الضحك ممكن يتحول لممارسة خطيرة، ممارسة تخلخل الأوضاع القائمة، ممارسة تتريق على النظام الموجود، الضحك بالتالي ممكن يبقى مخيف لأي سلطة، إحنا عارفين ده من أول ما قلنا يا تاريخ.

الضحك

مقال: أمير زكي


المهرج الضاحك لجاكوب كورنيليش فان أوشتشانن، عن ويكيميديا

"محدش بيضحك غير الإنسان".

إيه مصدر المعلومة دي؟

ده تصريح كده جدعنة من أرسطو.

الفيلسوف اليوناني أرسطو كان راجل مسيطر جدًا، أفكاره في الفلسفة والعلوم وحتى في الأدب فضل ناس كتير مصدقينها وبيطبقوها يمكن لحد القرن العشرين.

عشان كده لما قال إن محدش بيضحك غير الإنسان الناس صدقته، وطلعت بقى تنويعات على الجملة دي زي "الإنسان حيوان ضاحك"، أو إن "الفرق بين "الإنسان والحيوان إن الإنسان بيضحك.

بس إحنا دلوقتي عارفين بما فيه الكفاية إن فيه حيوانات بتضحك برضو، زي القرود والكلاب وحتى الفيران، دلوقتي نقدر نوصل لأكتر من 60 نوع حيواني بيمارس الضحك.

بس رغم كده ممكن نقول إن الإنسان بس هو اللي ممكن يفهم الضحك ويمارسه عن قصد ويتضايق منه لو ما عجبوش. لكن إحنا برضو بقينا عارفين إن دي حاجة ما بيحتكرهاش الإنسان.

بنعرف من كتاب "حين تبكي الأفيال" لجيفري ماسون، إن القطط والكلاب بتتضايق لو أصحابها اتريقت عليها، كمان الكاتب بيذكر إن بعض الحراس شافوا أفيال بيملوا خراطيمهم بالمية ويرشوها على الناس اللي بتضحك عليهم، بالتالي الحيوانات بتضحك، وبتفهم الضحك كمان وبتتأثر بيه.

بس بلاش نحس إن مفيش فرق بيننا وبين الأفيال، لأن الإنسان بس هو اللي فكر في الضحك وأسبابه، والفلاسفة البني آدمين برضو هما اللي حاولوا يحللوا الضحك، ويمكن الأهم من ده واللي بنقابله في حياتنا اليومية، إن الضحك ممكن يتحول لأدوات ممنهجة، أو على الأقل منظمة، ممكن ترتبها بطريقة معينة عشان تنتزع الضحك من الناس، وما يبقاش مجرد ضحك تلقائي، وده بيحصل بداية من صاحبك اللي ع القهوة اللي بيعرف يقول الإفيه في الوقت المناسب لغاية الأعمال الفنية الكوميدية بأشكالها المتنوعة. وللأسف، الإنسان برضو هو بس اللي ممكن يسعى لمنع الضحك.

تفسير الضحك

وإذا كنا عارفين إن فيه حيوانات بتضحك، وفيه حيوانات ما بتضحكش، فإحنا متأكدين إن كل البشر بيضحكوا. ما نعرفش لحد دلوقتي ثقافة بشرية على مر التاريخ ما كانتش بتضحك، أينعم بيبقى فيه شعوب الضحك عندها أشيع وأقرب من شعوب تانية، وأينعم فيه ثقافات أو أعراف أو أديان بتتحفظ على الضحك، لكن مفيش شعب معرفش الضحك خالص.

إحنا عارفين دلوقتي إن الضحك بيفرز هرمون الإندروفين اللي بيخفف الألم، واحتمال إن كان ليه وظيفة تطورية في تاريخ الإنسان، بحيث إنه يحقق تواصل بينهم.

