إن تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الرَّوَح بمدافعتها والروغان منها، فإنه لا راحة لك إلا في إصدراها، والضجر منها هو الذي يراكمها عليك.

مقتطفات من كتاب الحكمة الخالدة لمسكويه

تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي

تقديم واختيار أحمد الزناتي


تفصيلة من سقف جامع نائين، أصفهان، عن Wikimedia Commons

اعتاد عبد الرحمن بدوي تصدير أعماله بقائمة مؤلفاته المهولة، مُبوّبة إلى أقسام، منها مشروع ترجمة الروائع المئة، وكأن العُمر يتسع من بين ما يتسع إلى ترجمة مئة عمل من كل اللغات (الألمانية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية واللاتينية)؛ من آيشندورف ولورد بايرون وجوته وشيللر وريلكه، مرورًا بثيربانتس، وصولًا إلى بريشت وسارتر ولوركا ودورينمات، وتقديم عيون الفكر الغربي وشرح وتحليل المذاهب الفلسفية الأوروبية والتعريف بكبار روّادها، ولاسيما من الفلاسفة المثاليين الألمان، إلى جانب موسوعة الفلسفة والمستشرقين وتحقيق المخطوطات ونشر التراث العرفاني الإسلامي، وكتبه المؤلَّفة باللغات الأوروبية وترجمة سيرة ابن هشام إلى الفرنسية، وغير ذلك.

بدوي جامعة وطنية قائمة برأسها، كان من بين اهتماماته تحقيق مخطوطات التراث العربي بعامّة، والإسلامي بخاصّة. في سنة 1952 قدّم عبد الرحمن بدوي وللمرة الأولى تحقيق مخطوط كتاب الحكمة الخالدة «جاويدان خرد». يُصدِّر عبد الرحمن كتابه بالتأكيد على ارتباط موطن الشرق بالحِكَم والأمثال القصيرة والكلمات العامرة بمعاني الحكمة في الحياة، فالشرق يقدّس الكلمة إذ يبدأ العهد القديم بعبارة: «في البدء كانت الكلمة»، وفي القرآن الكريم «المسيح هو كلمة الله»، بمعنى أن الناس يهتدون به كما يهتدي الناس بكلام الله. أما على الصعيد العرفاني فنجد أقوال فيلون السكندري والأناجيل الغنوصية والثيوصوفية في أكمل صورها، كما نراها عند الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. يلاحظ بدوي أن أشد الكتب رواجًا في الشرق هي كتب الحكمة، سواء كانت في صيغة مناجاة أم كانت على هيئة نثر مطرد الفقرات (مزامير داود، سِفر الأمثال، سفر جامعة، إلخ)، ويغلو فيذهب إلى أن العقل الشرقي لم يستطع هضم صوان الفلسفة الإغريقية القديمة إلا بعد أن وُضعت لهم في صورة أمثال وحِكم قصيرة، أغلبها مُنتحل بحسب بدوي. بدوي هو بدوي، لا يترك القاريء قبل أن يرصَّ/ يستعرض أمامه سلسلة ممتدة من أسماء الكتب الموسومة فيذكر منها الكَلِم الروحانية في الحِكَم اليونانية لأبي الفرج بن هندو، وكتاب نوادر الفلاسفة لحُنين بن إسحق، الذي يُعنى بذكر نقوش خواتم الفلاسفة اليونانيين، وكتاب ابن عربي فصوص الحِكَم، وكذلك الحِكَم العطائية لابن عطاء الله السكندري. 

لكن بدوي يرى أن في هذا النوع من النصوص من الضرر أكبر ما فيها من النفع، فالكتاب إن أفاد من ناحية الموعظة واستلهام تجارب الآخرين، قد يصير قيدًا يشدّ النفس والعقل إلى قوالب فكرية مصنوعة ومعانٍ متعارفة. 

