تنشقُّ هذه الاكتشافات عن زوايا شبه مثالية وتنتهي في مكانٍ ملائم حيث ينضب معين كافكا الإبداعي أو حيث يبلغ ذروته، إنها تترك القارئ توَّاقًا إلى المزيد وتحفزُ المرء على تخيُّل احتمالات سردية غريبة وغامضة.

عن الانخراط مجددًا في عوالم كافكا المدهشة

مقال جريجوري آرييل

* جريجوري آرييل أكمل مؤخرًا أطروحته للدكتوراه عن المُقلِّدين الأنجلو أمريكيين لحكايات فرانز كافكا الخرافية ولديه أعمال أكاديمية قادمة حول هذا الموضوع.

المقال منشور على Literary Hub

ترجمة: إسلام رمضان


فرانز كافكا مع عائلته في بوهيميا

إن النصوص غير المكتملة والمجهولة هي أمر مألوف بالنسبة لقرَّاء كافكا؛ فالمشكلات المتعلّقة بمدى ثبوتيّة النصوصِ تلازم كل أعماله تقريبًا. تجترح الممارسة الجمالية عند كافكا مقاومة الكمال، وهو ما تدعوه جوديث بتلر بـ«شعريّة اللاوصول». وكما يُلاحِظ مايكل هوفمان، فإنَّ معظم  إنتاجه الأدبي الذي خلَّفه للأجيال اللاحقة «ينتهي» بدلًا من أن «يُختتم». بل إن الأمرَ بالغ الأهمية، هو أن روايات كافكا كلها، وغنيمةً معتبرةً من قصصه القصيرة، وحكايات الوحوش الأسطورية، والأقوال المأثورة، تدين بوجودها لرفض ماكس برود احترامَ وصيةِ صديقه الحميم بإحراق كل المخطوطات التي بحوزته (خلافًا لما فعلته حبيبة كافكا الأخيرة دورا ديمانت، حيث أتلفت كل المخطوطات التي كانت تحتفظ بها). وطالما كان تاريخ نشر كافكا رهينًا بالحوادث التي منشأها تفضيلاتُ المُحرِّرين وقرارتهم على مدار القرن الماضي؛ فإن مادة الأعمال المفقودة لا تزيدُ هامشيَّةً ولا ضياعًا عن أيٍّ من أعماله غير المكتملة مثل: القلعة، والمحاكمة، وأميركا، وسور الصين العظيم، وتحريات كلب، أو حتى الجُحر (The Burrow).

وبغض النظر، فإن كافكا، جنبًا إلى جنب مع مُحرري نصوصه ومترجميها، هو واحدٌ من أغزر كُتَّابنا المعاصرين إنتاجًا. فقد صدرت طبعات جديدة لا حصر لها، بدءًا من استحداث ترجماتٍ لرواياته وقصصه القصيرة وحتى تنسيقات حديثة لأقواله المأثورة ولمجموعة من كتابات مكتبه التي صدرت بترجمة إنجليزية على مدار السنوات العشر الماضية أو نحوها. والآن، بين يدي كتابات فرانز كافكا المفقودة، التي أصدرتها نيو ديركشنز في السادس من أكتوبر، كافكا يُباغِت من جديد، بكتابٍ يثير بعضًا من الأسئلة الهامة.

 الإعلان عن هذا الإصدار، الذي اختار نصوصه كاتب سيرة كافكا راينر شتاخ وترجمها مايكل هوفمان، لا يعكس تمامًا مفهوم الكتابات «المفقودة»، فعددٌ من هذه القطع مثل: «تقريرٌ إلى الأكاديمية: قطعتان» و«بروميثيوس»، عَهْدُنا بها قديمٌ وسبق وأن كانت موجودةً في القصص الكاملة، وبعضها الآخر سبق وأن نشر في الكراسات الزرقاء الصغيرة (The Blue Octavo Notebooks) وفي كتاب شتاخ أهذا كافكا؟: ٩٩ اكتشافًا (Is that Kafka?: 99 Finds). ومع ذلك، فثمة اكتشافاتٌ لم تترجم إلى الآن، سيخفق لها قلب محب كافكا. مثل بعض المعادن، تنشقُّ هذه الاكتشافات عن زوايا شبه مثالية وتنتهي في مكانٍ ملائم حيث ينضب معين كافكا الإبداعي أو حيث يبلغ ذروته، إنها تترك القارئ توَّاقًا إلى المزيد وتحفزُ المرء على تخيُّل احتمالات سردية غريبة وغامضة، والتي لن تُكتشف بحال من الأحوال. لدينا هنا بدايات مُخادعة مثيرة للفضول وطبعات مختلفة تتألف من أشتاتٍ من ومضاتٍ قصصية مُلهِمة مثل «الجسر» و«ابن آوى والعرب».

