أنا أكاد أكون متيقنًا من أني سأنتهي بمجرد الموت، لكن في بعض الأحيان أفكر في أنه ليس مستحيلًا أن أستمر وأعيش في حالة أخرى بعد موتي الطبيعي. أعتقد أن كل فكرة انتحار يكون فيها هذا الشك: هل ما سأقوم به شيء له فائدة؟ هل سأنتهي، أم سأعيش في عالم آخر؟ أو كما يتساءل هاملت، ما هي الأحلام التي ستأتينا عندما نغادر هذا الجسد؟
أنا ناسج أحلام
حوار مع بورخيس
أجرت الحوار أميليا باريلي. وقد نُشر الحوار للمرة الأولى في صحيفة "ذا نيويورك تايمز".
ترجمة: علي سعيد
* أميليا باريلي (Amelia Barili): صحفية أرجنتينية المولد. تخرجت من معهد لدراسات اليوجا في الهند في تخصص الفلسفات والأديان المقارنة واليوجا الكلاسيكية، ثم درَّست في جامعات مختلفة لبضع سنوات قبل أن تلتحق بـ "بي بي سي" في لندن حيث كانت تُعد برنامج "عالم الكتب"، ثم عادت إلى الأرجنتين حيث عملت في الصحيفة الأرجنتينية اليومية "لا برينسا" وقدمت برنامجًا للتلفاز يحوي لقاءات مع فنانين وكتاب. في عام 1986 حصلت على جائزة المعرض الدولي للكتاب لتميُّز حواراتها مع الكثير من الكتاب مثل حوارات بورخيس، والذي اعتبرته واحدًا من أصدقائها. وهذا الحوار هو آخر حوار جرى بينهما في الثالث عشر من يوليو 1986.
التقيت خورخي لويس بورخيس في عام 1981، عندما عدت إلى بوينس آيرس قبل ذهابي إلى لندن لأعمل في وظيفة لدى "بي بي سي" وبدأت في العمل مع صحيفة "لا برينسا". استقبلني بلطفٍ بالغ، متذكرًا أنه خلال العشرينيات من القرن العشرين، عندما لم يكن مشهورًا، كانت "لا برينسا" أول صحيفة تنشر عملًا له. بعد ذلك عدت لأراه عدة مرات. في بعض الأحيان كان يريد أن يُلقي قصيدةً كان ينظُمُها طوال ليلةٍ متخمةٍ بالأرق. بعد كتابتها، وضعها في مكتبه قرب مجموعة الملاحم الأيسلندية خاصّته، وهي هدية قيمة من والده.
في بعض الأحيان نتمشى إلى مطعم قريب، حيث يتناول شيئًا شديد البساطة. أو نتوجه لمحل بيع كتب، باحثين عن كتاب لكيبلنج أو كونراد بنسخة إنجليزية ليقرأها له أصدقائه. قد يتوقف بعض الناس لتحيته، وهو يخبرني مازحًا أنهم لا بد وأن يكونوا قد أخطأوه قاصدين شخصًا آخر. بدا وأن شهرته باعتباره كاتبًا قد أثقلت عليه، وكثيرًا ما كان يأسف على أنه مُضطر أن يكمل حياته هكذا حتى يستطيع (بورخيس الكاتب) أن يحيكَ خيالاته الأدبية.
في أحد صباحات نوفمبر وقبل رحيله بفترة قصيرة من الأرجنتين، تحدثنا عن أعماله الحالية، اعتقاداته، شكوكه. لم أعرف أنه سيكون الحوار الأخير معه قبل موته في جنيف الشهر الماضي. بدأنا بالنقاش عن كتابه الأخير، (المتآمرون) Los conjurados، والذي قال فيه عن جنيف "هي واحدة من أوطاني".