حقّق بدوي هذا الكتاب في سنة 1952، وربما سبقته سنتان أو أكثر من البحث كما تقول نهاية التصدير في مكتبات الفاتيكان وباريس وليدن والقاهرة. قسوة بدوي واضحة –كعادته– على هذا النوع من الأدب (الذي يُطلق عليه في الغرب Wisdom Literature)، فيقول إن انتشار أدب الحِكم والأمثال كان من أسباب ضعف الشرق وانحلاله، لأن الاكتفاء اللفظي يقوم مقام الطاقة الفاعلة (ربما يلاحظ القاريء حضور تأثير نيتشه الطاغي هنا في نبرة بدوي الحادة). المهم في قراءة الحِكَم والأمثال أن يتمثلها القاريء في نفسه وأن يحياها في أفعاله، وأن يحيلها إلى تجربة شخصية وكأنها مقولات استخرجها بنفسه ولنفسه كما كان الحلاج يفعل مع القرآن المجيد. وفق نصيحة بدوي بحسب كلمات هيرمان هسّه في رسالة إلى ابنه البِكر برونو: «على القارئ أن يختار من المختارات مختارات تخصّه وتعنيه».

اقتطفتُ المختارات التالية من كتاب مسكويه وأوردتها وفق تبويب بدوي للنصّ الأصلي. وهذا الكتاب، جاويدان خرد، استودع فيه المؤلف أبو علي بن أحمد بن محمد بن يعقوب المُلقب بمسكويه فيه طائفة ممتازة من الحكم الشرقية الخالدة: الإيرانية والهندية والرومية الشرقية المنحولة والعربية الإسلامية، وفيه خير للروح الشرقية العربية وروح الحضارة العربية السحرية بالمعنى الذي قصده أوزفالد شبنجلر. أنصحُ بمراجعة كتاب عبد الرحمن بدوي عن أوزفالد شبنجلر الصادر عن وكالة المطبوعات في الكويت عام 1982، (صـ. 192 وما يليها) وفيه تحليل ثاقب لرؤية شبنجلر/ بدوي لروح الحضارة العربية.


من حكم الفرس

أخرجْ الطمع من قلبك، تحل القيد من رجلك وترِحْ بدنك.

الحِلم ترك الانتقام مع إمكان القدرة.

أجَلٌ قريب في يد غيرك، وسوق حثيث من الليل والنهار. وإذا انتهتْ المدة حيل بينك وبين العِدة، فاحتل قبل المنع وأكرمْ أجلك لصحبة السابقين.

إذا آنستكَ السلامة فاستوحش من العطب، وإذا فرحتَ للعافية فاحزن للبلاء: فإليه تكون الرجعة، وإذا بسطكَ الأمل فاقبض نفسك بقرب الأجل: فهو الموعد.

من كان مطيّة الليل والنهار فإنه يُسار به وإن لم يَسِر.

كل إنسان يحبّ نفسه، وكل من أحب شيئًا أحب أن يُحسن إليه. فليتَ شعري عمن لا يعرف نفسه كيف يحسن إليها ومن لا يعرف طريق الإحسان كيف يسلكه. 

لو كانت معرفة النفس أمراً سهلاً ما تعبت لها الحكماء ولا تبرّمتْ بها الجهال ولما أُنزِل في الوحي: «يا إنسان: اعرف ذاتك».

من لم يتفكّر في كل شيء خفي عليه كل شيء.

من لم يعرف معدن الشرّ لم يقدر على النجاة منه.

ردع النفس للنفس هو علاج النفس وعشق النفس للنفس هو المرض للنفس.

سأل كسرى سائلٌ: هل من أحد ليس فيه عيب؟ قال:لا! لأن الذي ليس فيه عيب لا ينبغي له أن يموت.

من حكم الهند

ثلاثة لا يلبث ودّهم أن يتصرّم [ينقضي]: الصديق الذي لا يقوم بحق صديقه عند النوائب، ويطيل غيبته عنه ويتوانى عن زيارته ولا يكاد يصير إليه إلا عن كره، فإذا صار إليه ماراه في كل ما نطق به؛ والمُداخل لأصدقائه في النعم والفَرَج، حتى إذا نابتهم نائبة قطعهم؛ والرجل يريدك لأمر حتى إذا وصلَ إليه استغنى عنك فزال ودّه بزوالِه.

