تطلّ مدينة برلين من خلال هذه الرسائل أحيانًا عابسة، وأحيانا لاهية. تظهر كامرأة، وأحيانًا كرجل. تظهر كطقس، وشوارع، ومواصلات عامة. تظهر كصخب هيبستري، كنظام اجتماعي قاسٍ، أو كمرض يصيب الخيال.
رسائل إلى برلين (نصوص)
مقدمة: هيثم الورداني
نصوص: ساري شريتح (لبنان) - إيزابيل فليندا (ألمانيا) - أسماء السكوتي (المغرب) - ندى نبيل (مصر) - وليد الخطابي (المغرب)
كُتبت هذه الرسائل في إطار ورشة كتابة تشرفتُ بالمشاركة في تنظيمها بالتعاون مع قسم الدراسات العربية بجامعة برلين المفتوحة. ضمت الورشة مجموعة من طلاب الجامعة المُدرجين في مراحلها التعليمية المختلفة، والذين تباينت درجة إجادتهم للغة العربية. ووصل بعضهم إلى مدينة برلين وسط إغلاق الكورونا، بينما وصل بعضهم الآخر قبل ذلك بسنوات، في حين نشأ وربا بعضهم الثالث فيها.
استمرت الورشة على مدار ستة أسابيع في صيف هذا العام، بإيقاع يتراوح بين لقاء ولقائين في الأسبوع. وكانت جزءًا من الكورس الذي يقدمه الدكتور إسلام ديّة في قسم الدراسات العربية، وإليه يعود الفضل في محاولة كسر النمطية السائدة في أقسام دراسة اللغة العربية في الجامعات الألمانية، وتحريرها من إرثها الاستشراقي، ومحاولة إيجاد مساحة للثقافة المعاصرة داخلها. وجاد المشاركون والمشاركات خلال الورشة بالكثير من وقتهن وجهدهن وصبرهن، رغم تفاوت درجة إجادتهن للغة العربية، مما خلق جوًا مريحًا يستوعب النقاشات الساخنة التي كانت تدور في بعض الأحيان.
توزعت حياة معظم المشاركين في الورشة بين مدينة برلين ومدن أخرى عديدة، يقع معظمها خارج أوروبا، لكن بعضها يقع أيضًا ضمن حدود القارة العجوز. فبرلين أضحت مدينة هجرة تجتذب الكثيرين من داخل وخارج ألمانيا وأوروبا، لأسباب متباينة. لذلك نشأت فكرة كتابة رسالة إلى مدينة برلين كتدريب ضمن التدريبات التي قمنا بها في الورشة، في محاولة لتنشيط الخيال، ولمقاربة تلك الحياة الموزعة بين أماكن مختلفة.
تطلّ مدينة برلين من خلال هذه الرسائل أحيانًا عابسة، وأحيانًا لاهية. تظهر كامرأة، وأحيانًا كرجل. تظهر كطقس، وشوارع، ومواصلات عامة. تظهر كصخب هيبستري، كنظام اجتماعي قاسٍ، أو كمرض يصيب الخيال. لكن في كل الأحوال لا تظهر برلين وحدها، فهي تأتي في هذه الرسائل بصحبة مدن أخرى، يدور بينهما حوار متلعثم. يمكن سماعه واضحًا تارة، ويتطلب إرهاف السمع تارة أخرى.
أي رسالة هي مغامرة حقيقية، ولا يمكن ضمان وصولها، إذ أن أشياء كثيرة قد تحدث في الطريق. وحتى لو استلمها المرسل إليه وفض مغاليقها، فإن ذلك لا يعني وصولها. فالرسالة هي إيماءة في اتجاه آخر، ومحاولة لبدء كلام مؤجل. قد يبدأ هذا الحوار عند استلام الرسالة، وقد لا يتحقق ذلك. وقد يبدأ في لحظة تالية بين أطراف ليس بينهم المرسل أو المرسل إليه.