- من أين جاء حبك لجنيف؟
في الواقع، أنا سويسريّ؛ قضيت فترة مُراهقتي في جنيف. ذهبنا إلى أوروبا في 1914. لم تكن لدينا معلومات لدرجة رهيبة حتى أننا لم نعرف أن هذه السنة هي السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى. كنا مُحاصرين في جنيف. بقية أوروبا كانت في حرب. من فترة مراهقتي في جنيف ما زلتُ أملك صديقًا جيدًا، دكتور سيمون إيشفنسكي. السويسريون أناسٌ مُتحفِّظُون للغاية. كان عندي وقتها ثلاثة أصدقاء: سيمون إيشفنسكي، سلاتكين، موريس أبرامويسز، وهو شاعر ميِّت الآن. أنت تتذكرينه في "المتآمرون". نعم. كانت ليلة جميلة. ماريا كوداما [سكرتيرة بورخيس، رفيقة سفره، وزوجته في آخر أسابيع حياته] وأرملة موريس أبرامويسز وأنا كنا في حانة يونانية في باريس، نستمع إلى موسيقى يونانية، وكانت مليئة بالجرأة. أتذكر كلمات الأغنية: "بينما تستمر هذه الموسيقى، سوف نستحقُّ حب هيلينا الطروادية. بينما تستمر الموسيقى، سنعرف أن يوليسيس سيعود إلى إيثاكا". وشعرتُ بأن موريس لم يمت، وأنه كان معنا، وأنه لا يموت أحد بالفعل، لأنهم لا يزالون يُظهِرون ظلَّهم.
- في "المتآمرون" أنت أيضًا تتكلم عن أحد كوابيسك، هل يتكرر بعضها؟
نعم. أنا أحلمُ بمرآة. أرى نفسي بقناع، أو أرى في المرآة شخص هو أنا ولكن لا أستطيع التعرُّف على نفسي. أصل إلى مكان، وأشعرُ بشعورِ أنني تائه وأن هذا كله فظيع. المكان نفسه يبدو مثل أي مكان آخر. إنها غرفة، مع أثاث، ومظهرها لا يبدو فظيعًا. الشعور هو الشنيع، ليس في الصور. حلم مُتكرِّر آخر أُهاجَم فيه بكائنات هي عبارة عن أطفال؛ هناك الكثير منهم، صغار جدًا ولكن أقوياء. أحاول أن أدافع عن نفسي، ولكن الضربات التي أضربها ضعيفة.
- في "المتآمرون"، وكما في كل أعمالك، ثمة بحثٌ دؤوب عن المعنى. ما معنى الحياة؟
لو أن معنى الحياة قُدِّم لنا، ربما لن نفهمه. الاعتقاد بأنه يمكن لشخص أن يصل إليه سخافة. يمكننا أن نعيش بدون فهم ما هو العالم أو من نحن. الأشياء المهمة هي الغرائز الأخلاقية والغرائز الفكرية، أليس كذلك؟ الغرائز الفكرية هي الشيء الذي يجعلنا نبحث مع معرفتنا بأننا لن نتوصَّل إلى الإجابة. أعتقد أن ليسنج[1] قال إنه لو صرَّحَ الرب بهذا في يده اليمنى ووضع في يده اليسرى البحث عن الحقيقة، كان ليختار أن يفتح يده اليسرى -أراد من الرب أن يمنحهُ البحث عن الحقيقة، ليس الحقيقة نفسها. بالطبع هو كان ليختار هذا، لأن الاستقصاء يسمح بفرضيات لا محدودة، والحقيقة واحدة، وهذا لا يُناسبُ الفكر، لأن الفكر يحتاج إلى حب الاستطلاع. في الماضي، حاولت أن أؤمن بإله شخصي، لكن لم أعد أفكر في هذا مجددًا. أتذكر في هذا الصدد تعبير رائع لبرنارد شو: "الرب يكون في العمل".
- على الرغم من وصف نفسك بأنك لست مؤمنًا، هناك في أعمالك بعض الإشارات إلى تجارب صوفية حيرّتني دومًا. في قصة "كتابة الإله" تقول: "من متاهة الأحلام التي لا تعرف الكلال عدت إلى السجن القاسي كأنني عدت إلى منزلي. باركت رطوبته، باركت نِمْرَه، باركت ثقب الضوء، باركت جسدي البالي المتألم، باركت الظلمة والحجر. حينئذٍ، حدث ما لا أستطيع أن أنساه أو أنقله. حدث التوحُّد مع الألوهة، مع الكون".[2] يبدو أنك عندما توافق على أحوالك وتُباركها، تعود إلى مركزك، والفجر الصافي خلالك. في قصة "الأَلِف" أيضًا، فقط عندما توافق على أحوالك أنت ترى النقطة حيث كل مشهد من مشاهد تاريخ الكون يتكاملون مع بعضهم بعضًا.