من إجمالي مختارات شتاخ البالغ عددها خمسة وسبعين قطعة، انتقيتُ القليلَ من الحبكات والبُنى التي تتوزع بين الحكايات الأسطورية والخرافية مما خلب لُبِّي: مخلوقٌ له ذيلُ ثعلبٍ يُعلّم الراوي البشري بدلًا من العكس؛ رجل داعرٌ، ونحيلٌ، له وجهٌ لا يزيد عن مساحة راحة يد، وقد ذاب في حاجز شرفةٍ في مسرح؛ مساعدون لهم ذيول سنجابية متأرجحة وسميكة يتسلقون الحائط الذي تنتظمه الأدراج في صيدلية مرعبة؛ حفارو قبورٍ بحجم أكواز الصنوبر يمارسون عملهم في الغابة بسعادة؛ عاصفةٌ ممطرة لا تحدث إلا في البيت؛ جنرال يسقط من السماء إلى داخل خندق؛ زنزانة سجنٍ مفتوحة للتهوية لكن بلا مخرج، لأنها ترتفع عاليًا فوق غيمةٍ رمادية؛ مجموعة همجيةٌ من الجنود تحمي مزرعةً من عدوٍ غير مرئي ومجهول؛ رجلٌ يقيم في إسطبل رفقة حصانه المحبوب، إليانور، ويكتم أسفه على هذا؛ ساكنُ تابوتٍ يقرع غطاءه فجأة طالبًا فتحه؛ فأران أبوان ينوحان على ابنتهما، التي سحقتها شفرة المصيدة الفولاذية.

إنني أميل إلى الانجذاب نحو العناصر غير البشرية والخيالية في عمل كافكا أكثر من انجذابي إلى متاهات فكره القانونية والبيروقراطية الموسومة بالبارانويا. أرتجف حتى النخاع إزاء حكاياته الصغيرة الغريبة التي تعيد إلى ذاكرتنا الأساطير الحسيدية،[1] ومعلمي الزن، وحكايات الوحوش الأسطورية. ومن وقتٍ لآخر، أتوقُ إلى الأجواء الصوفية لهذه الحكايات؛ وتجمعاتها الغريبة؛ وغرفها العلوية المترَّبة؛ وتكشُّفاتها المفاجئة؛ وعنفها المتبصر. إن حكايات كافكا التي تتناول المخلوقات والكائنات الهجينة تشوِّش الحدود بين الذات والموضوع، وبين الحي والجماد، وتفضح استبداية مفاهيم الهيراركية، والسطوة، ودعوى التفوق. وكما كتبت جين بينيت، فإن هذه الحكايات «تُقِرُّ بقوة الأسئلة بدلًا من الإجابات» وتستوعب «فلسفات الغريزة سيئة السمعة».

إنَّ «الصناعة الكافكاوية» جعلت من كافكا، وهو اليهودي البوهيمي التشيكي الذي يكتب بالألمانية، نوعًا من بعل شيم توف (Baal Shem Tov) علماني، أو مثل غيره من الأنبياء والصوفيين، من يتحتم أن تُنشر كل قصاصةٍ لغوية لهم، سواء كانت سيرة ذاتية أو مختلَقة أو خيالية. سجَّل جوستاف جانوش أحاديث كافكا المُحيِّرة، بينما ادعى ماكس برود أن صديقه، رغم موقفه الساخط على اليهودية، كان كاتبًا «مقدسًا» و«في طريقه ليصير قديسًا». وغالبًا ما قُدِّمت كل نُتفة روائية مستقاة من يوميات كافكا ودفاتره على أنها جديرة بالملاحظة؛ وبالنسبة للهواة، فكل جملة مأثورة لها من الطاقة ما يُحدث شرارة إلهامٍ صغيرة. أفرزت عبادةُ شخصية كافكا تابعين متعصبين كما لم يحدث مع أي من الكُتَّاب الحداثيين؛ وهذا مردُّه إلى شياطينه الفنية والرومانسية، كما إلى الهزال المُحيِّر لإنتاجه الأدبي الرسمي.

