سمِه كما شئت، ولكننا في حاجة إلى نقاشٍ متعمق، ذي انعكاسٍ فلسفي، عما نريده كنوع، ما هي قيمنا؟ وما هو المثل الأعلى للإنسان؟.. يجب أن نعود إلى تجمعات كافيه دي فوار ونقاشات النُزُل الطلابية. يجب أن نتحدث. يجب أن نتناول المزيد من القهوة.

خوان خوسيه مياس وخوان لويس آرسواجا: حوار ساحر عن الماضي والحاضر وما بعدهما
مقال سيزار سواريز
ترجمه عن الإسبانية: أحمد عويضة
نُشِر على موقع Telva في سبتمبر 2020.


خوان خوسيه مياس (يمين) وخوان لويس آرسواجا (يسار)، عن Telva.

عالم الحفريات خوان لويس آسواجا (المدير العلمي لمتحف التطور البشري في بورجوس) والكاتب خوان خوسيه مياس رجلان عظيمان فقدا شغفهما تجاه الحياة، ولكي يؤلفا كتابهما الحياة كما يقصها إنسان عاقل على إنسان بدائي (بينجوين للنشر)، زارا مواقع أثرية وتاها في غابة حضرية، بل وزارا متجرًا للأدوات الجنسية، كي يتعلما عن التطور الجنسي.

في هذا الحوار يقصان علينا مغامراتهما.


نعتقد أننا نعرف قليلًا جدًا عن من نحن ومن أين أتينا، ولكن في الحقيقة لدينا كل الإجابات وليس علينا سوى اكتشافها. بالنسبة لخوان خوسيه مياس، ذلك الذي كان يتجول بارتياح عبر الخيال في حديقة منزله، أربكته زيارة لموقع آتابويركا الأثري. فكل ما كان يظن أنه يعرفه عن نفسه وعن الوجود البشري انقلب رأسًا على عقب.

فجأة، وأمام هذا الاكتشاف الكبير للوجود البدائي قبل مليون عام في سلسلة جبال في بورجوس، شعر مياس أنه ضئيل جدًا، وقرر عندها تطبيق أحد المبادئ العلمية الهامة، وهو أن تقول ببساطة «لا أعرف» عندما يواجهك شيء لا تعرفه. كانت تلك سقطته من على صهوة جواده، إذ انتبه حينها إلى أن ما قبل التاريخ ليس شأنًا من شؤون الماضي فقط، بل أنه يتمتع بقدرةٍ مؤثرة في الحاضر. عندما عاد إلى منزله سُئِل من أين هو عائد، فأجاب « كنت أزور الأجداد».

«تلك التجربة غيرت حياتي. عُدتُ منها مقتنعًا بوجود تقارب جسدي وعقلي غير عادي بيني وبين هؤلاء الذين من المفترض أنهم عاشوا في ما قبل التاريخ في هذا الموقع المعروف». رأى مياس في نفسه الإنسان البدائي، أو النياندرتال (أحد أقرباء الإنسان العاقل الذي انقرض أو قُضِي عليه منذ أكثر من أربعين ألف عام) وقرر تأليف كتاب، ولكنه لم يستطع إيجاد طريقة لفعل ذلك.

بعد ذلك بوقتٍ قصير، أقام مياس (الذي احتفظ بهوسه الكامن بما قبل التاريخ) ندوةً لعرض إحدى رواياته في متحف التطور البشري، الذي يحتوي على بعض الحفريات من موقع آتابويركا. وهناك قابل المدير المشارك للموقع الأثري، خوان لويس آرسواجا، وعاد للسقوط من فوق صهوة جواده مفتونًا بالقدرة التعبيرية الشفاهية لعالم الحفريات ذاك. في اعتقاد آرسواجا فالزمن هو «كل» مكتمل، من الحاضر إلى ما قبل التاريخ، ومنه إلى الوقت الحاضر، دون تقسيماتٍ أو حدود أو فترات.