في الفلسفة إحنا عندنا 3 نظريات بتشرح وتفسر الضحك:

نظرية التفوق والاستعلاء ودي بدأت من عند أفلاطون واترسخت في الفلسفة الحديثة مع توماس هوبز، وإحنا فيها بنضحك لما بنحس بتفوقنا على الناس اللي حوالينا. وده ممكن يبقى صحيح في أوقات كتير، إحنا بنضحك على ممثلين الكوميديا عشان بيقعوا في مواقف محرجة، بنتمنى إننا ما نقعش فيها أو بنحس إن ده مش هيحصل لنا. لكن مش كل إحساس بالتفوق بيولد ضحك، وكمان ساعات بنضحك على ممثلين بيقدروا يعملوا حاجات مش بنقدر نعملها.

النظرية التانية هي نظرية الارتياح اللي اترسخت مع سيجموند فرويد في كتاب "النكتة وعلاقتها باللاوعي"، وهنا إحنا بننفّس عن الطاقة اللي في أحوال تانية بيبقى دورها كبت المشاعر. فرويد بيضرب مثل إننا لما نشوف مهرج السيرك بيتكعبل ويقع فاحنا بنضحك عليه، في حين إن الطاقة دي نفسها كان ممكن نستغلها في فهم سبب الوقوع. فرويد كمان بيقول إن النكت بتتعمل عشان تطلع جزء من المكبوت في اللاوعي (بشكل لا واعي طبعًا).

أفكار فرويد عمومًا بتتعرض لنقد كبير كل ما العلم بيتطور، إحنا عارفين إن صناعة الضحك والكوميديا بتتم بمجهود واعي في أحيان كتير، بس مع كده ما نقدرش نتجاهل نظرية الارتياح تمامًا، كلنا بنتفرج على الأفلام الكوميدية عشان نهدي أعصابنا ونروق دماغنا (بس ناخد بالنا إن الفنانين الكوميديين "واعيين" بده)، كمان بنقعد مع أصحابنا عشان نضحك ونستريح شوية من تعب اليوم، لأن جسمنا عارف إن الضحك بيخفف من الألم.

النظرية التالتة هي نظرية التنافر أو عدم الاتساق، ودي نظرية قديمة بتمد لحد أرسطو، اللي اتكلم على إن الضحك ممكن يطلع بإنك تخلي جمهورك يتوقع حاجة بس تقدم له حاجة تانية، لكن النظرية دي اترسخت مع أسماء كبيرة في الفلسفة بداية من القرن الـ 18 زي كانط وشوبنهاور وكيركجور.

النظرية دي رغم إنها قديمة إلا إنها بتستخدم في الكوميديا لحد دلوقتي.

"- مالك يا همام مكشّر ليه؟

 - يا عم إيمان اتجوزت

 - يا عم خلاص بقى يعني إنت كنت هتتجوز رانيا علواني"

هنا الكلام كله بيودي على سكة المواساة لكن الإفيه اللي في الآخر خالف التوقعات، واستدعى الضحك.

لكن حتى النظرية دي رغم قوتها كان ليها انتقادات، منها إن التنافر مش لازم بالضرورة يولد الضحك، لكن ممكن يولد مشاعر سلبية تانية زي الخوف مثلًا أو الغضب أو القرف.

وظيفة الكوميديا

الضحك، لأنه حاجة أساسية في حياة الإنسان، اتحول بسرعة لممارسة ممنهجة أو منظمة، بتظهر في الأعمال الفنية من بداية التاريخ. اليونانيين القدام قسموا المسرح بين تراجيديا وكوميديا، وممكن تبقى الكوميديا أهم للناس لأن التراجيديا بتتكلم أكتر عن الملوك والآلهة اللي احنا مش منهم، والكوميديا بتتكلم عن الناس العاديين.

السينما مع بداية القرن العشرين وجهت معزة خاصة للكوميديا، بداية من السينما الصامتة، بقت فيه أسماء راسخة زي شارلي شابلن وبوستر كيتون، بيقدروا يضحكوا الناس بتصرفاتهم وحركاتهم والمواقف اللي بيتحطوا فيها.