هذا صحيح. هذه نفس الفكرة. منذ أن أصبحت أتوقف عن التفكير عادة فيما أكتبه، لم أكن أدرك هذا. ومع ذلك، إنه من الأفضل أن تكون غريزية وليست فكرية، ألا تعتقدين هذا؟ الغريزية هي ما يُحسب في القصة، ما يريد الكاتب أن يقوله هو آخر شيء مهم؛ الشيء الأهم يُقال من خلاله أو على الرغم منه.
- فكرة أخرى تظهر في عددٍ من قصصك هي اتحاد كل المخلوقات. في "كتابة الإله" يدرك الكاهن الوثني أنه جزء من موضوعات البنية الكلية وأن بيدرو دي ألفارادو، الذي عذَّبه، هو جزء آخر، في "علماء الإلهيات"، أوريليانو وجوان دي بانونيا، منافسه، يكونا واحدًا، وفي "النهاية" مارتين فيرّو وإل نيجرو لديهم نفس القدر.
هذا صحيح. لكن أنا لا أفكر كثيرًا عما قد كتبته؛ أفكر فيما سأكتبه -الذي يكون في العادة قد نظمته، بتفسير خفيف، لنرَ. هذه الأيام أنا أكتب قصة قصيرة عن سجيسموند، واحدٌ من شخصيات "La vida es sueño" سنرى كيف يتحول. سأقرأ "La vida es sueño" مرةً أخرى، قبل كتابة القصة. فكرت فيها في بعض الليالي السابقة. استيقظت؛ كانت الساعة اقتربت من الرابعة ولم أستطع العودة إلى النوم، فكرت، لنستخدم ميزة عدم القدرة على النوم هذه. وفجأةً تذكرت هذه التراجيديا التي ألفها كالديرون[3]، والتي لا بد أن أكون قد قرأتها منذ خمسين عامًا مضت، وأخبرتُ نفسي، "توجد قصة هنا". لا بد أن تشبه (لكن ليس إلى حد بالغ) "La vida es sueño" لنجعل هذا واضحًا، سيكون عنوانها "مونولوج سجيسموند". بالطبع، يجب أن يكون مونولوج مختلف تمامًا عن الموجود في هذه المسرحية. أعتقد أنها ستكون قصة جيدة، قصصتها على ماريا كوداما، ووافقت على هذا. لقد مر بعض الوقت منذ أن كتبتُ قصة. لكن هذا هو مصدر هذه القصة.
- ما هو مصدر "كتابة الإله"؟ عندما يقول الكاهن حقيقة أن سجنًا أحاطه لم يكن عائقًا لإيجاد دليل اللغة المخفية، أعتقد أن هذا مُشابه لما حدث لك مع عَمَاك.
فقدتُ بصري بعدها بعدة سنين، لكن في الواقع كان هناك تطهيرًا في العمى. هو يطهر واحدًا من الأحوال المرئية. الأحوال ضائعة، والعالم الخارجي، والذي يحاول دومًا أن ينتزعنا، يصبح أكثر تخافُتًا. لكن "كتابة الإله" هي سيرة ذاتية بطريقة أخرى. دمجتُ فيها تجربتين. النظر إلى اليغور في حديقة الحيوان، فكرتُّ في أن البقع التي على جلد الحيوان تبدو وكأنها كتابة؛ هذا لا يوجد في بقع النمر أو خطوط البَبْر. التجربة الأخرى كانت، بعد عملية، أُجبِرتُ أن أتمدد على ظهري. كل ما كنت أستطيعه هو تحريك رأسي لليمين أو اليسار، ثم دمجتها مع التجربة التي حدثت لي، أن بقع اليغور هي كتابة سرية، وحقيقة أني كنت مسجونًا فعليًا. كان الأمر سيكون ملائمًا أكثر للقصة لو لم تكن الشخصية الرئيسية عبارة عن كاهن من ديانة بربرية بل يكون هندوسيًا أو يهوديًا، مع ذلك، اليغور يجب أن يكون في أمريكا اللاتينية. هذا دفعني تجاه الهرم والآزتكيين. اليغور لم يظهر في مشهد آخر. على الرغم من ذلك فيكتور هوجو يصف السيرك الروماني ويقول إنه من بين كل الحيوانات هناك "روابط اليغور". وهذا مستحيل في روما. ربما هو قصد النمر وليس اليغور، أو ربما لم يفكر في هذا النوع من الخطأ، تمامًا كما لم يفعل شكسبير.
