارع، وموزّع كتب، ومترجم، وميكانيكي، ومصرفيّ، إلى جانب مواصلة الكتابة والمقالات حتى وافته المنيّة في السادس والعشرين من مارس سنة 1969. 

***

أورد كتاب روي باتيمان تقريرًا استقصائيًا نشرته صحيفة نيويورك تايمز سنة 1990، يضمّ شهادة أرملة برونو ترافن، أماطت فيه اللثام عن شخصية زوجها. كما شمل التقرير شهادات أكاديميين متخصّصين في أدب ترافن وأصدقاء قدامى.

بعد سنوات من الصمت والتشويش المتعمّد على هوية زوجها، قالت السيدة روسا إلينا لوجان إنها قررت كشف الغموض المحيط بشخصية بترافن. ففي مقابلة أُجريت في منزلها وسط مدينة مكسيكو سيتي حيث عاشت قرابة عقدين مع الكاتب وابنتيها من زواج سابق، اعترفت أنّ زوجها عاش ما يشبه عشرة أرواح، واخترع هويات عديدة؛ من بينها برونو ترافن، وريت ماروت، وهال كروفس، وموريس ريثناو، وأوتو فايجه، وترافس تورسفان، ومارتينيز، وترافن روبرت ماروت، وكويتز أولي، وهاينريش أوتو باكري، والعشرات غيرهم. يقول باتيمان: «الحقيقة الوحيدة أنّ هؤلاء جميعهم كانوا بُدلاء لشخص واحد، استقرّ مخترعها على اسم واحد وهو برونو ترافن».

تواصل أرملة الكاتب حديثها قائلةً: «أخبرني ترافن أنه بمجرد وفاته، يمكنني إخبار الناس أنه كان روت ماروت، ولكن ليس قبل وفاته، كان ترافن خائفًا من تسليمه إلى السلطات الألمانية، وكان عليّ الكذب دائمًا إنقاذًا لزوجي». وأضافت السيدة لوجان، 74 سنة وقت إجراء المقابلة، أنها لم تكشف في مقابلاتها السابقة عن معرفتها بهوية زوجها حتى بعد وفاته، مشيرةً إلى أنّ خوف ترافن من إعادته إلى ألمانيا نبع من تورطه في السياسة مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى كمحرر لمجلة فوضوية تدعى «Der Ziegelbrenner»، وتحريض العمال على ثورةٍ شبيهة بالثورة البلشفية في روسيا.

تتوالى الحقائق، فيكشف المخرج السينمائي المكسيكي جابرييل فيجويروا، الصديق المقرّب من ترافن واقعة هروب صديقه من مصير الإعدام بقوله: «الرواية التي أخبرني بها ترافن عن كيفية هروبه هي أنه كان مكبلًا بالأصفاد، ووُضِعَ على متن شاحنة تقلّه إلى مكانٍ ناءٍ لتفيذ حُكم الإعدام بإطلاق النار عليه. لكن الشاحنة لم تغلق بإحكام. ويبدو أنّ السائق كان متواطئًا مع ترافن بشكل أو بآخر. أخبرني ترافن أنّه ركل باب الشاحنة وقفز مع سجين آخر، لكن رفيقه، الذي كان مقيّد اليدين أيضًا، سقط على رأسه ومات على الفور. أذكر أنّ لترافن ندبةً كبيرة جداً فوق معصمه، مثل شخص ظل مكبلًا لفترة طويلة في الأصفاد».

وفي شهادةٍ أخرى قال بروفيسور كارلوس جوثكه، أستاذ الدراسات الجرمانية في جامعة هارفرد، ومؤلّف كتاب ترافن: سيرة ذاتية للغزٍ غامض: «لا أستبعد ولادة ترافن على الأراضي الأميركية، يغلب ظنّي أنّه ابن ممثلة ألمانية عاشت في الولايات المتحدة، وعادت به إلى ألمانيا عندما كان طفلًا. أعتقد أن ترافن وماروت هما شخصٌ واحد».

***

تواصل أرملة ترافن ذكرياتها عن ترافن بقولها: «كان ترافن يقول لي: أنا أكثر حرية من أي شخص آخر، أنا حر في اختيار والدَيّ، وحرّ في اختيار البلد الذي أعيش فيه، وحرّ في اختيار السِّنّ الذي يروق لي. الحقيقة أن ترافن لم يعرف كيف ولا أين ولد، سأفشيكم سرًا: لم يكن لدى ترافن شهادة ميلاد قطّ». والحقيقة أنّ العديد من مؤرّخي الأدب والنقاد، من بينهم روي باتيمان، يشكّكون في شهادة أرملة ترافن، ويعدّون ما قالته بمثابة مواصلة للعبة ترافن المفضّلة التي بدأها في حياته، وأراد لها الاستمرار حتى بعد رحيله؛ لعبة البُدلاء.

كتب ترافن في المكسيك دستة من الروايات، وعددًا من القصص القصيرة، أشهرها رواية كنز السييرا مادارا، التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي سنة 1948 من بطولة همفري بوجارت، وإخراج جون هيوستون. وبعد التعاقد على التصوير تواصلت الشركة المُنتجة مع ترافين عبر صندوق بريده المكسيكي، وسألته أن يعمل مستشارًا مدفوع الأجر خلال فترة التصوير. ولحبكِ القصّة رحب ترافن في البداية، لكن اعتذر بعد يومين عن تلبية طلب الشركة متذرعًا بوعكة صحيّة مفاجأة، ومقترحًا إرسال صديق مقرب على دراية بتفاصيل الرواية اسمه هال كروفس لتقديم الدعم والمشورة في غيابه. حامت الشكوك حول هوية هال كروفس، الذي بقي لمدة أسبوعين في أثناء تصوير الفيلم، وأبدى ملاحظات لا تخرج إلا من كاتب قصة الفيلم، وبعد انتهاء التصوير وعرض الفيلم، أكدت صور فوتوغرافية التقِطتْ لكروفس في موقع التصوير أنّه لم يكن سوى ترافن نفسه.

كتب ترافن رواية أخرى شهيرة ومهمّة، هي سفينة الموتى، صدرت باللغة الألمانية سنة 1926 (ولها ترجمة عربية) بالإضافة إلى تأليف ستّ روايات متتابعة صدرت في السنوات التالية.

طوال حياته في المكسيك أبقى ترافن نفسه على مسافةٍ من الجميع، مُحتفظًا بدائرة محدودة من الأصدقاء، وأسدل ستائر مُعتمة على هويّته الحقيقية، محتفظًا بسرّه لنفسه، ومكرسًا نفسه للكتابة الروائية والقصصية، متنقلًا بين أسماء مختلفة وهويات متعددة حتى وفاته.  قرّر الانكفاء على ذاته، وقطع جميع الخيوط التي تربطه بماضٍ أسود دُفن معه بعد وفاته.

قبل وفاته بسنتيْن، أي في سنة 1967 وافق ترافن على إجراء مقابلة صحفية مع صحافي شاب، سأله بصراحة: من أنتَ بحق الجحيم؟ فأجاب ترافن: «لا ينبغي للكاتب أن تكون له سيرة ذاتية بخلاف أعماله، فحياة الكاتب الشخصية ليست ذات شأن، نحن نكتب لنعرفَ أنفسنا، ولو كنت أعرفُ مَنْ أنا، لما تمكنّت من مواصلة الكتابة، ولا من إنجاز الروايات التي ألفتها».


المقال خاص بـ Boring Books.

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.