شَرُّ ما شغلت به عقلك وضيعت به عمرك إعجابك بمعجب بنفسه.

من حكم العرب

مما يؤثر عن الإمام علي بن أبي طالب:

وحشة الانفراد أبقى للعزّ من أنَس التلاقي.

المسؤول حرّ حتى يعِد.

وردَ في الوحي القديم: مسكين عبدي! يسرّه ما يضرّهَ.

هاجرْ إلى الراغب فيك.

أصابَ متأنَّ أو كادَ، وأخطأ مستعجل أو كادَ.

لو لم تكن في الوحدة من الراحة إلا الخلاص من مداراة الناس والسلامة من شرهم، لكان كثيرًا طيبًا.

ومن إشارات الصوفية:

لو أنّ الدنيا مملوءة حيات وعقارب وسباعًا وأفاعي ما خِفتُها، ولو بقي فيها من البشر واحد لخِفته لأن البشر شرّ منها.

الرضا ترك الاختيار. – أبو القاسم الجُنيد

هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك. – الحلاج المقتول

سُئل الشبلي عن الزاهدين فقال: كلّكم زاهدون في الله.

من وصايا لقمان لابنه:

يُحكى أن بعض البطّالة مروا بالمسيح عليه السلام وقد توسّد حجرًا [اتخذه وسادة]، فقال: يا عيسى! قد رضيتَ من الدنيا بحجر! فقذف به إليه به وقال: هذا لك مع الدنيا! لا حاجة لي فيه.

أسوأ الرجال حالًا من لا يثق بأحدٍ ولا يثق به أحد لسوء فعله.

وقال أويس القرني: ما سمعتُ كلمة للحكماء كانت أنفع لي من قوله: صانِعْ وجهًا واحدًا يكفِكَ الوجوه كلها. 

الحقود لا ينال شرفًا ولا يفارق أسفًا.

قال وهب بن منبه لرجل: لا تسبَّ إبليس في العلانية وأنتَ صديقه في السرّ.

أخذ رجلٌ على عالم خطأ فقال: من لا يعلم شيئًا لا يخطئ في شيء.

قال بعض النسّاك: أسكتتني كلمة سمعتها من ابن مسعود [ربما يقصد  الصحابي عبد الله بن مسعود]: من عشرين سنة سمعته يقول: من لم يكن كلامه موافقًا لفعله فإنما يوبّخ نفسه. 

أنفاس المرء خطاه إلى أجله وأمله خادع له عن عملِه.

قال بشر بن الحارث: الحكمة كالعروس تريد البيت خاليًا. وكيف ينصحكَ من يغشّ نفسه.

لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه.

من وصايا قسّ بن ساعدة إلى ابنه: من عيّركَ شيئًا ففيه مثله، ومن ظلمكَ وجد من يظلمه.

قيل للحجاج بن يوسف الثقفي لما أشرف على الموت: ما نراك تجزع من الموت. فقال: إن كنتُ محسنًا فليست بساعة جزع، وإن كنتُ مسيئًا فليست بساعة جزع. 

من حكم العرب في الجاهلية:

ابنك يأكلك صغيرًا ويرثكَ كبيرًا، وابنتك تأكل من وعائك وترث في أعدائكَ، وابن عمك عدوك وعدوّ عدوك.

جاء في الأثر: يقول الله إذا عصاني من يعرفني سلطتُ عليه من لا يعرفني.

من أفاده الدهرُ أفادَ منه.

من كلام أكثم بن صيفي: عيني عرفتْ فذرفتْ. لم يفتْ من لم يمت. مع كل حبرة [حقّقها بدوي: خبرة] عَبْرة. لا تنفع حيلة مع غيلة. أخو الظلماء أعشى.

قال ذو النون المصري: كل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش وكل خائف هارب وكل راجٍ طالب وكل محب ذليل.

