تتصف كتابات لاسلو بكونها عالم لا ينضب، فكل يوم هناك شيء جديد يمكن اكتشافه خلف السطور، يزيد من هذا قدرة الكاتب الفذة والكبيرة على السرد

ما الفوضى إلا الحالة الطبيعية للعالم

مقال علي الرميض


لاسلو كراسناهوركاي عن apokrif online

لاسلو كراسناهوركاي ملهمًا للسينما

يعتبر اسم لاسلو كراسناهوركاي اسمًا جديدًا على القارئ العربي، رغم ما تحفل به كتبه ومكانته في الأدب، بدأ لاسلو كسيناريست سينمائي، قبل أن يتجه للأدب بشكل كامل، إلا أن إنتاجه الأدبي بقي ملهمًا للسينما ولا سيما للمخرج المجري بيلا تار، الذي زوده لاسلو بموضوعات عديدة لأهم أفلامه، مقتبساً إياها من كتبه كفيلم "Sátántangó"، عن رواية "تانغو الخراب"، وفيلم تناغمات ميركمايستير "Werckmeister harmóniák"، عن رواية "كآبة المقاومة".

تنتمي أعمال لاسلو إلى تيار ما بعد الحداثة، وقد نشر ما يقارب الثماني روايات، إضافة إلى مجموعة قصصية والعديد من المقالات، إلا أنه لم ينقل له إلى العربية سوى "تانغو الخراب"، والتي تم نقلها للعربية في العام ٢٠١٦، إلا أن الترجمة العربية لها جاءت محرفة للعنوان، و"كآبة المقاومة"، التي حاز من خلالها على جائزة البوكر، وصدرت طبعتها العربية عام ٢٠٢٠، والترجمتين بواسطة دار التنوير، وترجمة الحارث النبهان.

ولد لاسلو عام 1954 في مدينة غولا في المجر، أي قبل عامين من دخول القوات السوفيتية بودابست، الكاتب الذي تتخذ كتبه شكلاً سوداوياً متوحش في تصوير الواقع وسياسة العالم الحديث، إلا أنه ينفي أنه من الواجب على الروائي الانشغال بالقضايا السياسية "المبدعون ليست لديهم أية واجبات على الإطلاق. فقط حرية بلا حدود، وإلا فإن البديل لذلك هو اليأس".

درس لاسلو الحقوق واللغة المجرية، غادر المجر عام 1987، ليقيم في برلين الغربية، كما تنقل بين عدة دول، ثم استقر مدة من الزمن بين منغوليا والصين، وخلال كتابة روايته "الحرب والحرب"، استقر في نيويورك في شقة الشاعر آلن غينسبرج.

الفوضى هي الحالة الطبيعية للعالم

قدم لاسلو كتابه "تانغو الخراب" عام 1985، ,والذي يعد أولى أعماله، ثم تلاه عام 1989 روايته "كآبة المقاومة"، أي في نهايات الحكم الشيوعي للمجر وانهياره، وفي العملين يواجهنا أسلوب لاسلو الصاخب، شديد الحساسية، بطابع كافكاوي مغلق، ونرى الشخصيات من الداخل قبل تكوين صورتها الخارجية أمامنا، نغوص في مشاعرها ونسمع أفكارها على نحو قاتم ومزعج في لحظات، نرى في الكتابين الخراب الذي حل بالمكان ونتعثر بالفوضى العارمة، يكبلنا الوحل ويزعجنا صوت المطر، وتتحسس أنوفنا رائحة القمامة والروث، وكأن هذه هي الحالة الطبيعة التي عليها الواقع، ولا شيء ينتهي أبداً.