من أبرز كتب القرن العشرين عن الضحك والكوميديا، كتاب صدر سنة 1900 للفيلسوف الفرنساوي هنري برجسون، الكتاب كان اسمه "الضحك" طبعًا، الكتاب شاور على أكتر من سبب للضحك، ضرب مثل بالشخص اللي كان ماشي بسرعة ووقع، فبنضحك عليه، عشان بنشوف إن حصل له تصلب أو تيبس بعد حركة، الفرق بين الحركة والثبات بيخلق ضحك، الحركة إنسانية، والثبات آلي أو ميكانيكي.

دي حاجة ممكن نشرح بيها كتير من الأفلام الصامتة، زي أفلام شابلن وكيتون.

شارلي شابلن، الأزمنة الحديثة

برجسون خد موضوع الثبات ده لنقطة أبعد، وشاف إن الكوميديا أو الضحك ليهم دور إصلاحي، لو المجتمع شاف شخص متصلب مثلًا، المجتمع بيتريق عليه عشان يليّن طباعه، وإحنا كلنا عارفين صاحبك القافش اللي ممكن تتريق عليه عشان يفك شوية.

بس حد زي شارلي شابلن في المقابل، خد الضحك برضو لنقطة أبعد، في فيلم "الأزمنة الحديثة"، شابلن بيتريق على الثورة الصناعية بإنه يحوِّل نفسه هو شخصيًا لآلة، أينعم ده بيثير الضحك، (الحركة بقت ثبات، أو تكرار)، لكن برضو بيثير التفكير، والغضب.

النقلة من الضحك للضحك لحد الضحك للتفكير والإصلاح كانت موجودة في أفلامنا الكوميدية برضو، بعد التهريج البدني في فترة من الوقت ظهر نجيب الريحاني، أو هو نفسه اتنقل ناحية كوميديا اجتماعية، في مشهد "غزل البنات" الشهير، نجيب الريحاني بيظهر التنافر بين لبس الموظفين شديد الوقار والأناقة وطبيعة وظايفهم التافهة جدًا، اللي تديك فكرة عن إزاي الطبقة الغنية في العصر ده كانت عايشة، في حين إن الفقر موجود في كل حتة، ويمثله أستاذ حمام.

الضحك وسيلة خطيرة

بس معنى كده إن الضحك مش معناه بس إننا جايين نهرج، ده ليه دور إصلاحي زي ما بيقول برجسون، ده ممكن الدور الإصلاحي ده يبقى دور ثوري زي ما بينبهنا شابلن أو اجتماعي زي ما بينبهنا الريحاني.

كلنا بنضحك، ومعظمنا بيحب الضحك، وأيًا كان موقفنا من الضحك، فاحنا عارفين قيمته، عارفين إننا بنحب صاحبنا اللي بيقول نكت، وممكن نعدي لحد حاجات كتير عشان قعدته حلوة وبيضحكنا. لكن على مستوى الحياة اليومية برضو عارفين خطر الضحك، وبنخاف الناس "تضحك علينا"، والمثل بيقول "يا بخت من بكاني وبكي عليا، ولا ضحكني وضحك الناس عليا"، الضحك كمان ممكن يوصم صاحبه، لأن آه بنحب قعدة اللي بيضحكنا بس ممكن ما نعتمدش عليه، ونحس إنه مش واخد الدنيا جد، كلنا لما بنقدم على شغل بيتقال لنا ما تهزرش في الإنترفيو، ما هو لو اتريقت على الإتش آر النهارده هتتريق على مديرك بكره.

الضحك ممكن يتحول لممارسة خطيرة، ممارسة تخلخل الأوضاع القائمة، ممارسة تتريق على النظام الموجود، الضحك بالتالي ممكن يبقى مخيف لأي سلطة، إحنا عارفين ده من أول ما قلنا يا تاريخ.