أثناء تناول العشاء بعد الانتهاء من ندوةٍ أخرى، وبعد تناول أربع كؤوسٍ من ريبيرا ديل دويرو، أطلقها مياس: «اسمع يا آرسواجا، أنا وأنت نستطيع أن نتعاون كي نتكلم عن الحياة، سنكتب قصة عظيمة عن الوجود». تظاهر آرسواجا عندها كأنه غارق في أفكاره، ولم يكن ذلك صعبًا، صب لنفسه كأسًا أخرى وتابع تناول طعامه.

اعتبر مياس أن مشروعه قد ذهب أدراج الرياح. عندما وصلا إلى المقهى تأمله آرسواجا ثم ضرب براحته على الطاولة قائلًا «لنفعلها». وهكذا قاما خلال عدة أشهر بزياراتٍ لمواقع أثرية، كهوف، أسواق، متاجر ألعاب، معارض للحيوانات الأليفة، متحف برادو، رياض أطفال، مقابر، مطاعم، وحتى متاجر الأدوات الجنسية. كان آرسواجا هو الإنسان العاقل في نظر مياس (الإنسان البدائي) والذي يشرح له أن عصر ما قبل التاريخ ليس شأنًا من شؤون الماضي. ونتاج تلك المغامرات كان كتاب الحياة كما يقصها إنسان عاقل على إنسان بدائي.

ما ينبغي علينا أن نعرف عن أجدادنا

ما الذي يمكننا أن نتعلمه من «أجدادنا» ونستفيد به في هذا الوقت؟

خوان لويس آرسواجا: نحن نرتدي أجدادنا، تمامًا مثلما يرتدي خوان خوسيه جالدوس[1] وثربانتس وهوميروس عندما يكتب. نرتدي الكرومانيون والنياندرتال والقرد الجنوبي.[2] في الحقيقة فالأمر رحلة داخلية في كهوف عقولنا، رحلة إلى قلب الظلام، إلى أكثر شيء مجهول عن الوجود البشري، إلى ما كنا عليه وما نكون عليه. الرسالة الرئيسية التي يُرسلها لنا العلم هي الاستمرار.

خوان خوسيه مياس: ذات يومٍ قلت لخوان لويس: «يجب أن تأخذني إلى موقع حفريات»، وكان رده: «أنت لم تفهم..»، وشرح لي كيف أن الجهلاء هم من يظنون أن عصور ما قبل التاريخ تكمن في المواقع الأثرية.

إذن أين نجدها؟

آرسواجا: في ذلك الطائر، في المنظر الطبيعي، في الجغرافيا، التي هي الوثيقة الأولى لفهم التاريخ، وفي كل الأماكن.. ما قبل التاريخ لم يختف، نحمله أنت وأنا في دواخلنا. لا شيء في مواقع الحفريات سوى العظام. ما قبل التاريخ هو ذلك الحيوان الذي يمر كالظل. من المستحيل التقاط صور لبيسون[3] كما لو كنت في حديقة الحيوان. رجل ما قبل التاريخ لم ير الحيوانات كما نراها في فيلم وثائقي لريتشارد آتينبورو، لم تكن هناك أيام ولا أشهر، ولا حتى ساعات. كانوا بالكاد يملكون النار ويقدرون على دباغة الجلود والصيد. كانت نظرتهم للطبيعة عابرة، مُراوغة، وديناميكية أكثر بكثير من نظرتنا. لا يمكنك ان تحبس عالمه في صورة.

مياس: ما كان ساحرًا في لحظة الإلهام التي اجتاحتني في آتابويركا هو انتباهي إلى أنني أقف في المكان الذي يمتلك أكبر عددٍ من النوافذ التي تطل على تاريخ البشرية في هذا الكوكب. بالنسبة لراوٍ مثلي فذلك شيء استثنائي. البشر مصنوعون من الحكايات. كنوعٍ، فنحن نعرف من نحن بقدر ما نعرف ذاكرتنا ومن كنّا.