وصية لحكيم:

اجعل بينك وبين كل محبوب ترقبًا لزواله لئلا يفجأكَ فقده. لا تأنسْ بما لا بقاء له. الغَدر من صِغر القَدْر. من أظهر لك عداوته فقد نبّهكَ إلى مواضع نبله. عذّب حُسّادكَ بالإحسان إليهم. إن في الشباب جزءًا من الممات وفي البقاء حصّة من الفناء وفي الشباب دبيبًا من الهِرمَ وفي الزيادة كمونًا من النقصان وفي الصحة أجناسًا من الأسقام. عدوّك بين جنبيك وجُنده الهوى، فإن أطعته هلكتَ.

قيل للحسن [بن علي] إن فلانًا بالنزع الأخير، فقال: هو بالنزع الأخير منذ يوم ولد.

وقال مروان الحمّار [آخر الخلفاء الأمويين]: إن الدهر لما حلا لَنا، خلا مِنا. 

وقال يحي بن خالد: إن جلد النمر ما تُركَ على النمر، فكيف يُترك على صاحب السرج [يقصد ابن آدم]. 

خمير الرأي خير من فطيره.

القرد وإن سمِنَ لم يذهب قبحه.

كلب عسَّ خير من أسدٍ اندسَّ. لا تخف ممن تحذر ولكن احذرْ مِمن تأمن. هل ضمن لك الزمان أن ينصف فلا يحيف أو يؤمن فلا يخيف؟

ربّ أخ لك لم تلده أمّك ورب أب لك لم يلدكَ. رب حامٍ أنفه وهو جادِعه. تلدغ العقرب وتصيء [تصيح] وإذا كنتَ في قوم فاحلبْ في إنائهم.

من حكم الروم

سقراط:

اللذة خِناق من عسل. داوِ الغضبَ بالصمت. لا تخافوا الموت فإن مرارته في خوفه.

هرمس مثلث العظمة: أنا أُشبِّه النفسَ بضارب العود، فإنها في إشاراتها وتدبيرها كالعارف بنقر الأوتار وتقليب الأصابع عليها، وقوّته على ما يريد إظهاره من الألحان حتى يفهمَ. 

من الحكمة الذهبية لفيثاغورث: وإذا سمعت من كلام الناس جيّده ورديئه، فلا تمتعضنَّ منه، ولا تحملنَّ نفسكَ على الامتناع من استماعه وإن سمعتَ كذبًا فهوّن على نفسكَ.

من وصايا ابن المقفّع: واعلمْ أن رأيك لا يتّسع لكل شيء ففرغه للمهم، وأن مالك لا يسع الناس كلهم فاخصص به أهل الحق، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن أدأبتْ فيها نفسك. واعلم أن ما شغلت من نفسك في غير المهم أزرى بالمهم.

إن تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الرَّوَح بمدافعتها والروغان منها، فإنه لا راحة لك إلا في إصدراها، والضجر منها هو الذي يراكمها عليك.

قال أفلاطون: الشيء الذي لا ينبغي لك أن تفعله فلا تهوَه أبدًا. لا تأمن الكذاب، فإن من كذب لك يكذب عليك.

***

يختتم أبو علي أحمد بن محمد مسكويه كتابه بالعبارة البليغة التالية:

«إني لم أطمع في استيعاب جميع الحِكم الجزئية وكيف أطمع فيما لا نهاية له، وإنما أطمع ويطمع العاقل في الأصول والقوانين التي تجمع الفروع. وسيمرّ بك المكرر في المعنى واللفظ، والقصد من ذلك أن تعلم أن عقول الأمم [البشر] كلها تتوافى على طريقة واحدة، ولا تختلف باختلاف البقاع ولا تتغيّر بتغيّر الأزمنة ولا يردّها رادُّ على الدهور والأحقاب، ولذلك يجب أن تقتصر على مبلغ ما أحصيته، ولا تطلب الغاية  فيما لا غاية لها».