أفلاطون كان بينتقد الضحك عشان ممكن يخرج الإنسان عن سيطرته على نفسه، ودعا لـ "التحكم" في الكوميديا وإنها تبقى للعبيد أو الأغراب مش لليونانيين الأحرار.

التفكير ده فضل موجود ووصل للثقافة المسيحية في العصر الوسيط، كتير مننا شاف فيلم "اسم الوردة" وإزاي راهب كان بيحاول يمنع الرهبان التانيين من الوصول لكتاب الكوميديا المفقود لأرسطو، عشان بيتكلم عن فضائل الضحك، وإن المنع كان بيوصل لحد القتل.

من فيلم "اسم الوردة"

يمكن القصة دي ما تكونش حقيقية (بس كتاب الكوميديا مفقود فعلًا) لكننا عارفين كفاية إن فيه أنظمة رهبانية مسيحية بتمنع الضحك داخل أديرتها.

الأديان والضحك دايمًا مسألة بتستدعي الجدل، حتى لو مفيش منع كامل للضحك، فالضحك ممكن يقلل الوقار اللي موجود في الدين. افتكر كام مرة ضحكت في دار عبادة؟ هل ده حصل أصلًا؟

لكن المسألة مش واقفة بس على الدين، لأن الضحك بكل أشكاله سواء كاستعلاء، أو ارتياح وتنفيس، أو كشف للمتناقضات، ممكن يضايق السلطة السياسية برضو.

"بيقول لك أول ما السادات مسك الحكم اتنكر وخرج يشوف أحوال الناس في الجيزة، لحد ما لقى غرزة ودخلها، طلب جوزة وبدأ يدخن، الراجل اللي جنبه حب يتعرف وقال له: محسوبك المعلم أبو شفطورة إمبراطور داير الناحية، اسم الكريم إيه؟

- أنا رئيس الجمهورية

- كده من أول نَفَس؟"

النكتة أو الضحك في السياسة ممكن جدًا يبقى أقوى من النقاش بالمنطق أو حتى التحريض، الإفيه أو الـ punch line بيختصر حاجات كتير يمكن ما يبقاش للمواطن العادي عنده طاقة إنه يرتبها أو حتى يناقشها، بس هو حاسسها، زي إحساس المواطن بالسادات بإنه مش مالي مركزه زي عبد الناصر، وده في بداية توليه الرئاسة وقبل قرار الحرب.

معروف إن عبد الناصر كانت بتجيله ضمن التقارير النكت اللي كانت بتطلع عليه وعلى السلطة، وإنه ساعات كان بيتدخل وبياخد قرارات على أساس إن النكتة تقيلة أو قوية، وبالتالي بتعبر عن احتياج قوي عند الشعوب.

طول فترة حكمه كان عبد الناصر عارف ومتابع النكت اللي بتتقال، لكن بعد نكسة 67، ولما بدأت تطلع نكت تقيلة ومهينة خاصة تجاه الجيش المصري، عبد الناصر اتكلم عن ده صراحة في خطاب ليه، تحديدًا في تاني خطاب ليه بعد النكسة:

"هم عارفينا.. شعب.. وخصوصًا الشعب المصرى، يمسك أى حاجة وينكت عليها.. تعرفوا موجة النكت اللى طلعت الأيام اللى فاتت.. أنا عارف شعبنا.. شعبنا طبيعته كده، وأنا لم آخذ هذا الموضوع بطريقة جدية، وعارف الشعب المصرى كويس.. ما أنا منه واتربيت فيه.. كل واحد ما يقابل واحد يقول له سمعت آخر نكتة، ويحكيها.. ما هو كده.. ما احنا كده، وهم عارفينا طبعًا، فممكن يستخدمونا بأن تتقال بعض النكت الحقيقة اللى تأثر على كرامتنا".