فهل يمكن أن تصل هذه الرسائل إذن؟ ليست اللغة هي العقبة الممكنة في طريق وصولها، إذ لم يعد لسان برلين هو الألمانية فحسب، فهي أضحت متعددة الألسن بعد الهجرات المتعاقبة، لا سيما في العقد الماضي. قد تكون العقبة الحقيقية هي أن المدينة لا زالت ترفض قبول تعدديتها اللغوية، أو تسعى لإبطال حيوية هذه التعددية.
هيثم الورداني
كوني لطيفة معي يا برلين، أعطيني كل شيء كنت أتمناه من دولة. أعطيني راحة نفسية كافية لأستمتع بصيفك وأكلك وموسيقاك ومسارحك. امنحيني فرصة للتعرف عليكِ وعلى نفسي.
الكاتب: ساري شريتح
البلد: لبنان
عزيزتي برلين،
أحببت أن أعرفك بنفسي، جئت إليكِ مغبر الجبين في عز شتائك المظلم. ولكن بأعجوبةٍ ما ها أنا بخير، ليته يكون الاستقرار؟
عزيزتي برلين، أنا لا أعرفك، لكنني أسمع عنك الكثير من أناسٍ وضعوا أوجاعهم في حقائبهم ورسوا على شواطئ أوروبا. أسمع منهم أنك عنصرية وطبقية وباردة. أسمع أنك لا تحبين العرب وتستغلينهم. أسمع أن الحياة فيكِ وحيدة وغالية بلا كنة أو مجتمع حاضن. أسمع كل هذه الأشياء عنكِ ولكنني لم أتعرض لها بعد. لعل هذا من حسن ظروفي الشخصية. عندما قررت أن آتي إليكِ قررت أن أترك أوجاعي في لبنان. لقد رأيت الحقد والركود ينسف أجيالًا، فهربت. لو كنت أرغب في السوداوية، لكنت بقيت في بلدٍ يأوي 7 مليون متشائم. لا أريد أن أتكلم عن البنزين والكهرباء والمؤامرات الكونية.
ما تفهميني غلط، أنا لست متفائلًا. لا زلت مقتنعًا بأن العالم سينهار اقتصاديًا واجتماعيًا وبيئيًا في السنين الآتية. فلهذا اخترتك، أظن أنك ستكونين آخر من ينهار. أصبحت بعكس زرقاء اليمامة التي ترى كل شيء رغم عماها، بصيرًا يتغابى.
كوني لطيفة معي يا برلين، أعطيني كل شيء كنت أتمناه من دولة. أعطيني راحة نفسية كافية لأستمتع بصيفك وأكلك وموسيقاك ومسارحك. امنحيني فرصة للتعرف عليكِ وعلى نفسي. هكذا، عندما يأتي الانهيار ليدق أبوابك، لن أحتفل ولن أغني بل سأنعي مدينة حضنتني وساهمت بعودتي إلى الحياة.
أو يمكن لازم أنطر الكف؟
سأكتب إليكِ قريبًا أطمئنك عني
حتى ذلك الوقت أبقي مشمسة،
مع كل حبي،
ساري.
أحبك لأنك فقدت توازنك بالسير أكثر من مرة قبل أن تتعثري وتصبحي العاصمة وحتى الآن تتساءلين بابتسامة وقحة كيف ظفرت أنت بالذات بهذا الشرف.
الكاتبة: إيزابيل فليندا
البلد: ألمانيا
عزيزتي برلين،
عندما سعى سكان البتراء وراء الحياة الأبدية وقهر الموت، كان مزارعوك يقودون مواشيهم عبر حقولك ساعين إلى قهر الجوع.
وعندما ابتهجت مملكة "هان" الصينية باختراع الورق وعجلة اليد، تخلص شعبك الهمجي من كل ما امتلكه في حانات الشرب.
وعندما سرت الكثير من مياه دجلة عبر بغداد، سرى الحبر للمرة الأولى على وثيقة من أجل ذكر اسمك.
