يؤكد هوجارت في هذه الدراسة السيرية الذاتية الصميمة -التي كتبت من داخل تجربة الترعرع  في مدينة ليدز الصناعية- أن بريطانيا قد بددت مهارات تعليمية وثقافية لم تكتسبها إلا بشق الأنفس حين تبنت نُظمًا اجتماعية جديدة تهيمن عليها قيم جديدة ومقلقة.

استعمالات الكتابة.. جوانب من حياة الطبقة العاملة لريتشارد هوجارت (1957)

مقال: روبرت مكروم

نُشر في الجارديان، يوليو 2018

ترجمة: أسماء السكوتي


ريتشارد هوجارت، عن الجارديان

عادة ما تواجه قوائم مشابهة لهذه التي نحن بصددها، اختيارات صعبة أو حتى مستحيلة. في 1957، نشر عالم لغويات أمريكي شاب وبارع، دراسة من 100 صفحة في دار نشر هولندية صغيرة (موتون  إي كو) في لاهاي؛ ستصبح بعدها مباشرة جزءًا لا يتجزأ من قوائم الكتب  المعاصرة "الأكثر تأثيرًا" و"الكلاسيكيات الحديثة".

النص المقصود هنا هو "البنى النحوية" الذي جاء كـ "جزء من محاولة بناء نظرية معيارية عامة للبنية اللغوية". مؤلفه، نعوم تشومسكي، الملقب بمؤسس اللغويات الحديثة؛ واحد من أبرز المثقفين الجماهيريين في هذا العصر والضمير النقدي الشرس لأمريكا التقدمية، ويحظى بالإشادة والتقدير لحسه الجدلي ضد السياسة الخارجية للولايات المتحدة بقدر ما يحظى بها لنظرياته حول اللغة والفكر.

ولكن، رغم انكبابي على "تحفته"، وهي عرض موجز لعمل لاحق يقع في ألف صفحة عنوانه "البنية المنطقية للنظرية اللغوية"، عليّ أن أعترف أنني، بعد قراءة هذا النص المحير مرتين، لن أثقل كاهل قراء هذه القائمة بتشومسكي. لو أن نثره كان محببًا إلى النفس، كنت سأغفر لـلبنى النحوية قناعه الثقيل المانع المنسوج من لغة تقنية (أو ما يسمى باللغة الاصطلاحية)، لو أن أفكاره كانت غامضة جدًا، ولكنها في نهاية المطاف قابلة للعرض بإثارة وعمق؛ كنت لأغامر وأدرجه هنا.

هكذا، للأسف، أعلن أن تحفة تشومسكي -باستثناء جملة وحيدة لافتة وبارعة في انعدام معناها ("تنام الأفكار الخضراء التي لا لون لها بغضب")- غير قابلة للقراءة. أنا آسف: طبعًا قد يكون "البنى النحوية" -كما اقترح البعض- يضاهي قيمة أعمال كينز وفرويد قيمةً، ولكنه أيضًا، بعد قراءتي له، ونيابة عن القارئ العادي -أي المتلقي المفترض لهذه القائمة- غير قابل للفهم.

ما الذي مثلًا يسعنا أن نصنعه بـ "قلق تشومسكي الأساسي"؟ الذي يعرّفه بـ "إشكالية شرعنة النحو"، أو أن نفهمه من شروحه التي لا تزيد القارئ إلا حيرة؛ في تعريفه مثلًا لـ "نحو اللغة L" بـ"النظرية الأساسية لـ L". ولنقرأ هنا، ما يعلن عنه كمزيد من التوضيح للعبارة السابقة: كـ"أداة تولد كل التراتبات النحوية لـ L وتترك غيرها من التراتبات اللانحوية".

ربما هناك قوائم تستطيع احتواء هذا الكتاب القصير والاستثنائي وتمنحه مسكنًا، أما بالنسبة لقراء الأوبزرفر فلن يكون إلا فرضًا قبيحًا. بدلًا من ذلك، سأختار كتابًا يرجع إلى العام ذاته، العام 1957، ألا وهو كتاب ريتشارد هوجارت عميق التأثير والمكتوب بأسلوب جميل، والمرجع الكلاسيكي للتحليل الثقافي لبريطانيا ما بعد الحرب: استعمالات الكتابة.

إن هذه المحاولة لفهم التغيرات التي عرفتها الثقافة البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية -حيث قادت تعبئة القوى المدنية إلى خلق كتلة جماهيرية – اجتماعيًا وثقافيًا- سيفهمها كل قارئ يحاول اليوم إيجاد منطق وراء استفتاء البركسيت.