والحديث هنا عن كتابي لاسلو ليس حديث مكتمل، بل هو محاولة للفهم،كون العملين يمثلان تحدي كبير للقارئ ويحفلان بقراءات عديدة ومتنوعة، كذلك الطابع الفلسفي والسياسي والاجتماعي الذي يزاوج به الكاتب، ويمزج به تركيب الحكايا والشخصيات، في سرد يكتنف الكثير من الرمزية بقدر ما يبدو أنه يتضمن من وضوح، ولا ينبع التعقيد هنا من الشخصيات، فالعنصر البشري ذات بنية بسيطة، إنما التعقيد هنا ينبع من عنصر آخر خارجي، يأخذ البشر في دوامته، بل يبدو أنه حتى أفكارهم المعقدة المحملة بالصراع هي وليدة عنصر آخر.

في "تانغو الخراب"، نحن أمام شخصيات مهمشة وضائعة وبائسة، في إحدى قرى المجر النائية، حيث مجموعة من القرويين البسطاء مقيدون بشرط إنساني ضيق وخانق، فهم محبوسون في قرية منعزلة وبعيدة فقدت موردها الاقتصادي، وظلوا بها غير قادرين على المغادرة منسيين ومهملين، ودارت حياتهم برتابة بين أوكارهم القذرة والمتصدعة، وبين الحانة التي يتجمعون فيها، وتفصلهم عنها وعن بيوتهم شوارع طينية ومطر غزير ومستمر، ويمضون على هذا الحال غارقون في التخيل والشرب في انتظار المخلص، "أرمياس"، والذي يأتي في النهاية.

تتقاطع الحكايا في جوانب كثيرة بين الكتابين، بغض النظر عن عنصر الشكل الدائري الذي يضيق في تانغو الخراب بينما يتسع ويكون فضفاضاً أكثر في كآبة المقاومة، ففي العمل الثاني ننتقل من القرية إلى فضاء المدينة، إذ يصور الكتاب سلسلة حوادث غامضة في مدينة صغيرة في المجر، تبدأ مع وصول سيرك متنقل يعرض حوتًا محنطًا هو الأضخم في العالم، فيثير وصوله شائعات غريبة، وتسري أقاويل تزعم أن للعاملين في السيرك غايات سرية خفية، يترافق هذا مع بعض الظواهر غير المفهومة، فيتشبث السكان المذعورون بأي شكل للنظام يستطيعون العثور عليه.

في العملين نرى الواقع ممسوخًا، الخراب يطغى على كل شيء، والعفن يتسلق حتى النفوس التي تغطيها طبقة سميكة من الصدأ والعجز والقلق، فتعلق برتابة تكرارية تضاعف من الفوضى التي يتعامل معها كل فرد كشيء جانبي لا يخصه على وجه التحديد، وينفي لاسلو تركيزه بشكل خاص على الفترة السياسية في المجر حينها، وهي فترة انهيار الشيوعية في بلاده، وترافق هذا مع حركات تمرد وسيادة الفوضى وانعدام أي شكل للنظام، بقدر ما يذهب إليه من هدف وهو النبش في نفسية الإنسان، بصفته شذوذ الطبيعة وعنصر مخرب لها، ويرد هذا في عدة مواقع في كتابيه، كخطاب السيد إزتر في كآبة المقاومة لنفسه: "إن القدرة البشرية الفريدة على بلوغ مستويات إهمال ولا مبالاة مذهلة للعقول قدرة، من غير شك لا حدود لها أبداً"، هذا التنقيب في النفس البشرية والذي يكشف عن جانب طاغي قاتم ومخرب، بصفته الأساس المكون لهذه النفس. 