- مثل علماء الكابالا[4]، تحاول في هذه القصة أن تجد معنى لكتابة الإله. تعتقد أن الكون كله يمكن أن يُقدَّم في كلمة واحدة. كيف يمكنك شخصيًا أن تتصور بداية الكون؟
أنا مثاليّ بالطبيعة، غالبًا كل الناس، يفكرون حول الواقع، يفكرون حول الفضاء، وأفكارهم الكونية تبدأ من الفضاء، أنا أفكر حول الزمن، أعتقد أن كل شيء يحدث في الزمن. أعتقد أنه يمكننا التعامل بسهولة بدون فضاء لكن ليس بدون زمن. لديّ قصيدة اسمها "كونيات" وفيها أقول إنه من السخف التفكير في أن بداية الكون كانت بفضاءٍ هائل، ومن المفترض، مثلًا، الرؤية، والتي أتت بعد ذلك بكثير، إنه من الطبيعيّ أكثر أن نفكر في أن البداية كانت انفعالًا. حسنًا، إنه نفس القول، "في البدء كانت الكلمة". هي صيغة مختلفة لنفس المعنى.
- هل يمكننا أن نجد علاقة بين المفاهيم المختلفة عن أصل الكون بين الإغريق، الفيثاغوريين، اليهود؟
بغرابة، كلهم يبدأون بوجود فضاء هائل. هناك أيضًا فكرة الروح؛ والتي تأتي قبل الفضاء، بالطبع. لكن عامةً هم يفكرون في الفضاء. العبريون يعتقدون أن الكون خُلق من كلمة الإله. لكن هذه الكلمة يجب أن توجد قبل العالم. القديس أوغسطين أعطى حلًا لهذه المشكلة. لنرَ، لُغتي اللاتينية ضعيفة، لكن أنا أذكر الجملة: "non in tempore sed cum tempore Deus creavit .. لا أعرف ماذا .. ordinem mundi." هذا يعني، "ليس في وقت ولكن بوقت خلق الإله العالم". أن يخلق العالم هو أن يخلق الوقت. وإن لم يكن هذا، يجب أن يسأل الناس، ماذا فعل الإله قبل خلق الكون؟ لكن بهذا التفسير تم إعلامهم أنه كانت هناك لحظة بدون لحظة تسبقها. هذا شيء لا يُمكن تصوُّره، بالطبع، لأني عندما أفكر في لحظة فأنا أفكر في زمن ما قبل هذه اللحظة. لكنهم يخبرونا هذا، ونحن نقنعُ بما لا يمكن تصوره. زمن لا نهائي؟ زمن ببداية؟ كلا الفكرتين مستحيلتان. التفكير بأن الزمن قد بدأ مستحيل. والتفكير بأنه لا يوجد له بداية، وهذا يعني بأننا نذهب، في تعبير كلمات شكسبير، نحو "الظلام عكسيّ الاتجاه وهاوية الزمن،" وهو أيضًا ليس ممكنًا.
- أودُّ أن أعود لفكرة أن تكون الكلمة أصلاً للكون. على سبيل المثال، في التقليد العبري ثمة بحث من خلال طرق تشفيرية وتأويلية. نعم، هذه هي الكابالا. منذ وقت ليس بالطويل هآرتس، جريدة إسرائيلية، نشرت تقريرًا عن تجارب في الإنجيل تمت عبر الحاسب الآلي واكتشفت في سفر التكوين دليلاً سريًا ظل مختفيًا وهو معقد جدًا لأن يستطيع أن يفكر فيه البشر. الحروف المكونة لتلك الكلمة "توراة" تظهر في سفر التكوين، واحدة تلو الأخرى، في ترتيب دقيق، بفواصل منتظمة لتسعة وأربعين حرفًا، متجانسة كليًا في كلمات لتُكوِّن النص.