آرسواجا: هكذا هو موقع الحفريات، بوابة تنقلك في الزمن. إنه شيء أقرب إلى السحر.

ماذا يوجد في عمق هذا الكهف؟ ما الذي لم نكتشفه بعد؟

ميّاس: كل شيء، منذ أن صار العالم عالمًا عاش البشر معظم وجودهم، خمس وتسعون بالمائة منه، في عصور ما قبل التاريخ.

آرسواجا: بالأمس كنت أقرأ كتابًا حديثًا عن علاقة المخ بالمخيخ، والذي يُظهِر لنا أن الإنسان البدائي كان له مخ أصغر نسبيًا من المخيخ. كيف أثر ذلك في التطور؟ يبدو أننا قضينا قرونًا ندرس العلوم، ولكن الخلايا العصبية إكتُشِفت على يد رامون إي كاخال[4] منذ أقل من مائة عام. علميًا يبقى لدينا كل شيء لنكتشفه، لأننا بالكاد بدأنا. الحمض النووي اكتُشِف في عام 1953، قبل عامٍ من ولادتي. لكن الجينوم البشري لم يتم تسلسله حتى عام 2000.

ميّاس: يا له من حديث رائع يا آرسواجا، يُظهِر أنك بالفعل أستاذ جامعي.

آرسواجا: طلابي قلقون لأنهم يظنون أنهم ولِدوا متأخرًا جدًا، وأن كل شيء قد تم اكتشافه بالفعل. ما نعرفه الآن هو النذر اليسير، وما ظل خفيًا هو المهم. كل ما فعله العلم حتى الآن هو التحليل، وهو في اليونانية يعني التقطيع. لقد كرسنا أنفسنا على تفكيك ما نعرفه. نعلم مِمَ صُنِعنا على المستويين الكيميائي  والجزيئي، لكن لا يزال علينا تفسير كيف تعمل الأنظمة المعقدة. على سبيل المثال: أنا أعرف مم يتكون الغلاف الجوي، لكنني لا أعرف الديناميكية التي تُحركه لأنه معقد بشكل يفوق إدراكنا. وإذا تحدثنا عن المخ البشري، فلك أن تتخيل. ربما نتمكن ذات يومٍ بمساعدة الكمبيوترات من فهم كيفية عمل النظام البيولوجي. التحدي الأكبر الذي يواجهنا كنوعٍ هو اكتشاف آلية عمل المخ.

مياس: في الكتاب، وبين أشياء أخرى، تحدثنا كثيرًا عن تلك القضية المذهلة: العلاقة بين المخ والعقل.

خلال العشرين سنة القادمة سيتغير العالم أكثر مما تغير في الألف سنة السابقة.

يبدو أننا لا نتذكر البحث العلمي إلا عندما يصل الماء إلى رقابنا،[5] كما هو الحال الآن في احتياجنا إلى لقاح. هل نحن في لحظة حرجة ستتغير فيها البشرية؟

مياس: قال المؤرخ الإسرائيلي الكبير هاراري، مؤلف كتاب العاقل، إن العالم سيتغير خلال العشرين سنة القادمة بأكثر مما تغير في الألف السابقة. سيكون هذا قاسيًا. لو افترضنا أنني نمتُ في العصور الوسطى واستيقظت في مطلع القرن التاسع عشر، فلن ألحظ اختلافًا كبيرًا، في حين أن أبي الذي مات منذ أربعين عامًا إن استيقظ الآن فلن يفهم شيئًا. يعني هذا أن التقدم يتسارع وأنه خلال العشرين سنة القادمة سيتغير العالم أكثر من أي وقتٍ مضى بفضل التطور العلمي والتكنولوجي. أيضًا قال هاراري إنه رغم كل هذا التقدم والتطور الذي نحن فيه فالعالم أكثر هشاشة مما كان عليه في زمن الطاعون.