من هنا جاءت كتابات لاسلو سوداوية خالية من البهجة مفعمة بنكهة تدميرية، ولم يكن هذا على صعيد القدرة على تصوير المكان فقط، والذي نرى من خلاله البيوت متداعية على شفا الانهيار، الجدران يغطيها طبقات متقشرة من الكلس وتسلقت شبكات العنكبوت والأعشاب الضارة كل حيز ومساحة، وإضافة للعجز عن الفعل ثمة عجز عن الحركة والسير بسبب الطين الذي يغطي الأراضي والمطر المتدفق بشكل مزعج في تانغو الخراب، والقمامة التي غطت الشوارع وبدأت تكشف عن وجه يبدو بديهي للمدينة، وسبحت جيوش من القطط الضالة في الشوارع، مع إنعدام أي مصدر للإنارة أو للإتصال مع الخارج في كآبة المقاومة، إذ ينتقل لاسلو لمستوى آخر وهو الاعتناء بتفاصيل حادة ودخوله في عقل الشخصيات والغوص في دهاليز شعورها، فنرى ما ترى الشخصية، نسمع بطريقتها، وننصت إلى هواجسها، ونلتصق بها من الداخل عند أي حركة، في قدرة فذة من الكاتب على رصد وتصوير المشاعر والأفكار، حتى تبدو لنا ملموسة ومرئية، أكثر منها حسية فقط، فنعلق في دوائر عدة بدءًا من حلقات الشخصية من هواجس وأفكار، وصولاً إلى دائرة الفضاء المحيط المكتظ بالفوضى، فيغدو شكل المكان الخارجي وما يكتنفه من خراب ودمار تجلى صارخ لبؤس الحالة الداخلية للشخصيات في ترابط مجازي سببي.

الموت يعني الاعتياد

تشترك روايات لاسلو بوجود منطقة من التساؤلات العدمية والقلقة لأشخاص منسيين في مكان ما، ثم يصل إليهم وافد جديد يعدهم بالخلاص، ووصول هذا الوافد يترافق بتغيرات جذرية في شكل النظام والحياة، يؤنسن هذا الوافد الخراب ويمنحه شكلاً آخرًا، ففي الوقت الذي لدينا فيه ظهور شخصية أرمياس في تانغو الخراب، لدينا أيضاً في الجانب الآخر من كآبة المقاومة قدوم السيرك والأمير المجهول وانبعاث شخصية السيدة إزتر القاسية والمتسلطة مدعية تخليص المدينة من الخراب الذي يعيث فيها، وتغرق شخوص العملين في عجز جماعي عن الفعل، تنتظر مصيرها وتؤمن أن الفعل لن يغير شيئًا، هي فقط تنظر إلى السماء منتظرة إشارة لقدوم مخلصها، تقرع الأجراس من مصدر مجهول في تانغو الخراب معلنة قدوم أرمياس، وتسقط شجرة الحور العملاقة، وتبدأ ساعة المدينة المحطمة منذ زمن بالعمل ويتحرك خزان المياه في ظاهرة غريبة في كآبة المقاومة معلنة قدوم السيرك وصعود شخصية السيدة إزتر، وخلال هذه الانتظار تقف الجموع في حالة تأمل وخنوع للظرف الراهن وتكتفي بالمراقبة فقط والهروب، بل تعتاد هذا وتعيش على اجترار الأحلام، فيكون أي خروج عن القطيع مصدر للخوف والازدراء، "صار الأمر متشابهاً كله، يوماً بعد يوم، صاروا يتناولون تشكيلة الطعام المحدودة نفسها عارفين أن الموت يعني الاعتياد… الحساء أولاً، ثم أطباق اللحم، ثم أخيراً، الوصول إلى أكل الجدران نفسها" (تانغو الخراب).

في الكتابين نحن أمام شخصيات سلبية وسوداوية للغاية، ضبابية ومكتئبة، تشبه إلى حد كبير الجو العام للعمل، تفضل السكر كطريقة للهروب، والتخيل كمحاولة للعيش، ويبدو هذا ربما واضح بشكل أكبر في تانغو الخراب، والذي نحن فيه ضمن بنية دائرية من حيث الشكل، خلافًا لكآبة المقاومة التي تتخذ بينة السرد الشكلية فيها تمهيد وخاتمة يتخللها المتن دون فواصل أو فقرات، مع الكثير من الجمل الاعتراضية رغم الضخامة التي يتصف بها الكتاب، وبالعودة لتانغو الخراب نجد أن للبنية الدائرية دور كبير في فهم العمل الذي يتألف من جزأين ويضم كل جزء ستة فصول في سرد للأحداث بالتوازي، فنحن لسنا ضمن خط سرد مستقيم، إنما ضمن بنية روي مغلفة، الأمر الذي يجعل القارئ يعود إلى بعض النقاط التي بدأ منها، ويبدو أن هذا ما أرده لاسلو.