عبد الناصر كان أقرب من إنه يطلب من الناس بشكل مباشر إنهم يبطلوا تنكيت، عشان كرامة الجيش، وعشان العلاقة بين الشعب والجيش تتحسن، ويمكن كمان عشان يفضل محافظ على صورته قدام الجماهير وهو القائد المهزوم، وكان خطابه بيقول إن العدو هو اللي بيستخدم النكت دي ضدنا.

الضحك والتنكيت في العموم كان موجود بين الشعوب طول الوقت، وكان فرصة للتنفيس عن القمع السياسي في أحيان كتير، يمكن مفيش بلد في العالم بتخلو من الكوميديا السياسية، سواء في المجتمعات القمعية عن طريق النكت اللي بتتقال في الدرا، أو المجتمعات اللي فيها حرية عن طريق الأعمال الفنية أو البرامج التلفزيونية السياسية.

السخرية كمان بتبقى الطريقة المتاحة عند الخاضع عشان يواجه بيها السلطات المختلفة، هو ميقدرش يعبر عن احتقار مباشر ليهم، ولا يقدر ينفس عن كرهه ليهم بالعنف أو بالمواجهة، فبيسخر منهم، حتى الاحترام المبالغ فيه اللي بيظهره بعض الخاضعين للسلطة بيبقى فيه سخرية ضمنية، ودي حاجة بتحس بيها السلطة برضو، عشان كده ممكن تحس بالخديعة، إن الناس اللي احنا فاكرين إنهم عندهم ولاء لينا هما في الحقيقة بيضحكوا علينا. يمكن ده اللي حسه عبد الناصر في الخطاب اللي قاله بعد النكسة، وهنا "همس المحكوم من ورا ضهر الحاكم"، اتحول لصوت عالي، هنا الخطاب المستتر المستخبي اخترق الخطاب العلني، والحاكم نفسه اعترف بيه، وشاف إن ما دمنا كلنا في مأزق، يا ريت نراعي بعض ومش وقت هزار تقيل دلوقتي.

الضحك والكوميديا كمان ساعات بيتبص لهم على إنهم وسيلة أنجح في المقاومة، أنجح وأروق من العنف أو المواجهة المباشرة، أو حتى التنظيم السياسي، بنشوف في رواية العنف والسخرية لألبير قصيري إزاي الشخصيات قعدت تضخم وتبالغ في إنجازات المحافظ كنوع من السخرية منه ومن سلطته، لدرجة إن المحافظ اترفد فعلًا:

"أعرف شيئين في غاية البساطة، أما الباقي فلا أهمية له: الأول هو أن العالم الذي نعيش فيه تحكمه عصبة نبيلة من الأنذال التي لطخت الأرض، الثاني أنه يجب ألا نأخذ الأمر على محمل الجد لأن هذا هو ما يرغبون فيه".

شفتوا قد إيه الضحك والسخرية والكوميديا ممكن يكونوا أداة إصلاح وثورة، شفتوا إزاي بيشكلوا مساحة للمقاومة، إزاي بيخلوا حياتنا أحسن وأحسن كل يوم؟

قد إيه الضحك حاجة جميلة.

بس..

"مرة واحد صعيدي اتحاوط بأربع شياطين، واحد يوسوس له والتلاتة التانيين يفهموه".

الضحك الرجعي

كلنا سمعنا النوع ده من النكت، نكت عن الصعايدة ونكت على الفلاحين، ونكت عن الستات، ونكت عن أي حد مش شبهنا، هنا ما نقدرش نقول إن الضحك ليه دور إصلاحي ولا حاجة، دي نكت بترسخ فكرة المركزية، وإنك كل ما تبقى قريب من المركز (القاهرة مثلًا) كل ما كنت أذكى ومتحضر أكتر. والكلام ده مش في مصر أو العالم العربي بس، لكن في العالم كله.