آرسواجا: هناك قانون في العلوم التاريخية يقول: «لا شيء يحدث إطلاقًا، ولكن عندما يحدث شيء، فإنه يحدث بمنتهى السرعة». في الواقع هذا الكتاب هو كتاب فلسفة. لا أدري إن كنتم تعرفون أن مصطلح «عالِم» هو مصطلح حديث جدًا أم لا. داروين نفسه لم يطلق على نفسه لقب عالم، بل إنه في الحقيقة عندما كان يطوف العالم على سطح سفينة البيجل لم يكن لديه رتبة عسكرية، ولم يعرف من معه بما ينادونه، فأطلقوا عليه لقب الفيلسوف. حتى منتصف القرن التاسع عشر كان العلم يلقب بالفلسفة الطبيعية، بمعنى أن ما يفعله العالم هو أنه يفكر في الطبيعة. لقد ألفنا كتابًا فلسفيًا طبيعيًا بأتم ما تحمل الكلمة من معنى، لأن ذلك هو ما أجيد فعله في الحقيقة.

مياس: أذكر مشهدًا من فيلم جولي و جيم لفرانسوا تروفو[6] حين قال الطالب لأستاذه إنه حائر لأنه لا يعرف ماذا يريد أن يفعل في حياته، فرد الأستاذ: «كن فضوليًا». هذا كتابٌ عن فضول المعرفة.. المستقبل ينتمي إلى الفضوليين.

يمكن أن يكون مياس هو ذلك الطالب وآرسواجا هو المُعلِم. عالم الحفريات وطالب علم الحفريات. الطالب ممن يستيقظون باكرًا؛ مُتأمل، دقيق للغاية في مواعيده، كئيب، «ليس لشيء، بل إنها شخصيتي»، عرضة للقلق والسوداوية. المُعلِم لا يهدأ، ساخر، «وحتى مزعج في بعض الأوقات وهذه من علامات السعادة»، وبليغ، يعزف عن البريد الإلكتروني وعن واتساب، له جانب بوذي يتأمل طوال الوقت، وعين شجاعة تلاحظ العالم القديم، وقدرة على الجمع بين الدقة الفكرية وروح الدعابة الرؤوفة بالإنسانية وانحرافاتها.

جولاتهما كانت مفاجئة، «كالهروب من المدرسة» كما يقول مياس. يُخبر عالم الحفريات الكاتب بموعد اللقاء ومكانه، ولا يخبره إلى أين يذهبان حتى يصبحا في الموقع بالفعل، وحينها يسأل الكاتب: «لماذا أتينا إلى هنا؟». عند ذلك يبدأ عالم الحفريات في الشرح بمزيج من الحكمة والتشكيك الباروخي.[7] الشيء الوحيد المحدد كان هو ساعة الطعام، إن أتت الساعة الثانية دون أن يكون هناك مطعم قريب يتعكر مزاج مياس.

ليس واضحًا إن كنتما تتفقان أم لا.

مياس: هذا الكتاب هو أيضًا تاريخ لوقائع علاقتنا، في نهاية الأمر أصبحنا شخصيات داخله. كانت تأتي لحظات أقول فيها «لا أعرف إن كنت تريد أن تعرفني بعد الآن، ولا إن كنت أريد أن أعرفك أيضًا. ربما سنفسد الأمر تمامًا». كان خوان لويس يسحبني لأنه مفعم بالحيوية، لا يترك مجالًا للكسل، على عكسي. كان مثل إنديانا جونز، يركض من هنا إلى هناك. فجأة أرى نفسي أصعد مرتفعًا وأنا أترنح، وأخفي ترنحي كي لا يلاحظه. لكني أظن أنه، خلف كل تلك الحيوية، يختبئ شعور مأساوي تجاه الحياة، نوع من النوستالجيا.

