إن سوء الفهم الذي يتأسس على فهم للحكومة باعتبارها مجرد سلطة تنفيذية، هو واحد من الأخطاء التي لها نتائج وخيمة على تاريخ السياسة الغربية.

ملحوظة أولية على مفهوم الديمقراطية

مقال جورجيو أجامبن

العنوان الأصلي للمقالة: Note liminaire sur le concept de démocratie

من كتاب: Democratie, Dans quel état ?; par Giorgio Agamben, Alain Badiou, et autres; Edition La Fabrique, 2009; pp. 9–13.

ترجمة: محمد بناصر


كل خطاب حول مصطلح «ديمقراطية» هو اليوم مزيف، بسبب أخطاء تمهيدية تؤدي إلى سوء فهم من يستخدم المصطلح. ماذا نعني عندما نتحدث عن الديمقراطية؟ من أي أرضية عقلانية بالضبط، يُستخدم هذا المصطلح؟

إن ملاحظة متأنية نوعًا ما تظهر أن من يناقشون اليوم مفهوم «الديمقراطية» يقصدون بهذا المصطلح تارة «تشكل الهيئات السياسية» وتارة أخرى «تقنية في الحكم» (technique de gouvernement). من هنا فالمصطلح يشير إلى مفهوم الحق العام كما يشير إلى مفهوم الممارسة الإدارية في آن واحد: بحيث إنه يحدد أشكال شرعنة السلطة وطرائق ممارستها كذلك. وكما هو واضح بالنسبة للجميع، في الخطاب السياسي المعاصر، نجد أن المصطلح ارتبط غالبًا بتقنية في الحكم (technique de gouvernement)، والتي ليست لها بالتالي أية خصوصية مؤكدة. من هنا نفهم طبعًا انزعاج من يستعملونه بالمعنى الأول حتى الآن.

إن تشابك هذين المفهومين: القانوني السياسي من جهة والاقتصادي الإداري من جهة أخرى، له جذور عميقة ليس من السهل تفكيكها، كما يتضح في المثال التالي. عندما نجد (في كلاسيكيات التفكير الإغريقي) كلمة «politeia» (غالبًا في إطار النقاش حول الأشكال المختلفة لـ«politeia»: ملكية، أوليغارشية، ديمقراطية، وكذلك في «parekbaseis» الخاصة بهم أو حوارياتهم). نرى المترجمين يترجمون تارة بـ«دستور» (constitution)، وتارة بـ«حكومة». هكذا، ففي المقطع الذي يتحدث فيه أرسطو  عن دستور أثينا (XXVII) حيث يصف «ديماغوجيا» بريكليس (demotikoteran synebe genesthai ten politeian)، نرى المترجم الإنجليزي يقوم بالتحويل إلى «the constitution became still more democratic».

بعد ذلك مباشرة يضيف أرسطو: «الأغلبية فقط» (apasan ten politeian mallon agein eis hautous)، الأمر الذي يحوله المترجم نفسه إلى «brought all the gouvernment more into their hands». من هنا بالطبع، فإن الترجمة بـ«brought all the constitution»، وكما يفرضه السياق العام كان سيؤدي إلى إشكالية.

من أين يأتي هذا الالتباس، هذا الغموض الذي يلف مفهومًا سياسيًا أساسيًا، والذي بواسطته يقدم نفسه تارة كدستور وتارة كحكومة؟ في تاريخ التفكير السياسي الغربي، تكفي الإشارة إلى مسارين حيث يظهر هذا الغموض بوضوح بارز: المسار الأول يوجد في كتاب السياسة (1279a)، عندما يعلن أرسطو عن رغبته في إحصاء ودراسة الأشكال المختلفة التي يتخذها «الدستور» (politeia): «بما أن ‹politeia› و‹politeuma› تدلان على نفس الشيء، وبما أن ‹politeuma› هي السلطة العليا (kyrion) للمدينة، فإنه من الضروري للسلطة العليا أن تكون في متناول فرد واحد، أو قلة من الأفراد أو كثرة».

الترجمات الجاري العمل بها تقول: «بما أن لفظة ‹دستور› ولفظة ‹حكومة› تدلان على نفس الشيء وبما أن لفظة ‹حكومة› هي السلطة العليا للدولة».