كم هو غريب هذا الحاسب الذي يُطبَّق على الكابالا! لا أعرف أنهم كانوا يقومون بهذه التجارب، هذا جميل.
- هل هذا ضروري لإثبات أن الكتب المقدسة هي كلمة الرب المكشوفة لكي نؤمن بوجود رب، أم أن هذا أمر يتم الشعور به بدون الاهتمام بالإثباتات؟
أنا لا أستطيع الإيمان بوجود رب، على الرغم من كل الإحصائيات في العالم.
- لكنك قلت إنك آمنت منذ وقتٍ قد مضى.
لا، ليس في إلهٍ شخصي. للبحث عن الحقيقة، نعم؛ لكن لنعتقد بأنه ثمة شخص ما أو شيء ما نحن ندعوه بالرب، لا. إنه من الأفضل ألا يوجد؛ لو أنه موجود فسيكون مسؤولًا عن كل شيء. وهذه الكلمة غالبًا ما تكون شنيعة، بجانب كونه عظيمًا. أنا أشعر بسعادة الآن أكثر مما كنت طفلًا. أنا أتطلّع الآن. حتى لو أن ما أتطلع إليه هو ما قد ذهب، لأنه في السادسة والثمانين من العمر، سيكون، بدون شك، ثمة ماضٍ أكثر من المستقبل.
- عندما تقول إنك تتطلع، هل تعني التطلع للاستمرار في الإبداع باعتبارك كاتبًا؟
نعم. ماذا هناك قد تُرك لي؟ حسنًا، لا. الصداقة تستمر. بشكل ما، الحب يستمر -والهدية الأكثر قيمة، الشك.
- إذا لم نعتقد في الإله باعتباره إلهًا شخصيًا بل باعتباره مجموعة مفاهيم الحقيقة والأخلاق، هل ستوافق عليه؟
نعم، باعتباره الأخلاق. هناك كتاب ألفه [روبرت لويس] ستفينسون نجد فيه فكرة أن ثمة قانون أخلاقي حتى إذا لم نؤمن بالإله. أعتقد أننا كلنا نعرف عندما نتصرف بالطريقة الصحيحة أو الخاطئة. أعتقد أن الأخلاق بعيدة عن الجدال. على سبيل المثال، أنا تصرفت بسوء عدة مرات، لكن عندما أفعل هذا، أعرف أن هذا خطأ. ستيفنسون قال هذا بنفس الطريقة فالهمجيّ يعرف الأشياء التي لا يجب أن يفعلها، لذا فالنمر أو النملة يعرفان أن هناك أشياء لا يجب أن يفعلاها. القانون الأخلاقي يجتاح كل شيء. مرةً أخرى فكرة "الرب يكون في العمل". ماذا عن الحقيقة؟ لا أعرف. سيكون الأمر غريبًا جدًا بالنسبة لنا كي نفهمه. في واحدةٍ من قصصي القصيرة أتحدث عن هذا، كنت أعيد قراءة "الكوميديا الإلهية،" وكما تتذكرين، في الأغنية الأولى، دانتي كان لديه حيوانان أو ثلاثة، واحد منهم كان نمرًا. المحرر يشير إلى أن النمر تم جلبه إلى فلورنسا في عصر دانتي وأن دانتي، مثل أي مواطن في فلورنسا، لاب د أن يكون قد رأى هذا النمر، ولذلك وضع نمرًا في الأغنية الأولى في "الجحيم". في قصتي، "الجحيم، الجزء الأول، 32"، تخيلت في حلم أن النمر يُقال له إنه خُلق كي يراه دانتي ويستخدمه في قصيدته. النمر يفهم هذا في الحلم، ولكن عندما يستيقظ، بالطبع، كيف يمكن أن يستوعب أنه موجود فقط ليكتب شخص قصيدة ويستخدمه فيها؟ وقلت إنه لو كان سبب كتابة "الكوميديا الإلهية" كُشِفَ لدانتي، لفهم هذا في حلم ولكن ليس في يقظة. هذا السبب سيكون معقدًا لدانتي كما كان الآخر معقدًا للنمر.