وللعمل أكثر من قراءة إحداها تحمل رمزية سياسية والأخرى تتخذ بعدًا فلسفيًا، وهذا الأخير يصب في البنية الدائرية للعمل، ففي الكتابين نحن في الزمن الحاضر ونرصد المخاض الذي تتضمنه الفترة الراهنة، إلا أن هذا الحاضر مرتبط بشكل كبير بالماضي والمستقبل، وهذا يكون واضحًا في تانغو الخراب بشخصية الطبيب، فهو الذي سيربط الماضي بالمستقبل مروراً بالحاضر، وهذا يرينا تأثر الكاتب بفلسفة كيركيجارد بما يتعلق بحالة المتناهي واللامتناهي، وكذلك بفكرة العود الأبدي لنيتشه، ومن هنا فنحن بالتالي لا نسير مع الكاتب في خط مستقيم، إنما في حلقة مستديرة ومغلقة.

ومع ظهور شخصية المخلص، يخرج لاسلو من الواقعية السوداء إلى الرومانسية، ويحتم ظهور هذا المخلص بشكل رمزي تقديم قربان، هذا القربان الذي تكون نتيجته انتحار الطفلة إيستي في تانغو الخراب، ومقتل السيدة بلوف والدة فالوسكا في كآبة المقاومة ونهايتها الهامشية والمأساوية. 

إلا أن الخلاص يتخذ شكلاً قاتم ومجهول، ويبدو أنه يعني الغرق في الاعتياد من جديد، "لن يكون هناك فائزون، في النهاية لا شيء ينتهي أبداً"، "يبدو أنه ما من مهرب أمامي! هذه الطريق أو تلك… إنني خاسر في الحالتين. سوف استيقظ غداً في غرفة غريبة حيث لا أعرف ما ينتظرني، وسيكون الأمر كما لو أنني صرت وحيداً… سأضع حوائجي القليلة على طاولة قرب السرير، إن كان قرب السرير طاولة، سأكون هناك محدقاً من النافذة وقت الغسق أنظر إلى ضوء النهار يذوي من جديد" (تانغو الخراب).

وفي كتابيه يمزج لاسلو في شخصية هذا المخلص صفات شيطانية وإلهية، مضيفًا عليها هالة الشخصية الكاريزماتية، فقد يذهب البعض بشخصية إرمياس إلى النبي إرميا المتنبئ بخراب القدس، إضافة إلى بعض صفات المسيح، إلى جانب ما يبدو واضح من تأثر الكاتب بكافكا وبيكيت، إذ تكون سمة الانتظار واضحة لدى شخصيات لاسلو التي تنتظر مخلصها، تنتظر غودو، كذلك الأجواء العبثية والسريالية في مسار بعض الأحداث وتصويرها، ففي حين نرى في كآبة المقاومة العديد من الظواهر الغريبة، كالرعب الذي يبعثه شخص الأمير غير المعروف، الحوت ورحيل السيدة بلوف وموت الأشجار، نسمع في تانغو الخراب صوت الأجراس التي لا مصدر واضح لها، وكيف تحلق جثة الفتاة إيستي إلى السماء، وكأن السماء تسترد ما بقي من براءة، بين أفراد باتوا يغوصون في وحل الخطيئة. 