وعندما تهافتت مدن إسبانيا والبرتغال على غزو العالم آملة في تجديد الخريطة، كنت أنت تخشين من تغيرها فبنيت سورًا حجريًا حول سكانك.
وعندما امتلأ متحف اللوفر بالتحف المنهوبة ليصبح تاج أوروبا، سرق نابوليون ملاكك الحارس الكوادريجا Quadriga ليخلف ندبة.
وعندما تزوجت لندن من العالم قسرًا لتصبح أكبر مدنه، كنت أنتِ، أيتها العانس، المدينة الأكبر امتلاء بالشقق ذات الغرف الواحدة.
وعندما نزعت النساء في وودستوك Woodstock الصدريات، غطيت أنت نصف جسمك بجدار.
أحبك لأنك فقدت توازنك بالسير أكثر من مرة قبل أن تتعثري وتصبحي العاصمة وحتى الآن تتساءلين بابتسامة وقحة كيف ظفرت أنت بالذات بهذا الشرف.
أحبك لأنك لا تخجلين وتقدرين نفسك دون أن تسرفي في حب وجهك.
ولك خالص شكري،
إيزابيل.
لم أعد أستطيع أن أنظر إليك بعين السائح الذي يبحث عن الغرائب والعجائب، كل ما أراه اليوم مقيد بغرض، ووظيفة، وشيء من الرتابة، وغير قليل من الغضب.
الكاتبة: أسماء السكوتي
البلد: المغرب
عزيزتي برلين،
هل سبق لك أن سمعت بنكتة المرأة التي دخلت الجنة فوجدتها أشبه بمنتجع صحي، هادئة، بيضاء، ومريحة لدرجة الملل. ثم ما لبثت أن سمعت موسيقى صاخبة تأتي من بعيد. سألت الملائكة عن مصدر الحفل ومن يقيمه فأخبروها أنهم أهل جهنم يقيمون أحد حفلاتهم المعتادة. بعد طول تفكير، استأذنت المرأة حراس جنتها للانضمام إلى حفل جهنم، وهناك رقصت وضحكت وشربت، وفي نهاية الحفل عادت إلى جنتها "المونوتون". هكذا، عرفت المرأة أنها لا تنتمي إلى هدوء الجنة ولا ترغبه. من ثم، طلبت من الملائكة أن يأذنوا لها بزيارة ثانية للجحيم. وافق الملائكة، ولكن بشرط أن لا تعود ثانية إليهم وأن تبقى هناك في النار إلى الأبد. هكذا، وكمن عقد صفقة رابحة، انطلقت المرأة مهرولة نحو الجحيم غير آسفة على الجنة وهدوءها المستفز. ولكن، بمجرد أن نزلت إلى الجحيم هذه المرة استقبلتها النيران والأسياخ المحمية والسياط وكل ما أخبرتنا الأديان عنه من عذاب شديد وأليم. صرخت المرأة مستفسرة عن سبب هذا التحول الدرامي، وبنفس واحد أخبرها الزبانية وأهل الجحيم معًا: في أول زيارة كنت سائحة، أنت الآن مقيمة!