- في "مرآة الألغاز،" أنت تقول، مقتبسًا لتوماس دي كينسي[5]، أن كل شيء هو انعكاس سري لشيء آخر. هذه الفكرة عن البحث عن معنى خفي تظهر في كل أعمالك.
نعم، أعتقد هذا. هذا طموح إنساني شائع -أليس كذلك؟- لنفترض أن لكل شيء تفسير ولنعتقد بأنه بإمكاننا فهمه. لنأخذ مثالًا عن المفاهيم المختلفة عن أصل العالم، عن الذي تحدثنا عنه قبل قليل. أنا لا أستطيع تصور زمن لا نهائي، أو بداية الزمن، لذا أي نقاش عن هذا لن يكون مجديًا، أنا لم أستطع تصوره، لم أصل إلى شيء. أنا مجرد رجل حروف. لست متأكدًا من أنني فكرت في أي شيء طوال حياتي، أنا ناسجُ أحلام.
- عندما تحدثنا عن الكابالا، عن دراسات فك لغز كلمة الرب، لنتحدث عن هذا. ما رأيك في إلهام الإنجيل؟
ما أجده في غاية الغرابة حقيقةَ أن العبريين لم يأخذوا في اعتبارهم المؤلفين المتنوعين والعصور المختلفة عندما كُتبت الكتب. من الغريب أن نرى كل شيء في الإنجيل على أن هناك مخلوقًا من الروح، يلهم مَن كتبوا الكتاب، خلال عدة عصور. هذا شيء لم يسبق التفكير فيه من قبل، على سبيل المثال، أعمال إميرسون ووايتمان وبرنارد شو هي لنفس المؤلف، أما العبريون أخذوا بكتاب كانوا على بعد أميال وقرون كثيرة وأنجزوا أعمالهم بواسطة نفس الروح. هذه فكرة غريبة، أليس كذلك؟ الآن نحن نفكر حول الكُتَّاب، حتى في الآداب التامة، على الترتيب المتوالي. لكنهم لم يفعلوا. هم رأوا كل شيء على أنه كُتِبَ بواسطة مؤلف واحد، وهذا المؤلف كان الروح. ربما هم ظنوا أن الأحوال المصاحبة للكتابة لا تهم. وأن الأحوال تافهة، أن التاريخ تافه. "الأناجيل" -الاسم بجمعه- مصدره "الكتب" في اليونانية. هو عبارة عن مكتبة، بالفعل، مكتبة متنوعة تنوع غير متجانس، من الواضح أن مؤلف سفر آيوب ليس هو مؤلف سفر التكوين، أو أن تكون أسفار نشيد الأنشاد والجامعة والملوك كلها لمؤلف واحد. هذا يبدو كما لو أن مسألة المؤلفين المتنوعين لا يهم، ولا اختلاف العصور، ولا الترتيب التاريخي. الكلُّ معزوّ إلى مُؤلِّف واحد، الروح. من أساسيات كتب الكابلا، "Sefer Yezirah" ("كتاب الخلق")، والكتاب يتعامل مع السفيروت العشر، هذا المصطلح يعني "الأرقام،" وهم مأخوذون على اعتبار أنهم منبثقون من الرب، الإين-سوف[6]، أيجب أن نعتقد، بعد ذلك، أن الكائن الأول هو صفر، وأنه تجريديّ؟
أعتقد أن الكائن الأول، الإين-سوف، لا نستطيع تعريفه. ولا يمكن حتى القول بأنه موجود. حتى لو أن هذا واقعيّ. بعدها لن يمكنك القول إنه يملك حكمة وعلم. لأنه لو كان عالمًا، سيكون هناك شيئان -المعلوم والذي يعلم. وهذا شيء مُفصَّل جدًا للرب. يجب أن يكون ذا ألوهية لا نهائية. ثم من هناك ينبثق "الانبثاقات العشر،" أو السفيروت، وواحد منهم يخلق هذا العالم. هي نفس الفكرة كما قالها الغنوصيون، أن العالم خُلق بواسطة إله ثانوي. [ه. ج.] ويلز كانت لديه نفس الفكرة أيضًا. بهذه الطريقة يمكنك تفسير الأمور السيئة مثل الشر والأمراض والآلام الجسدية والعديد من الأشياء الأخرى. لأنه إن كان هناك إله مطلق خلق العالم، يجب أن يخلقه أفضل، أليس كذلك؟ بدلًا من ذلك، خلق أجسادنا، والتي هي عُرضَة للزلل، والتي تتعفّن وتصبح مريضة؛ العقل أيضًا يتعفن، ويهرم بمرور العمر، وحسنًا، ثمة الكثير من الاعتراضات.
