عندما كنت أذهب لشراء الطعام، وكلما أرى النساء يرتدين الشرابات الحريرية، كان قلبي يرقص. إن المرأة بدون زينة كطاووس أجرب. كنت كلما أرى زينة الآخرين يحمر وجهي من الغضب والحسد والحقد، وتنهمر من عينيّ الدموع.

ترجمة: محمد عبد السلام

عمر سيف الدين حتيقوه (1884 – 1920) من رواد الأدب التركي، يُلقّب بمؤسس القصة القصيرة في تركيا.

تفصيلة من لوحة هاينس كينج، كاتبة الرسالة


خطاب من «باريدا» إلى «رايكا»

لقد رأيتك البارحة، وصحت بالقدر الذي يخرج من رئتاي الهرمتين: آه آه آه. لو لم تكن عربتك تبتعد بسرعة لكنت ألقيت نفسي عليها حتماً وأنقذتك. أن أصادفك على حافة جرف مزهر، تكمن في أسفله هاوية من البؤس، أي ألم عميق هذا بالنسبة لي! قولي، إلى أين كنت تذهبين، أيتها الفتاة المسكينة البريئة من الشارع المنعزل في سلطان تبة، الذي تنمو على أرصفته الأعشاب الضارة، يا ابنة البيت المقدس البريئة، أيتها الوقورة الهادئة المتواضعة النظيفة.. قولي لي إلى أين كنت تذهبين؟

ليس لأي مكان!

ستقولين.. كلا. كلا، لا تنكري. أنا متأكدة من عيناي، ورائك كان يوجد معطف لا يمكن صناعته بمئة ليرة. لم تعجبني إطلاقاً تلك المرأة التي كانت بجوارك. العربة التي كنت تركبينها طارت صوب تقسيم. من المؤكد أنها توقفت في نيشان تاشي أو في شيشلي. وأنت دخلت لمنزل رائع، منزل تبدو فيه الخمسمئة ليرة أو الألف ليرة كأنها خمسة قروش أو عشرة قروش. إن البيت الذي يبهر العيون بعظمة واجهته وزخرفة مدخله وتماثيله الرخامية وسجاجيده الثقيلة وڨازاته البلّورية الكهربائية، إن هذا البيت لهو مصيدة للطهارة. يدخل الإنسان إلى هناك بسعادة، ويكون سعيداً للحظة. ولكن لا يمكن أن يخرج مرة أخرى. إن عشق الزينة هو ما يجر الفتيات المسكينات مثلك لهذا الفخ. أولا يمكن الحصول على هذا العشق المشؤوم بطريقة شرعية؟ أولا يمكننا أن نتأنق من دون أن تتسخ تنانيرنا؟ لقد فكرت ملياً بشأن هذا، وفي النهاية اكتشفت سر التجمل بالبقاء نقية وبريئة وملتزمة بالأخلاق.

نعم إن قلب المرأة واحد، هكذا علموني. ولكننا كنا فقراء لأقصى حد. بعد وفاة أبي كنا نعيش بالستين قرشًا التي تُعطى لأمي. وصل بؤسنا أقصى مداه ونحن في المعركة. عندما كنت أذهب لشراء الطعام، وكلما أرى النساء يرتدين الشرابات الحريرية، كان قلبي يرقص. إن المرأة بدون زينة كطاووس أجرب. كنت كلما أرى زينة الآخرين يحمر وجهي من الغضب والحسد والحقد، وتنهمر من عينيّ الدموع. كنت أزيل حجابي ويبدأ قلبي بالخفقان بسرعة، ومن داخلي أقول: ماذا يجب أن أفعل لأجل أن أستطيع التزين؟ لأجل أن أرتدي ملابس جيدة؟ ماذا يجب أن أفعل يا ربي؟ إن همي هو الوصول إلى الزوج. ليس فقط الموظف المتواضع بل وحتى الرجال متوسطو الحال لم يعودوا قادرين على إرضاء هذا العشق الأنثوي. إن أشياء المرأة وزينتها أثقل من الذهب. عندما يتطلب إطعام إنسان واحد في اليوم ليرة واحدة على الأقل، فلا يستطيع رب الأسرة أن يشتري بذلة بتكلفة ٢٠٠ ليرة. إن أغلبية الأغنياء الجدد هم رجال متزوجون ذوو عقول عتيقة الطراز. وأن تتخيلي الزواج بواحد منهم لهو حلم لطيف، تماماً كانتظار أن تكون ورقة اليانصيب الكبرى من نصيبك. إن النساء الظريفات والمتزينات بعناية فائقة لهن أيضاً مصادر رزق مذهلة. زميلتنا في الدراسة، جليلة، هي واحدة من هؤلاء. زوجها في النهاية أصبح موظفاً يتقاضى ثلاثة آلاف قرش. رأيتها، وأنتِ تعرفين كم نحن مقربين، وشكوت همي، وأخبرتها بكل أسى عن المرارة التي قاسيتها في سبيل أن أرتدي ملابس جميلة. أغضبتها حالتي جداً، وبدأت تضحك بشكل مبالغ فيه.. قالت: «احصلي على زوج».

«أين يمكنني أن أعثر لنفسي على زوج يُلبسني مثلك؟»

«زوجك لن يُلبسك، فلتلبسي أنتِ نفسك».

«كيف؟»

«مثلي».

«ألا يأتي لكِ زوجك بالملابس؟»

«أنتِ مجنونة يا بيردا، هل هذا ممكن؟»

«إذاً من يأتي لكِ بها؟»

«عندما تتزوجين ستعلمين».

«من؟ من؟»

لم تقل هذا لي. أجبرتها. كانت فقط تضحك، وفي النهاية سألتها: «ألا يسألك زوجك من يأتي لكِ بتلك الملابس؟»

«سأقول له».