آرسواجا: حسنًا، بما أنك قلت ذلك. أنا أوناموني، لأن أونامونو[8] كان له حضور كبير في بيلباو حيث نشأت، لكني قبل كل شيء باروخي حتى النخاع. انا رجل أفعال، أعتقد أننا يجب علينا أن نفعل شيئًا في الحياة، لا نعرف ماذا نفعل هنا، لكني أعرف أنه يجب الضغط على الحياة واعتصارها. أرغب في أن أقول إن هذا كتاب فرنسي جدًا (وقام بإشارة جذلة كأنه يريد الإمساك بأصابعه) فريد من نوعه لأنني لا أعرف أحدًا قام بتأليف كتاب مثله، بمعنى آخر في فرنسا ما بعد الحرب، حيث يحصل العالم على جائزة نوبل ثم يذهب إلى كافيه دي فوار ليتناقش مع الوجوديين ويعلق على عرض فيلم الموجة الجديدة (Nouvelle Vague) أو يشرب باستيس مع إيف مونتان.[9]

الجنس بدون تكاثر هو الاكتشاف الذي غير البشرية أكثر من غيره.

ماذا حدث في تلك الظهيرة الماطرة عندما احتميتما داخل متجر الأدوات الجنسية؟

مياس: كان ذلك يوم خميس في شهر نوفمبر، التقينا في محطة مترو لا لاتينا، فوّت آرسواجا المحطة فوصل متأخرًا، وكان مصابًا بالإنفلونزا. كانت الفكرة هي التجول في حيّ متعدد الأعراق، حي لابابيس، ثم تناول الغداء في مطعم هندي. لكن العِرق الوحيد الذي شوهِد في الشارع عندها كان نحن، رجلان قوقازيان في عمرٍ واحد يمشيان دون توقف.

آرسواجا: كنت أريد العثور  على صيدلية كي أشتري دواء للإنفلونزا، لأنه في السبت التالي كان عندي سباق اختراق ضاحية في آتابويركا. رأيت مبنى مضيئًا بشدة عن بعد، وعندما اقتربت تبين أنه متجر للأدوات الجنسية، مما كان مفيدًا وقتها لأننا كنت نتحدث عن الجنس والتكاثر.

مياس: دفعني إلى الدخول. كنت أنتوي تعريفنا كعالمي أنثروبولوجيا، لكن ذلك لم يكن ضروريًا، فالبائعة تعرفت فورًا على آرسواجا، الذي طلب منها دون تردد بعض «الألعاب» كي يشرح لي تطور الأعضاء التناسلية. سألتْه «هل تريدها واقعية أم تجريدية؟» فأجاب آرسواجا: «كلما كانت أكثر واقعية كان أفضل». بالمناسبة.. هل ركضت في سباق اختراق الضاحية في النهاية؟

آرسواجا: الشك في ذلك أمرٌ مسيء. ركضت ولكني كنت محبطًا لأن السباق فقد شخصيته الشعبية، أغلب العدائين كانوا محترفين تقريبًا. ولكني عند ذلك اكتشفت سباقي، سباق اختراق ضاحية سان فيرناندو دي إيناريس في الخامس من يناير. في النهاية سيعطونك روسكون دي ريس.[10] كنت الأول في السباق لفئة من هم فوق الستين عامًا.

في أحد الفصول تحدثتما عن تدجين النوع البشري. هل نحن أكثر استئناسًا من أي وقتٍ مضى؟

آرسواجا: أصعب شيء تقوم به في المجتمع هو أن تُخالف. منذ أن كنّا صغارًا جدًا ونحن نحرص على أن نشبه الآخرين كي لا نُعاقب. قليلون هم من امتلكوا الجرأة كي يحيدوا عن الأعراف. إن لم تكن مهتمًا بأن تعتقد مثلما يعتقد الآخرون، فحاول أن تجد فكرة مختلفة. التحايل يمكن أن يكون جيدًا أو سيئًا، وبشكلٍ عام نقوم به بطريقةٍ لا إرادية. لكن الانصياع والتحمل مفهومان مختلفان. أرغب في أن أعتقد أننا أكثر تحملًا من أي وقتٍ مضى، لكن لأننا في الوقت نفسه كائناتٍ اجتماعية فنحن ننجذب إلى حيث تأخذنا الجماعة. أعتقد أن سر الحياة يكمن في أن تفكر فيما هو غير وارد. إن استلزم الأمر سأقف ضد كل شيء وضد الجميع. بالنسبة لي فهي مسألة شخصية، ولكنها أيضًا مسألة أخلاق وكرامة. باروخا مرة أخرى..