يقول كيركيجارد: "كلما عانى المرء أكثر، في اعتقادي، يتولد لديه شعور بالهزل، كلما تعاظم شعورنا بالألم نتحرر من الضياع". وانطلاقًا من هذه النقطة نجد المخلص هنا يواجههم بالذنب، كما نرى في خطبة السيدة إزتر بعد أن بسطت سيطرتها على المدينة، وأرمياس الذي يلقي كلمة طويلة على سكان المزرعة، والتي سيحملهم من خلالها مسؤولية وقوع المأساة، موت الطفلة إيستي، والخراب الذي غطى كل شيء حولهم، كما يؤكد على أن اليأس موجود وعلينا التعامل معه ومع كل مخلفات هذا البؤس الأزلي، ومن خلال هذا فقط نحصل على خلاصنا.

إلا أن الإنسان عند لاسلو كما يبدو من الصعب أن يتحرر من بؤسه، كما أن النفس البشرية مسكونة بقلق دائم، شيء جذري، لذلك ستلجأ لصيغ تخريبية في التعايش مع هذا البؤس لا السعي إلى التحرر منه، فيكون لدى لاسلو هنا فرد وقطيع، يكون هذا الفرد المختلف أما شيطاني متسلق ذو هالة سحرية إرميارس، السيدة إزتر، والأمير، وإما مدرك وعارف، هذه المعرفة التي لم تزده إلا انهزامية وتقوقع بعد أن يأس من أي محاولة إصلاح أو تجانس مع القطيع، كالطبيب، والسيد إزتر الموسيقي المتقاعد والمحبط، "أدرك أن المعرفة تقوده إما إلى الوهم التام، أو إلى حالة اكتئاب غير عقلانية". "هذا كله بسببنا. لقد فشلنا في أفكارنا وأفعالنا ومخيلاتنا، بل حتى في محاولاتنا لفهم سبب فشلنا. الحقيقة هي أننا لسنا أكثر من ضحايا بائسين لفشل قليل الأهمية، وأننا وحيدون في هذه الخليقة الرائعة؛ فالتاريخ البشري كله، ليس أكثر من تمثيل مسرحي يؤديه ممثل منبوذ، غبي، بليد، بائس في زاوية مظلمة قصية من زوايا خشبة مسرح هائلة الاتساع، نوع من اعتراف معذب بالخطأ، وإقرار بطيء بالحقيقة المؤلمة… حقيقة أن هذه الخليقة-نحن- ليست، بالضرورة، نجاحاً باهراً" (كآبة المقاومة).

الخراب وسيلة السلطة للصعود

قد يكون بإمكاننا أن ننطلق هنا من فكرة تحدث عنها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، رغم أن تأثير بورديو على الكاتب لا يبدو واضحاً بشكل كبير، إلا أنهما يلتقيان في عدة نقاط، وهذه إحداها، يقول بورديو: "لا تحكم لغة السلطة وتأمر إلا بمساعدة من تحكمهم، أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ، الذي يقوم على الجهالة والذي هو مصدر كل سلطة"، في ضوء هذا يمكننا النظر إلى الكتابين بسمة مشتركة، وهي الانكفاء الذي يغلفه الجهل والعجز، والبقاء في ظل القطيع والانجرار معه دون محاولة للفعل، إذ يوفر القطيع شعور الأمان الزائف والخضوع المتواطئ للسلطة، "أحس على الفور أنه أفضل حالاً لأنه كان قادراً على الجلوس هنا وقضاء وقته بين أشخاص آخرين، مطمئناً إلى معرفته بأن إصابته بالأذى تصبح أقل احتمالاً عندما يكون مع الآخرين"، فلا يحتاج المسيطر إلا لسلطة رمزية ترافقها القوة، لجعل الآخرين يتبعوه دون تردد، ولحدوث هذا، كان يتطلب التحول وإنجاز الأمر مزيدًا من الخراب، حطم سكان المزرعة مأواهم الوحيد، وغادروا بيوتهم بعد أن حولوها لركام، بعد قدوم أرمياس وإتباعهم له، في تانغو الخراب، وانتشرت الغوغاء في شوارع المدينة، يحرقون المشافي ويقتلون المرضى، وينهبون المحلات دون هدف واضح مذعنين بهذا للأمير والذي لم يكن قدومه وحشده إلا حيلة من السيدة إزتر، في كآبة المقاومة، فالجموع لم تكن بحاجة لتحريض بواسطة وسائل مختلفة، ولا خطاب من نوع خاص، الأمر فقط يكمن في استثمار السلطة لهذا الخراب، وفي مقدمتها خراب العقول القائم على الجهالة، للصعود وتكريس نفسها كمنقذ، بعد أن كرست المشكلات وضاعفت إحباطات الأمل، "كان أرمياس ملاك الأمل عند أُناس فقدوا الأمل وواجهوا صعوبات لا حل لها" (تانغو الخراب)، "لم يكن جر هذه الثلة يحتاج إلى ذكاء خاص، بل إلى توقيت دقيق للأحداث" (كآبة المقاومة).