في كتابه "عن الفكاهة" الفيلسوف الإنجليزي سايمون كريتشلي بيشاور على ملحوظة مهمة، إن معظم الضحك اللي بنقابله رجعي، طبعًا انت فاكر زميلك المتنمر أيام المدرسة اللي كان بيتريق على مناخيرك أو ودانك أو شعرك أو لبسك، ويضحك بقية زمايلك في الفصل عليك. فاكر لما تروح مطعم مع صاحبك الرخم ولما تطلب سمبوسة يتريق عليك ويقول لك اسمها سمبوسك، ولما تطلب سمبوسك يتريق عليك ويقول لك اسمها سمبوسة.

النوع ده من الكوميديا مش بينازع أو يقاوم الوضع القائم سواء السياسي والاجتماعي ولا حاجة، إنما بيرسخه، هو بيردد صدى فكرة الاستعلاء اللي ضمن نظريات تفسير الضحك.

بالطريقة دي الضحك برضو ممكن يبقى حمال أوجه، ممكن يبقى ثوري أو تقدمي وممكن برضو يبقى رجعي أو على الأقل محافظ، ممكن تستخدمه لصالحك وممكن يُستخدم ضدك، ممكن يبقى في إيدك، وممكن يبقى في.. إيد عدوك.

"بيقول لك مرة واحد روسي في الاتحاد السوفييتي راح يشتري عربية، فراح للموظف واداله الفلوس، والموظف قال له إن معاد استلام العربية هيكون بعد عشر سنين.

سأله الروسي الصبح ولا بعد الضهر؟

الموظف استغرب وقال له، انت هتستلم العربية بعد عشر سنين، هيفرق إيه الصبح من بعد الضهر؟

فقال له المواطن: أصل السباك جاي الصبح".

دي نكتة كانت متداولة في الاتحاد السوفييتي، بتكشف عن المشاكل الاقتصادية والبيروقراطية والفساد جوه البلد، وكان الشعب بينفس بيها زي ما بينفس بنكت كتير عن مشاعره، اللي ممكن ما يكونش قادر يطلعها في نظام ديمقراطي.

ودي حاجة عادية ممكن تحصل في أي بلد، ومش بعيد تكون سمعت نفس النكتة في مصر، بس من الحاجات الطريفة (أو اللي مش طريفة)، إن النكتة دي استخدمها الرئيس الأمريكي السابق والراحل رونالد ريجان في واحد من خطاباته، وهو كان بيكرر دايمًا النكت اللي كانت بتتقال جوه الاتحاد السوفييتي، ويقولها قدام شعبه وقدام العالم، عشان يوضَّح طبيعة النظام السوفييتي الفاسد والقمعي، في مقابل إظهار النظام الأمريكي اللي بيمثله على إنه حر وليبرالي والمواطن فيه سعيد.

ريجان وجورباتشوف، عن الجارديان

هنا بنشوف إزاي إن النكتة اللي استخدمها المواطن العادي بغرض التنفيس والتخفيف من بشاعة حياته، بتتحول لنكتة بتستخدم جوه صراع الحرب الباردة السياسي، وده مش بس بيظهر الاتحاد السوفييتي بشكل سلبي، ده بيظهر كمان أمريكا بشكل إيجابي، ويمكن يكون الغرض منها قمع المواطن الأمريكي نفسه "عاوز إيه؟ كفاية إنك مش عايش في مكان زي الاتحاد السوفييتي"، وقمع أي مواطن في العالم، طالما فيه ثقافة معينة هي المنتصرة وبتحاول تفرض انتصارها على الشعوب التانية بأشكال مختلفة.