ما فعلته بي شبيه بهذه الحكاية. حين أتيتك سائحة أول مرة منذ 5 سنوات، لم تريني إلا باراتك وموسيقاك الصاخبة ومتاحفك الباذخة. كانت زيارة قصيرة، ثلاثة أيام فقط. من ثم، لم يكن من الصعب عليك أن تغطي ألوانك الحقيقة. بعدها، أي بعد أقل من سنة أبرزت لي أنياب الزبانية الحادة. هكذا، انتقلت من مركزك المخصص للسياح إلى الضواحي المخصصة للمهاجرين ذوي البشرة السمراء والأسماء اللا-أوروبية. أتذكر منذ ثلاث سنوات حين أخبرني أحد المؤجرين بكل بساطة وفي نفس واحد: "آسف لكنني وعدت جيراني ألا أؤجر لعرب، لكن هل ترغبين في أن نتقابل لشرب القهوة". أتذكر مؤجرة أخرى، كانت أقل عنصرية وأكثر ثرثرة، كنت أختبئ منها في غرفتي طول اليوم ولا أطبخ إلا بعد أن أتأكد من نومها، لكي أتفادى أحاديثها الطويلة التي فوتت عليَّ الكثير من المواعيد. كنت أسميها وحش العتبة، ولكنها كانت أقل وحشية من المؤجر التالي الذي يؤجر بيته حصرًا لمن لا يتكلم الألمانية حتى لا يفهم عقد الإيجار وفخاخه. لم أتخلص منه إلا بمحام، وجزية ونوبات هلع لم أستطع التخلص منها حتى بعد أن زال سببها. كل هذا لأسكنك، ولأحصل على رقم تسجيل يطاردني أينما حللت، ويمنعني من الزلات اللذيذة: كأن أركب الباص بضع محطات دون دفع الأجرة، أو أن أكسر الإشارة، أو حتى أن أمشي في مظاهرة غير مرخصة.
منذ أقمت بك، حرمتني التيه وأنهكتني بالضياع. أتذكر أيام السياحة، حين كان المشي بلا هدف متعة صافية، اليوم كل خروجة بسبب، وكل هدف يحتاج أكثر من خريطة، وبعض التقلبات الدرامية قبل الوصول. لم أعد أستطيع أن أنظر إليك بعين السائح الذي يبحث عن الغرائب والعجائب، كل ما أراه اليوم مقيد بغرض، ووظيفة، وشيء من الرتابة، وغير قليل من الغضب. غضب من الشتاءات الطويلة، والشمس الباردة، والبشر المتوحدين، والسياح المُصرين على أسطرتك.
عزيزتي برلين،
كلما التقيت بواحد من السياح الذين لم يجربوا نار الإقامة فيك بعد، أرى في عيونهم حسدًا ورغبة حارقة للاستقرار، ربما كما شعرت أنا ذات يوم. أفكر في الحقيقة المرة، وأرغب في أن أخبرهم بأن برلين الأسطورة مؤقتة كأيام المشمش سرعان ما تنقضي حينما تقدم للفيزا، أو حين ترغب في فتح حساب بنكي أو في مجرد بعث رسالة في البريد. في المرات القليلة التي فضحتُكِ فيها لسياحك المقلقلين بين الجنة والنار، ضحكوا علي، وأخبروني بعبارة أو بأخرى أنني "بورينج"، "إي-سوشال"، و"أن ما أضيعك عليَّ". تعلمت الدرس، وانضممت إلى اللعبة، أصبحت كلما التقيت بواحد من أولئك الذين تعبوا من جناتهم، أمتدحك باستفاضة، أخبرهم عن حدائقك، وعن حيطان الجرافيتي، وعن الهبسترز الذين يملأون مقاهيك. أسكت عن الألمان الباردين، وعن الشقق الغالية الممنوعة تقريبًا عن كل من يحمل اسمًا عربيًا. أسكت كذلك عن الشتاء القارس الذي لا يكاد ينتهي ليبدأ. وأسكت عن أشياء أخرى. لا حقارة أو شرًا، وإنما لأني أعرف أنهم لن يشفوا من حبك إلا بالعيش فيك.
مودتي،
أسمى.