إنني أحاول أن أقاوم النزعة التقديسية التي تصبُّ كافكا في قالب قديس الأدب (الذي تُبرز أعماله الرفيعة قدرته الإبداعية المدهشة) وتقول بثبات الثقافة، أو ما يماثل ذلك من تشكيلٍ لصورة المؤلف. بل إنني عندما أنخرط مجددًا في عوالم كافكا المدهشة، أفكّر: ما هي الروايات الأخرى التي أهملتها؟ ما الذي استبعدته من قائمة القراءة عبر حياتي؟ وأنا أجزم أنه كانت ستفوتني قراءة شيء ما، وهو ما كان ليحدث لو أنني لم أتعهد كافكا بالقراءة عددًا لا أُحصيه من المرات. ربما خلال هذا الوقت الذي أنفقته على هذه القطع الجديدة، حيث ضحيتُ بساعات كان من الممكن أن أنصرف فيها بدلًا عن هذا إلى قراءة نصٍّ معاصر، لأقُل مثلًا: الحُفرة لهيروكو أويامادا، أو المدينة التي أصبحنا لنورا كيتا جيميسين، أو رواد الفضاء الميتون لجيف فاندرمير.

إذا استهلكنا كل سطرٍ لكاتبٍ مُعترَف به، وكشطنا  كل بوصة من مادة مدونته، قد نربح بالتأكيد شيئًا ما، ولكن قد نخسر أيضًا شيئًا ما: ربما هو الاشتباك الضروري مع الوعي الراهن. بالتأكيد، يجب أن نقتطع مساحةً زمنيةً واسعة لقراءتنا، نمزج فيها بين الكتابات الحديثة والقديمة لنحظى بوجهات نظرٍ ثقافية تاريخية هامة، لكن الحقيقة أن الكتَّاب الموتى الذين نحبهم، كلَّ هذا الحب الجامح الذي لا يخلقه إلا شخص يغيِّر طبيعة حيواتنا الداخلية، هؤلاء الكتَّاب يمكن أن يُعضِّدوا خبرتنا أو أن يسلبوها سواءً بسواء.

ما زال هناك ما لا حصر له من الشذرات الغريبة الأخرى التي كنت لأدرجها في الأعمال المفقودة، جُمعت من دفاتر كافكا ويومياته: رجلٌ عجوزٌ ذو أجنحةٍ يرفض أن يغادر مسقط رأسه أثناء الحصار؛ كلبةٌ وفيةٌ للغاية لدرجة أنها تتعفن بدلًا من مالكها؛ شيطانٌ، أصغر من أصغر فأرٍ يعيش في زاوية كوخٍ مهجورٍ في غابة؛ حائطٌ أبيض هو في الحقيقة جبهةُ عملاق؛ سيفُ فارسٍ قديم مغروزٌ حتى مقبضه في ظهر الراوي دون أن يسبب له أيَّ ألم. ربما كإيماءة وداعٍ لكاتب قلبي (غيَّر «جُحر»  كافكا نظرتي نحو الأدب كليَّا)، سأهيئ كتابًا يدوي الصنع لشذرات كافكا المحبوبة لدي. سأترجمها ترجمةً غير متقنة وأعطيها لصديقة لتقرأها في حال شعرت بالملل. هذه هي اللحظة المناسبة للإبحار في مياهٍ جديدة، ولكن ما إن كنت سأمضي قدمًا، أو أتراجع، أو أبقى مكاني، فالوقتُ وحده سيخبرني.


[1] هي حركة روحانية اجتماعية يهودية نشأت في القرن السابع عشر، ويُعدّ بعل شيم توف مؤسس الطائفة الرئيسي، حيث نشرها في أنحاء شرق أوروبا. وبعل شيم توف هو يهودي صوفيٌ بولندي ويُعرف بـ«بشت» وهي اختصارٌ لـ«بعل شيم توف» وتُترجم في الإنجليزية هكذا: «Master of the Good Name»، ومعناها «صاحب السمعة الطيبة».


الترجمة خاصة بـBoring Books.

تحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.