مياس: كي نتكلم في هذا الموضوع أخذني آرسواجا إلى معرضٍ للحيوانات الأليفة ثم إلى مطعم ياباني. وهناك جعلني ألحظ أن أحدًا لن يأتي ليهاجمنا أو يأخذ طعامنا في مكانٍ عام. أسفر ذلك عن سؤالٍ مثير للاهتمام: إن كُنا نوعٌ مستأنس فمن صاحبنا؟ من الذي استأنسنا؟

آرسواجا: ربما نشعر أنا ومياس أننا الآن أكثر حرية مما كنا عليه منذ عشرة أو عشرين سنة، لأنك مع تقدم العمر لن تهتم كثيرًا كيف ينظر إليك الآخرون.

مياس: التقدم في العمر يحررك لتقول ما يطرأ في عقلك، ليس لأنك تراه بشكلٍ أوضح، بل لأنك لم تعد تتحكم فيه. وعدم التحكم شكلٌ من أشكال الحرية أيضًا.

قال أورتيجا إي جاسيت[11] أن معدل المواليد يعكس الحالة الذهنية للمجتمع.

آرسواجا: هذا صحيح. هناك شعور باليأس يعكس بطريقةٍ ما فلسفتنا البدائية.

مياس: ليس هناك أي حماس. لا يوجد قادة يقومون بدور قيادة الأوركسترا، كي يضبطوا نغمة المجتمع.

آرسواجا: عندما أنجبت طفلي الأول (الذي تزوج للتو) كنت أجني ما يعادل ثمانمائة يورو.

مياس: لكن كان لدينا قناعة محفورة في أدمغتنا، وهي أننا ربما عشنا حياة أفضل مما عاشها آبائنا..

في فصلٍ آخر تناقشتما في مقابر آلمودينا حول الشيخوخة، الموت، والأجيال القادمة.

آرسواجا: تلك هي أكبر الألغاز التي تقف أمام العلم. أكبر ألغاز علم الأحياء منذ أيام داروين.. لماذا يجب أن نموت؟ لماذا لا تعالج خلايا أعضائنا نفسها تلقائيًا كي نتجنب الموت، بنفس الطريقة التي تُعالج بها نفسها عندما نُصاب بأي جرح؟

مياس: أحد أشكال الخلود الأكثر شيوعًا هي أن تبقى حيًا في ذاكرة الآخرين.

آرسواجا: في النهاية فالحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أننا جميعًا سنموت، عاجلًا أو آجلًا، فلماذا نجمع الثروات؟

تسبب المجتمع الرقمي في تقليل مدة تركيزنا إلى تسع ثوانٍ، ما أطلق عليه بعض الناس «حضارة ذاكرة السمكة». كيف تؤثر التكنولوجيا على تطورنا كنوع؟

آرسواجا: من ناحية بيولوجية فيبدو في الأفق أنه في وقتٍ ما سيتم تعديلنا جينيًا وجعلنا كائناتٍ آلية. وبتقنيات علم الجينات التي نعرفها الآن فهذا الاحتمال واقعي بشدة. ذلك معروفٌ بالفعل. السؤال سيكون عن كيفية استخدام تلك القدرة على تعديل الإنسان.

مياس: هل حان الوقت لخلق رجلٍ خارق؟

آرسواجا: سمِه كما شئت، ولكننا في حاجة إلى نقاشٍ متعمق، ذي انعكاسٍ فلسفي، عما نريده كنوع، ما هي قيمنا؟ وما هو المثل الأعلى للإنسان؟.. يجب أن نعود إلى تجمعات كافيه دي فوار ونقاشات النُزُل الطلابية. يجب أن نتحدث. يجب أن نتناول المزيد من القهوة.