«ماذا ستقولين؟»

«سأقول: صديقتي الفُلانية زوجها تاجر وعثر على صفقة قماش. مثلاً، ما يباع سعر الذراع منه بعشرين ليرة سأدعي أنه بخمس ليرات. يقول لي: «ليس عندي مال لهذا»، فأقول له: «أنت لن تدفع مُقدماً، فقط خمس ليرات كل شهر». عندئذ يكون راضياً ولا يملك أي فكرة عن المال الذي أعطيه للخياطين. يعتقد أني أخيطهم بالآلة عندما يكون في العمل نهاراً.

«و هل هذا يصح؟»

«يا حلوة إن الرجال لا يعرفون أن العالم تغير، يعتقدون أن الرداء يُخاط بصوف الثياب. باختصار، يعطيني زوجي خمس ليرات كل شهر. أن أشتري ملابس لكل جسدي ورأسي بهذا المبلغ هو ضرب من الخيال. أنا أراها في عينيك، أنت تقولين: ‹إنك تسرفين في ما يتعلق بملابسك يا جليلة!›، لكن أنا يجب أن أحصل كل شهر على حذاء يكلف ٤٥ ليرة لكل فردة. اشتريت البارحة سترة حريرية بنفسجية اللون بسبعين ليرة».


لقد أخبرتني جليلة كل شئ ما عدا منبع تلك الزينة الاستثنائية. كانت تقول: «أصرف على زينتي أكثر من ألف ليرة سنوياً». ولكني وجدت المنبع في عقلي. إن الحياة الكاذبة أكثر استحالة عندي من الانحلال. ولكني كنت أراجع قلبي، لم يكن لدي أي هوس أو عشق أو رغبة إلا للتأنق. بينما كنت مضطربة في تلك الأوقات مددت يدي لجريدة، وهناك رأيت إعلاناً لخياط. لم أكن أعلم بعد أين يقع محل الخياطة الكبير هذا. عرفت وذهبت. دخلت إلى الورشة. إنه حقاً عالم آخر. جنة، جنة الزينة. التقيت بالخياط الكبير وكان قلبي يخفق بشدة. لم أكن لآخذ يومية، بل ثلاثين ليرة في الشهر، فماذا أستطيع أن أفعل بها؟ أعجبوا بعملي وقدرتي. وعرضت عليهم هذا العرض: «أنا لا أريد يومية ولا أي شيء من هذا القبيل، لكن ستعطيني قماش ‹كدين› وتخيطه لي في الورشة مجاناً».

بدت رغبتي هذه للخياط غريبة ولكن جميلة. وعدني أنه سيحتال على المدير. وبعد يومين كنت أعمل كخياطة. في الشهر الأول اشتريت لنفسي بذلة في منتهى الجمال. وكنت أضع القمصان التي أصنعها في البيت مساء في واجهات المحل. في الشهر الثاني أصبحت تكلفة ما أرتديه تتجاوز المئة ليرة. كنت متأنقة. في العبّارة وفي الطريق كان الجميع ينظر إلى. بعد ستة أشهر، لم يدخل إلى المحل مشترٍ متأنق مثلي. كان المشترون يرون ملابسي ويقولون «لتكن مثل تلك التي على الهانم». عندما يرون أني أقوم بخدمتهم يتفاجؤون، وعندما يعلمون أني عاملة هناك يُصدمون.

كمكافأة لأناقتي جعلني محل الخياطة عارضة أزياء. الآن أرتدي أحدث وآخر صيحات الملابس جنباً إلى جنب مع أخذ يوميتي. كنت سعيدة. بدون حب وبدون زوج كنت سعيدة. بدون أن أفقد خُلقي أو عزة نفسي ولا أي شيء كنت سعيدة. كل المصائب التي كانت ستصيبني كانت بسبب إدمان  الزينة. عندما حصلت عليه بطريقة شرعية هكذا لم يعد لدي أي خوف من الحياة.

أنا أعرف روحك أيضاً. مثل كل النساء، أنتِ أيضاً تمشين على حافة الهاوية مع هذا الاحتياج لارتداء الملابس. رايكا لا، إن العاقل قليلاً لا يتدحرج إلى حافة البؤس. تعالي وافعلي مثلي. أى متعة أكبر من الحياة بين الأقمشة والملابس بالنسبة لنا نحن النساء؟ رؤية المئات من النساء الجميلات يومياً يرتدين ملابسهن، ومقارنة حُلينا في المرايا بحُليّ الأغنياء، والمناقشات حول الموضة. نعم إن ورشة الخياطة جذابة أكثر من ورش الرسم والنحت.

كم هو نظيف ونبيل هذا الحماس البديع الذي يُشعر به هناك. لا رائحة زيوت طلاء الرسامين ولا طين وأحجار النحاتين. ثم هناك معرفة أسرار جمال أكثر نساء إسطنبول لطفاً وأرقاهم. وهل تلك بالسعادة الصغيرة! ها أنا أدعوك إلى هنا من تلك الهاوية المدهشة التي تتجولين على حافتها. ليس هناك أي اتساخ، هنا فقط جمال. تعالي إلي يوم الجمعة، لنتحدث ولأجعل منك أنتِ أيضاً عارضة أزياء. ارتدي أجمل الثياب لكن لا تفقدي أخلاقك. هل يمكن؟ لأنه بعد اتساخ الروح لا تستطيع أبدع الزينات تجميل الانسان. هذه الجمعة.. حتما.. لا تهملي حذارًا! انتظريها.. إن خطابي هو صوت المخلص يدعوك لمعبده، لأن نهاية الهاوية التي تذهبين إليها هي جهنم الشنعاء.

قبلاتي لعيناكِ.


الترجمة خاصة بـBoring Book.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.