هل نُخِّلُ بقوانين الطبيعة عندما نمشي لبيوتنا مع استيقاظ الطيور؟
أم أن شركائنا في المدينة أكثر تفهمًا منّا؟
الكاتبة: ندى نبيل
البلد: مصر
عزيزتي برلين،
صورٌ عديدة تندثر في مخيلتي
أتنفس الهواء الرطب البارد
أم هو النسيم الدافئ..؟
كلٌا، هو الهواء البارد
مذبذبٌ ذهني كحال ضوء النيون المتهالك في قطار المواصلات
أتينا ولم نعرف
هل الشارع واسعٌ بطريقة عنيفة؟
أم هزلت أجسادنا قليلًا؟
أم هذا تأثير وضع أحدهم شيئًا مريبًا في زجاجاتنا جميعًا
أثناء ما كنا ننظر إلى الأعلى
نستشعرُ الرياح
ونحاول التفاوض معها
لنمحورَ أنفسنا تجاه قِبَلٍ مختلفة
تتركنا أقل برودة
أرائكٌ ومقاعدٌ نحبها
طُفئَت في جلدها السجائر من قبل
علامات نقل السرائر على الأرض
قواريرٌ لا رفقٌ بها،
مجمعة في ركن ما إلى أن يتذكرها أحد ويستبدلها بعشرات السنتات
أكوام من أوراق الخطابات أو الديون أو كلاهما
وشعور بالعجلة الدائمة وعدم الكَلّ
كأنما الوجود هو ساعة منتظمة مضطربة
هو رجل أوروبي يرتدي معطفًا بنيًّا ويذهب إلى عمله بجانب محطة Zoo
لا مجال للتمهل، للتنفس، للتواجد
وفي أحيان أخرى
كل المجال
دروس في الجفاء والحميمية
واعتذارات كثيرة ومريرة
آسفة، ما عنديش ولاعة
آسفة، ما عنديش قدّاحة
Kein Feuerzeug
Sorry, I don’t have a lighter.
ننسى طريقنا للبيت ونتذكر طرقات عشوائية
ونتذكر ما كان دًفن في الماضي
ولكنه تبيّن فيكِ
برلين
أو فيكَ
لا يهم
ماذا تعني الأرض عندما يهتز إحساسنا بالتوازن؟
ما هي الجاذبية وانت تقع على أقرانِكَ الركاب على خط الـU8؟
هل نُخِّلُ بقوانين الطبيعة عندما نمشي لبيوتنا مع استيقاظ الطيور؟
أم أن شركائنا في المدينة أكثر تفهمًا منّا؟
سحب الكتيّب من مدفنه وقرأ: «نصائح منتقاة للهروب من حرّ العالم الثالث إلى اعتدال مناخ العالم الأوّل، مع دروسٍ أوليةٍ لتعلّم اللغة الألمانية».
الكاتب: وليد الخطابي
البلد: المغرب
عزيزتي برلين، دونك حوار فحكاية فحوار...
I
غرفة صغيرة. مكتب وكرسيان، واحد أكبر من الآخر. نافذةٌ مغلقة، وخيوط عنكبوت في زوايا الجدران. رملٌ في الأرض، وأوراقٌ على المكتب.
يدخل لعربي وروحه تكاد تفلت بين أنفاسه. يقابله وجهٌ حَسنٌ لا يحسن التقطيب.
وصلتَ متأخّرًا!-
- شَيْسْه، قال في نفسه.
- أرى أنّك من بلادٍ صحراؤها واسعةٌ والحرّ فيها شديد!
- ...
- الرمال في كلّ مكان!
- ...
- والطرقان وعرة يا ربّي!
- ...
- كم يبعد أقرب منبعٍ للماء عن مسكنك؟
- ...
- أين تركت ناقتك؟
- ...
- اعذر المزحة ها ها ها
- هــ...
- هاااا (تنهدّت) ... حتمًا لديك علم تهوية الغرف في وقت الحر!
- ...
- تأكل بأصابع يدك؟
- أجل، ميّك شويّة!
لم تسمع صاحبة الوجه الحسن الجزء الثاني من جواب لعربي، وانشغلت تبيّن له ما جاء ليتبيّنه. أمّا هو فقد تشتّت ذهنه وسُحب إلى أماكن أخرى...