على الرغم من أن الترجمة الأمينة توجب تقارب مصطلحي «politeia» (النشاط السياسي/ الفعالية السياسية) و«politeuma» (المعطى السياسي الناتج)، فمن الواضح أن محاولة أرسطو التقليص من هذا الالتباس عن طريق هذه الصورة التي يطلق عليها «kyrion» هي المشكل الأساسي لهذا المسار. فاستعمال المصطلحية المعاصرة (وهذا أمر لا يخلو من تعسف): سلطة مؤسِّسة (politeia) وسلطة مؤسَّسة (politeuma) يتشابكان هنا على شكل سلطة سيادية (kyrion) والتي تظهر كأنها تقوم بتجميع وجهي السياسة معًا. لكن لماذا ينقسم السياسي على نفسه بمقتضى ما يفصح عنه الـ«kyrion»، في لأم تام لهذا الانقسام؟

المسار الثاني يوجد في «العقد الاجتماعي». ففي درسه لسنة 1977–1978، المعنون بـ«الأمن، المجال، السكان»، أبان فوكو أن روسو سبق له طرح إشكالية التوفيق بين المصطلحات القانونية الدستورية «تعاقد» و«إرادة عامة» و«سيادة»، مع «طريقة في الحكم (art de gouvernement). لكن، في المنظور الذي يهمنا، فإن الاتصال والانفصال بين سيادة وحكومة، والتي هي من أساسيات التفكير السياسي عند روسو، يعتبر أمرًا محسومًا.

يكتب روسو في مقاله حول الاقتصاد السياسي:

«أرجو من قرائي التمييز بين الاقتصاد العمومي الذي من المفروض أن أتكلم عنه، والذي أسميه حكومة، وبين السلطة العليا التي أسميها سيادة، تمييز يتأسس على اعتبار مفاده أن الواحدة لها شرعية قانونية (droit legislatif) [...] بينما الأخرى ليس لها إلا القوة التنفيذية».

هذا التمييز يُعاد تأكيده في «العقد الإجتماعي» باعتباره توافقًا بين الإرادة العامة والسلطة التشريعية من جهة، وبين الحكومة والسلطة التنفيذية من جهة أخرى. بالنسبة إلى روسو، نحن أمام عملية اتصال وانفصال لهذين العنصرين. لذلك، وفي الوقت نفسه الذي يتحدث فيه عن الانفصال، ينفي قطعًا أنه تقسيم للسيادي. وكما هو الشأن عند أرسطو حيث السيادة والـ«kyrion» يشكلان معًا واحدة من المصطلحات التمييزية والتي تجمع في عروة وثقى لا انفصام لها بين «الدستور» و«الحكومة».

وإذا كنا شاهدين اليوم على هيمنة مجحفة للحكومة والاقتصاد على سيادة شعبية تم إفراغها تدريجيًا من أي معنى وقيمة، فلربما هو ذا الثمن الذي تدفعه الديمقراطيات الغربية نتيجة إرث فلسفي تحملته دون مراجعة. إن سوء الفهم الذي يتأسس على فهم للحكومة باعتبارها مجرد سلطة تنفيذية، هو واحد من الأخطاء التي لها نتائج وخيمة على تاريخ السياسة الغربية، فقد أدت لتيه التفكير السياسي للحداثة في تجريدات فارغة كالقانون، والإرادة العامة، والسيادة الشعبية.. تاركة إشكالية تمفصل الحكومي مع السيادي دون جواب قطعي. في آخر كتاب لي، حاولت أن أبين أن اللغز المركزي في السياسة ليس هو السيادة بل الحكومة، ليس الإله بل الملاك، ليس الملك بل الوزير، وليس القانون بل الشرطة (police). أو لنكن أكثر تحديدًا، نقول إنها الآلة الحكومية المزدوجة، التي تتشكل وتحافظ على ديمومتها.

فالنسق السياسي الغربي إذن، هو نتاج الربط الحاصل بين عنصرين غير متجانسين، يستمدان الشرعية، ويساند كل منهما الآخر: عقلية سياسية اقتصادية وعقلية اقتصادية حكومية؛ «شكل من الدستور» و«شكل من الحكومة».

لماذا يلف الغموض إذن مفهوم «politeia»؟ ما الذي يعطي للسيادي (kyrion) سلطة تؤمن وتضمن شرعية وحدتهما؟ أليس الأمر نتيجة وهم موجه أساسًا لإظهار هذا اللامحكوم (ingouvernable)، والذي هو في نفس الوقت مصدر ومسرب كل سياسة؟

من المحتمل أنه طالما لم يواجه الفكر هذه الازدواجية الإشكالية وهذا الترابط المفصلي والتباسه، سيبقى كل نقاش للفكر حول الديمقراطية (كشكل من الدستور وتقنية في الحكم) مهددًا بالسقوط في الثرثرة.


الترجمة خاصة بـBoring Book.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.