الصراع على الضحك

طالما إن الضحك ممكن يتحول لأدوات ممنهجة أو مرتبة فأي حد ممكن يستعين بالأدوات دي للدفاع عن نفسه وقضيته، سواء كانت قضية عادلة أو ظالمة

زمان كانت النكتة محصورة في القهاوي والشوارع والدواير الاجتماعية الضيقة، ولما بتروح مساحة عامة، بتروحها عن طريق الأعمال الفنية، المسرح أو السينما. دلوقتي النكتة أو القلشة اللي كانت بتتقال في تجمع صغير ممكن تتقال على السوشيال ميديا، وممكن تلاقي تفاعل كبير، مش بس بين اصحابك، إنما مع ناس ما تعرفهمش، كده ممكن تنتشر بشكل أسرع، ولو النكتة كان ليها دلالة، بتنتقد السلطة، أي سلطة، فهي مصدر خطر محتاجة التحجيم.

يمكن دلوقتي تكون مهمة السيطرة على النكتة أصعب من زمان، لكن في نفس الوقت التحجيم ده ضروري أكتر من زمان، لأن الضحك انتشاره ونطاق تأثيره بقى أعلى. بس يمكن ما يكونش الحل هو التحجيم، إنما الحل هو الضحك المضاد، "إذا كنتم بتقاوموا بالضحك، فاحنا كمان هنضحك عليكم، ويلا بينا نشوف مين بيضحّك الناس أكتر على التاني".

لما جت ثورة يناير 2011، البعض سماها الثورة الضاحكة، عشان كمية القلش والنكت والضحك اللي ظهروا في أيامها الأولى، الضحك ده امتد على مدار السنين اللي بعدها، لدرجة إن بدأ ينتشر عندنا شكل البرنامج السياسي الساخر المبني على النمط الأمريكي، ولكن مع وجود أكتر من تيار عاوز يثبت مكانته السياسية، ظهرت برامج متنوعة، بتمثل تيارات متنوعة، وده حصل كمان على السوشيال ميديا. الموضوع بقى شبه إن فيه صراع بين التيارات، بس مش على مناصب أو مكاسب سياسية، إنما صراع على الضحك، مين بيضحك أكتر، ومين يقدر يكسر منطق التاني بشكل أكبر وأسرع بالضحك؟

طبعا المساحة المسموح بيها من الضحك بتتغير، واللي بينفع السنة اللي فاتت ما ينفعش السنة دي، بيتحاصر عشان ما يحصلش ضحك زيه تاني، مش لازم الحصار أو المنع يكون بقرار سياسي، لكن ممكن ده يحصل برضو بسبب المزاج العام، اللي ممكن ما يبقاش متقبل النوع ده من الضحك دلوقتي، ومحتاج ضحك تاني. وممكن الشخص اللي كان بيضحَّك يبطًّل يضحَّك، عشان اتضحك عليه في المقابل بما فيه الكفاية.

طالما إن الضحك ممكن يتحول لأدوات ممنهجة أو مرتبة فأي حد ممكن يستعين بالأدوات دي للدفاع عن نفسه وقضيته، سواء كانت قضية عادلة أو ظالمة، وفي أحيان كتير السلطة، أي سلطة، بتبقى واعية بخطورة الضحك، وعارفه أدواته، وبتقدر تستخدمها، وفي مواجهة الضحك المتمرد والمقاومة اللي بتستقبله من الجماهير، ممكن توظف ضحك برضو يقمع الجماهير ويحجِّم تمردهم.

طبيعي إننا نضحك كل ما تجيلنا فرصة مناسبة، عشان نرتاح من تعب اليوم، أو عشان نقرب من اصحابنا اكتر، بس لازم نعرف إن فيه أنواع من الضحك محتاجين نفكر فيها قبل ما نضحكها، وواحنا بنضحكها، وبعد ما نضحكها.

---

مصادر

Jeffrey Moussaieff Masson, When Elephants Weep

Simon Critchley, on humor

هنري برجسون، الضحك، ت: علي مقلد

أمبرتو إيكو، اسم الوردة، ت: أحمد الصمعي

طايع الديب، جمهورية الضحك الأولى

ألبير قصيري، العنف والسخرية، ت: محمود قاسم

جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة، ترجمة: إبراهيم العريس وميخايل خوري