تنبع أيضاً قدرة السلطة على فرض وجودها معرفتها الجيدة والعميقة بالواقع ومجرياته، وإدراكها آلية التفكير التي تحكم هذه الجماعة، من هنا تكون قدرتها على منح نفسها الفرادة والانطلاق من أرض صلبة، بينما الطرف الآخر يقف على رمال متحركة بوجود يحكمه الهشاشة وغياب الوعي، "لقد كانوا خدماً، وسيظلون خدماً إلى أن يموتوا، أعرف هؤلاء الناس مثلما أعرف كفي..ستجدهم جالسين في المكان نفسه تماماً، على الكرسي القذرة نفسها. إنهم ينتظرون! ينتظرون صابرين، كعهدهم دائماً، كعهد معاناتهم التي لا تنتهي؛ وستجدهم مقتنعين تماماً أن هناك من وضعهم في علبة. إنهم مثل خدم يعملون في قلعة أطلق سيدها النار على نفسه: يتجولون هنا وهناك في حيرة تامة ولا يعرفون ما يفعلون. إنهم عبيد فقدوا سيدهم لكنهم لا يستطيعون العيش من غير ما يطلقون عليه اسم الكبرياء والشرف والشجاعة. هذا ما يبقي أرواحهم في مكانها، ثم يتبعون ذلك الظل حيث يذهب كأنهم قطيع من الخراف لأنهم لا يستطيعون العيش من غير ظل يتبعونه، تماماً مثلما لا يستطيعون العيش من غير تباهٍ وخيلاء" (تانغو الخراب).

تتخذ السلطة هنا شكل تلاؤمي، إلا أن كل سلطة تحمل في رحمها قسريتها، وتمنح الفوضى شكلاً منظم، وفي العملين هناك خروج من المجتمع الخرب إلى المجتمع المؤسساتي، فبينما نرى أرمياس يخرج القرويين من فضاء القرية إلى المدينة وتحويلهم إلى مخبرين من دون وعي منهم لخدمة السلطة، تحول السيدة إزتر بعد أن تسيطر على المدينة من حولها إلى مريدين، فتغير ملامح المكان لتمنحه شكل رأسمالي خاضع لإرادة القوة، فيكون الهدف هو الاستثمار بهذه الجموع وتحويلها إلى حشود مستلبة يسحرها ألق وبريق السلطة، "يمكنكم أن تعملوا قدر ما تحبون، بعرباتكم وبفؤوسكم، لأننا سنبدأ بأرواحكم عما قريب" (كآبة المقاومة).