II
جلس لْعربي تحت الشمس يتأمّل بعض الكثبان الرمليّة التي كان قد حفظ شكلها الدائم التكوّن عن ظهر قلب. كان ملتحفًا بدرّاعةٍ زرقاء مزركشة.. ورأسه حجبها عن الشمس بثوبٍ خفيفٍ طويلٍ، أزرق بدوره، لفّه كثيرًا. وبينما هو على تلك الحال، يتأمّل الكثبان ويفكّر في حلٍّ لمشكل شحّ الماء ووعورة المسالك وضيق ذات اليد، إذ أزاحت الرياح الرمال عن كتيّبٍ صغير الحجم صفحاته قليلة وغلافه كان جذّابًا حتّى هراه الزمن، ذو عنوانٍ يصرخ بالخير والأمل. سحب الكتيّب من مدفنه وقرأ: «نصائح منتقاة للهروب من حرّ العالم الثالث إلى اعتدال مناخ العالم الأوّل، مع دروسٍ أوليةٍ لتعلّم اللغة الألمانية». كانت ناقته الوحيدةُ جالسةً أمامه، فنزلت صورتها ضبابية على عينيه وهو يقرأ العنوان بتمعّنٍ. وضع الكتيّب جانبًا حتّى تظهر له جليًا، فتأمّلها وفكّر في جاهزيّتها لرحلةٍ لمعت فكرتها توًّا في ذهنه.
كان لْعربي يعرف الترحال في الصحراء جيّدًا... ألِفه وخبره. أمّا سفرٌ إلى عالمٍ آخر، فما لا خطر على باله.
لم يكن يعرف لسانًا غير لسان أهله، يفهمه عند القراءة ويكتبه لمامًا. فأخذ منه الفضول مأخذه، وبدأ يقرأ في فصل دروس اللغة الألمانية بنهمٍ شابه توجّس خفيف من الغباء وبطء التعلّم. كان يعود بين الفينة والأخرى إلى الفصول التي تناقش ما يجب فعله عند بلوغ الوجهة، وكان مهملًا حدّ الغلوّ للفصل الذي يناقش أهميّة الذهاب للمواعيد في الوقت المحدّد. قرأ وقرأ وغنم بضع كلماتٍ وجملٍ جعلته يفكّر جدّيًا في السفر، فجهّز نفسه وناقته وركبها ثمّ انطلق. سار بها وهو يقرأ ويقرأ ويقرأ...كان يحاول تثبيت ما تعلّمه في ذهنه، لغةٌ لم يسمعها من قبل. عبر الصحاري القاسية الرمضاء والوديان الجافة الحزينة حتّى بلغ الشمال ووجد البحر الواسع الغريب. لم تجد سفينة الصحراء صعوبةً في أن تصبح سفينةً حقيقيّةً عبر بها البحر الأبيض المتوسطيّ نحو أوروبا، ثم إليك يا برلين. تعلمّ الكثير من لغة أهلك وناقته تسبح في البحر، حتّى لم يجد بدًّا، حين وصل أخيرًا، من أن يسجّل نفسه في قسم اللغة الألمانية وآدابها بإحدى جامعاتك.
خلع لباسه ولبس لباس أهلك، ثمّ أطلق سراح ناقته في الغابة وذهب لأوّل مواعيده.
III
- هل فهمت كلّ ما قلته.
- معظمه.
- ماذا تعني؟
- سأوافيك بأيّ تساؤلٍ إذا ما ظهر.
- ما هكذا تدار الأمور.
نهض لعربي من مجلسه، واتّجه نحو الباب غير ملقٍ بالًا لعبارات الدهشة والانتقاد اللاذع المشوب ببغضٍ من أدب، وقبل أن يختفي تمامًا، استدار بكامل جسده وقابلها صارخًا: وقولنالك يا لخرى ميّك!
خرج مسرعًا والرمال تنتفض حوله.
جفّ القلم،
وليد.
- يحتفظ الكتاب بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بنصوصهم دون إذن منهم