يؤكد هوجارت في هذه الدراسة السيرية الذاتية الصميمة -التي كتبت من داخل تجربة الترعرع  في مدينة ليدز الصناعية- أن بريطانيا قد بددت مهارات تعليمية وثقافية لم تكتسبها إلا بشق الأنفس حين تبنت نُظمًا اجتماعية جديدة تهيمن عليها قيم جديدة ومقلقة. ولن تكون محصلة هذا السعي، حسب رأيه، سوى تدمير ثقافة "الناس" المنتمين إلى طبقة مَدنية عاملة.

في البداية، كان من المفترض أن يكون عنوان دراسة هوجارت الشغوفة "إساءة استعمال الكتابة"، وقد كانت أكثر المقاطع المشهودة في كتابه، تلك التي هاجم فيها "الناشرين الجماهيريين" الذين -على حد رأيه- يدمرون النسيج المرهف والمترابط لجماعات الحي الواحد المعتمدة على المكتبات المحلية، والمتاجر ونوادي العمال. يدرك هوجارت الأخطار المتأصلة في تحليله، ويعترف أنه "عادة ما يجد نفسه مرغمًا على مقاومة دافع داخلي يجعله يصور القديم على أنه أفضل وأبدع من الجديد".

ينقسم كتابه إلى جزئين ("نظام أقدم" و"الاندحار أمام الجديد")؛ الأول عبارة عن سردية مؤثرة لقيم الطبقة العاملة السابقة، متبوعة بعرض مفصل لكل التغيرات التي طرأت في بريطانيا، تقريبيًا، منذ انتخاب حكومة أتلي إلى ظهور البيتلز.

يدرس هوجارت- الذي كان متأثرًا بوضوح بجورج أورويل، خاصة كتابه الطريق إلى رصيف ويجان- الموسيقى الشعبية والجرائد والمجلات وكتيبات التسويق الجماهيري في الخمسينيات في سبيل إيجاد إشارات لفهم تحول المخيلة الشعبية.

بعض من هذا وصل إلى حد الاختلاق، لأنه في سبيل تفادي عقوبات القدح والتشهير البريطانية اضطر إلى اختراع عناوين مختلفة لأعمال الجنس والجريمة الرخيصة التي كان ينتقدها بقسوة وعنف (رُزق واحد من هذه الأعمال- داث كاب فور كايوتي- حياة ثانية عجيبة، إذ تحول مع فرقة بونزو دوج دو-دا إلى أغنية روك كوميدية، سيؤديها البيتلز فيما بعد في 1967 في فيلمهم "جولة سحرية غامضة").

على أي حال، مهما تعددت مصادر هوجارت، فإن أصالة أسلوبه لا لبس فيها.  هكذا، وكغيره من النصوص العظيمة التي تتضمنها هذه القائمة، يركز كتاب "استعمالات الكتابة" على دراسة حالة تطال الفقراء والمعدمين في علاقتهم بوسائل التواصل الجماهيرية المتاحة لهم (الصحف الشعبية، المجلات الرخيصة والإذاعة المحلية). ينطلق هوجارت إذن، من هذا الجرم الصغير ليصنع عملًا يحاور العالم الأكبر بحقائقه والعلاقات التي يقيمها بين الكثرة والقلة؛ بين الناس العاديين والنخبة المهيمنة. في النهاية، يتيح هوجارت تشريحًا لصراع متكرر: الشارع ضد البرج العاجي.

في مقدمته، يوبخ هوجارت ضمنيًا الأكاديميين الذين يكتفون بوعظ الحشود، مضيفًا، أنه شخصيًا "يحاور أولًا (القارئ العادي) الجاد أو (الهواة الأذكياء) بغض النظر عن الطبقة التي ينتمون إليها. لقد كتبت بوضوح، بقدر ما أتاحه فهمي للموضوع".

ليختم بقوله: "إن واحدًا من أكبر الملامح اللافتة والمنذرة بالخراب في وضعنا الثقافي الحالي هو الهوة العظيمة الفاصلة بين لغة المتخصصين التقنية والمستوى المنحط الفظيع لأجهزة الاتصال الجماهيري".

لن نعرف أبدا إذا ما كان قد اطلع على "البنى النحوية"!

اقتباس بارز:

"يقال عادة إنه لا توجد طبقة عاملة في بريطانيا اليوم. يقال إن (ثورة لادموية) قد حدثت، تقلصت من بعدها الفروق الاجتماعية، يقال إن معظمنا أصبح حاليًا جزءًا من تركيبة بسيطة ومستوية تقريبًا؛ مستوى تركيبة الطبقة الدنيا-المتوسطة والمتوسطة".