دوامة الرغبة الخطيرة

تتجسد الرغبة لدى شخصيات لاسلو كطيف شبحي مخيف، تهرب الشخصيات منه وتعود إليه في دوامة تكرارية، هي ترغب بالفعل، لكنها تخافه، لذا لا تسعى إليه سوى في خيالها، وفي الواقع الملموس لا تستجب سوى لرغبتها الشهوانية الآنية دون القيام بفعل جذري، نحن أمام أفراد يسكنها الخوف وأي تغيير يبدو تهديداً لوجودها، وأمام محاربة الرغبة وسحرها الطاغي يستوي الجميع، وحتى من يفكر في التمرد لا يلبث أن بنقاد مع السيل المتدفق للبؤس الذي يجرف الجماعة في تياره ويطغى على الواقع من حوله، مهما كانت معرفته وإدراكه لهذا الواقع والعالم على السواء، فالمعرفة هنا تتجلى كشيء حسي ناعم سهل التمزق أمام قوة الجهل، كما الطبيب في تانغو الخراب، والذي يعتزل الجميع ويعتكف في كوخه مكتفيًا بالمراقبة والشرب والتدخين، مراقبة يرصد من خلالها تفاصيل التفاصيل ويدونها، خوفًا من أن يخونه وعيه ويجرفه التيار في طريقه، حريصًا على بقاء احتكاكه بالبقية في الحدود الدنيا، ليكون هذا التدوين بالنسبة له بمثابة إنقاذ الذاكرة، إذ يمكن أن تكون حركة زائدة واحدة قناعًا تختفي ورائه علامات بداية الضعف والعطب، ليغرق في حالة قلق دائم جراء حبه المرضي للنظام، "كان يخشى أن تكون الرغبة في التغيير مجرد إشارة خفية على تراجع ذاكرته.. وهكذا اكتفى بألا يفعل شيئاً، في مواجهة التأكل الذي يودي بكل شيء حوله". إلا أنه رغم قلقه الوجودي، يبدو أنه هو الوحيد المستعد لقبول الموت، يشابه الطبيب لحد كبير هنا، شخصية السيد إزتر في كآبة المقاومة، فالآخر هنا أنزوى أيضًا، وأصابه وهن عام جعله غارقًا فقط في تحليلاته وبحثه الموسيقي، بعد أن أدرك أنه لن يمكنه إصلاح العالم بالموسيقى، فكان يرى من الأفضل انسحابه الاستراتيجي أمام الغباء المحزن لما يسمونه تقدمًا بشريًا، وتجلت لديه الرغبة كشعور قاتل من الأفضل التخلي عنه، إلا أنها لم تموت تماماً بسبب علاقته بفالوسكا بطلنا ذو الرأس السابح بين النجوم، إذ كان يرى فيه رؤيته المثالية للعالم، وامتلاكه براءة تحول دون فساده، "كان يحب الطبيعة الأثيرة المسالمة للكون لدى فالوسكا.. إلا أن وجود ظاهرة واحدة خارجة عن السياق غير كافية على وجود عالم جيد"، بالتالي يعود للقلق والاستسلام، لتبدو لنا المعرفة لمن اكتسبها لدى شخصيات لاسلو، ذات أثر يزيد من سلبيتها بالعلاقة مع المحيط، ولا تفرز سوى قلق الوجود وأرقه الدائم، وهذا ما يفصح عنه على لسان السيد إزتر، "الناس يتحدثون عن القيامة والحساب الأخير لأنهم لا يعرفون أنه لن تكون قيامة ولن يكون حساب أخير… فهما أمران لا يحققان أية غاية لأن العالم سوف ينهار- بكل سعادة- من تلقاء نفسه ويستحيل حطامًا وخرابًا، بحيث يمكن أن يبدأ كل شيء من جديد، ويستمر الأمر هكذا من غير نهاية، وهذا مماثل في وضوحه التام".