- في "الزوهار" ("كتاب الإشراق")، والذي يعتبره جيرشوم سكهوليم[7] العمل الأهم في علم الكابالا، هناك العديد من التخمينات عن الحياة بعد الموت، سفيدنبوري[8] يصف الجنة والنار بالتفصيل، قصيدة دانتي أيضًا عن الجحيم، الأَعْراف، الجنة. من أين تأتي هذه النزعة لشخص ما، أن يحاول تخيُّل ووصف أشياء ربما لا يعرفها؟
بغض النظر عن الشخص نفسه، المرء يفكر. أنا أكاد أكون متيقنًا من أني سأنتهي بمجرد الموت، لكن في بعض الأحيان أفكر في أنه ليس مستحيلًا أن أستمر وأعيش في حالة أخرى بعد موتي الطبيعي. أعتقد أن كل فكرة انتحار يكون فيها هذا الشك: هل ما سأقوم به شيء له فائدة؟ هل سأنتهي، أم سأعيش في عالم آخر؟ أو كما يتساءل هاملت، ما هي الأحلام التي ستأتينا عندما نغادر هذا الجسد؟ ربما تكون كابوسًا. ثم سنكون في الجحيم. المسيحيون يعتقدون أن المرء يستمر بعد الموت ليكون نفس الشخص الذي كان ثم إما أن يُعاقب أو يُكافأ إلى الأبد، طبقًا لعمله في هذا الزمن القصير الذي مُنح له. أنا أفضل أن أستمر في الحياة بعد الموت لو أني أُجبرتُ على هذا ولكن أن أنسى حياتي التي عشتها.
[1] جوتهولد إفرايم ليسنج (1729-1781): كاتب وفيلسوف ومسرحيّ وناقد ألماني، يعتبر من أهم رموز عصر التنوير.
[2] النص من ترجمة الدكتور محمد أبو العطا في كتابه (الألف: منتخب من قصص خورخي لويس بورخيس).
[3] بيدرو كالديرون دي لا باركا (1600-1681): شاعر وكاتب مسرحي إسباني من العصر الذهبي الإسباني.
[4] الكابالا أو القبالاة: مذهب غنوصي تفسيريّ للكتاب المقدس نشأ في القرن السابع الميلادي، يفترض أن لكل كلمة وحرف في الكتاب المقدس معنى باطني.
[5] توماس دي كينسي (1785-1859): صحفي ومترجم وروائي إنجليزي.
[6] الإين-سوف (Ein-Sof): مصطلح في الكابالا يعني حرفيًا اللا نهاية، وهو يختص بالحالة التي تبدأ فيها أي رُوح بالتكوُّن بواسطة الإله، وفيها تندمج الروح مع الألوهية، وتتكون الحالة من ثلاث مراحل، الأولى هي لحظة الخلق، والثانية هي عدم ظهور الإله، والثالثة هي الكشف الكامل للإله.
[7] جيرشوم سكهوليم (1897-1982): فيلسوف ومؤرخ إسرائيلي متخصص في الصوفية اليهودية.
[8] إمانول سفيدنبوري (1688- 1772): فيلسوف سويدي ويعتبر من رواد الصوفية المسيحية، قدّم تفسيرات مختلفة للمسيحية وحوكم بالهرطقة في آخر حياته.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
One Reply to “حوار مع بورخيس: أنا ناسجُ أحلام”
ترجمة خرائية حقاً، سعيد للغاية أن المترجم ترك لنا رابط للحوار في مجلة Nytimes لينقذ النص من تخريباته.