كيف يؤثر فينا كوننا نعيش بعيدًا عن الطبيعة بشكلٍ متزايد؟

آرسواجا: لدينا هنا مشكلة كبيرة جدًا لا نعرف الطريقة المثلى لشرحها. يبدو أننا نتحدث عن مشكلة أخلاقية وبيئية، نوعٍ من الوعي الكوكبي.. لكنها أخطر من ذلك بكثير.. إنها أزمة عدالة. الأرض لديها موارد محدودة للغاية، موزعة بشكلٍ غير متكافئ، ونحن ملياراتٍ من البشر التي تتنافس على تلك الموارد التي بدورها تتبدد كثيرًا، ولدينا أسلحة دمارٍ شامل..

مياس: أستدعي هنا هاراري الذي قال إن أكبر ثلاثة تحديات تواجهها البشرية هي الحرب النووية والتغير المناخي والاضطراب التكنولوجي. ولا يمكننا مواجهة ذلك إلا بتعاون كل شعوب الكوكب.

ما هو الاكتشاف الذي غير البشرية أكثر من أي شيء آخر؟

آرسواجا: اكتشاف غاية في الحداثة: ممارسة الجنس من دون تكاثر. نحن النوع الوحيد الذي يمكنه أن يمارس الجنس دون أن يتكاثر. ذلك تغيير له من الضخامة ما يجعله الأكثر تأثيرًا في البشرية. لقد غيّر وظيفة الجنس، وغير مفاهيم مثل الأسرة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية.

مياس: ورغم كل ذلك، نحن كثر.

آرسواجا: في إسبانيا لا.. هذا يحدث في الدول المجاورة..

مياس: لكن كبشريةٍ بشكل جمعي نعم.. نحن من الأنواع الغازية.

آرسواجا: قال الرومان إن المصالحات مُثمِرة. وكل من عاش حياته متزوجًا يعرف أن الشجار والغضب يعقبهما مصالحة مفرطة. ويمكننا ممارسة الجنس دون أن يتبع هذا المخاض!

مياس: لم نتحدث عن هذا في الكتاب، مما يعني أنه لا يزال لدينا القليل لنكتبه معًا.


[1] بينيتو بيريث جالدوس: روائي وكاتب مسرحي ومؤرخ أسباني (1843–1920 م).

[2] أجناس للإنسان البدائي.

[3] حيوان ينتمي إلى فصيلة الأبقار يشبه الثور ويضم نوعين حيين، البيسون الأمريكي  والبيسون الأوروبي.

[4] سانتياجو رامون إي كاخال (1852–1934 م): طبيب إسباني حصل على نوبل في الطب عام 1906 بالاشتراك مع الإيطالي كاميلو جولجي لأبحاثهما حول التركيب النسيجي للجهاز العصبي.

[5] تعبير يعني أننا في خطر.

[6] فرانسوا تروفو (1932–1984 م) مخرج فرنسي.

[7] نسبة إلى بيو باروخا، روائي وطبيب أسباني (1872–1956 م) تميزت أعماله الروائية بامتلائها بشخصياتٍ معارضة للمجتمع وغير قادرة على التكيف معه، إلا أنها كانت دائمًا ما تستسلم إلى النظام الذي ترفضه في نهاية الأمر.

[8] ميجيل دي أونامونو (1864–1936 م) فيلسوف وشاعر وروائي إسباني باسكي اكتسب عداء أربعة حكومات متتالية بسبب مقالاته السياسية النقدية الجريئة.

[9] إيف مونتان (1921–1991 م) ممثل ومغني ومؤلف أغاني فرنسي.

[10] حلوى إسبانية تقليدية، وهي كالخبز المُحلى بالسكر، تشبه البريوش.

[11] خوسيه أورتيجا إي جاسيت (1883–1955 م) فيلسوف إسباني ليبرالي ركز في فلسفته على المشكلات الإجتماعية.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

تحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.