وتمثل السيدة شميدت في تانغو الخراب التجسيد الحي للرغبة، اندفاعاتها وصراعاتها ثم خبوها واندثارها، الرغبة الحسية المتمثلة بالجسد والحلم معًا، شخصية حالمة، صاحبة عاطفة صافية وحارقة، تتطلع لخلاصها الفردي وسط أفراد المزرعة الذين لا يسعون سوى للحصول على جسدها، والتودد لذلك بأشكال عدة، فيكون خيار الاستسلام حيلة تنتظر بها خلاصها، بعد أن وطنت نفسها على نوع من أمل الهروب، هذا الهروب الذي يقودها للدخول في علاقات جنسية كثيرة، خالية من أي شعور صادق لهذا الاندفاع، وحدها الأحلام التي تتراوح بين اليقظة والحلم ما كان يحافظ على رغبتها متقدة، وضاعفها الآن ظهور إرمياس الحبيب الغادر الذي ظنته ميتاً "شعت عيناها بغضاً وشيئاً يشبه الازدراء عندما نظرت إلى الوجوه الظليلة من حولها. أما في داخلها، فكانت تكاد تنفجر فرحاً. "إنني ذاهبة! موتوا جميعاً… موتوا كما أنتم. أرجو أن تصيبكم صاعقة. لماذا لا تموتون كلكم؟ موتوا الآن" امتلأ رأسها فجأة بخطط كبيرة غير محدودة، رأت أضواء وصفوفاً من المتاجر المنارة صادحة بأحدث الألحان، وسبحت أمام عينيها ملابس داخلية غالية الثمن، وجوارب وقبعات، رأت الفراء الناعم ذا الملمس البارد، ووجبات فطور وفيرة، ورحلات تسوق كبيرة، وليالي.. الليالي ترقص، أغمضت عينيها لعلها تستطيع سماع تلك الضوضاء، سماع تلك الجلبة، سماع ذلك الصخب الفرح من غير حدود".

 "كانت السيدة شميدت عصفورًا يطير سعيدًا عبر حليب الغيوم.. أحست بحرارة الشمس على ظهرها.. لم تكن راغبة في انتهاء ذلك كله. ظلت واقفة من غير أن تعرف ما يحدث حولها لم يتغير شيء في الخارج ولم يكن الوقت صباحًا ولا مساءً".

تبدو لنا الرغبة كشعور ودافع في عالم لاسلو إحساس صاخب ومدمر، لا يمكننا أتباعه ولا التخلي عنه، إنها علاقة جدلية بين البقاء والمضي دون فعل، وبين قلق الوجود وزواله، في عالم يبدو الخراب هو شكله الطبيعي، وهو النهاية الحتمية التي يسير باتجاهها، رغم ألق الحداثة في شكله الظاهري لمجتمعات اليوم والغد.

تتصف كتابات لاسلو بكونها عالم لا ينضب، فكل يوم هناك شيء جديد يمكن اكتشافه خلف السطور، يزيد من هذا قدرة الكاتب الفذة والكبيرة على السرد، ما جعل الكاتب يستطرد في بعض الأماكن بمناقشة وجهات نظر فلسفية وعلمية قد لا تعني بعض القراء، دون تكثيف للحدث الذي يصبح في بعض هذه الأماكن كشيء جانبي، إذ يستخدم لاسلو تيار الوعي بإفراط في هذه المواقع، بالتالي لا يفرز هذا الإسهاب عن تصاعد في سير الحكاية، ويتضح هذا بشكل خاص في كآبة المقاومة. 

وقد نلتمس تأثير نيتشه على لاسلو  بشكل كبير في تانغو الخراب، فبعد سرد الأحداث بالتوازي وبشكل دائري، يعنون الكاتب الفصل الأخير بـ"اكتمال الدائرة"، بالتالي يبدو أن ما يريده هو أن نقرأ العمل بشكل دائري، للفهم الكامل على صعيد الشكل والمضمون، وهذا ما يعيدنا إلى مقولة نيتشه: "إن كل اتجاه لخط مستقيم، هو اتجاه كاذب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله وأخره".

قد يبدو للقارئ عند اكتمال الدائرة وكأنه قد دخل فخًا بقدميه، فالعمل لا ينتهي بنهاية حلقته المستديرة، إنما يعلق القارئ في هذه الدائرة دون أن يرى نهاية واضحة له أو للشخصيات، فيجد نفسه مرغماً، على التنقيب والبحث والاكتشاف، والذي يأخذ بدوره شكل حلقة دائرية.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه