ولدت في مدريد عام 1921، في شقة صغيرة بشارع نارفاياس، كان أبي يمتلك الصيدلية بالطابق الأرضي، حيث علق فوقها لافتة تقول "إتورَياجا، صيدلي" وتحتها بحروف أصغر "نبيع الحلوى أيضًا"
حياة وموت مارسيلينو إتورّياجا
قصة لخابيير مارياس
ترجمة: أحمد تامر
عن الترجمة الانجليزية لمارجريت يول كوستا
نشرت القصة لأول مرة 19 ابريل 1968 ببرشلونة، في جريدة نوتيسيرو أونيفيرسال، ويظن مارياس أنها كانت أول قصة منشورة له، وكان في عمر السادسة عشر. (المترجم)
22 نوفمبر، 1957، كان غائمًا. كتلة من الغيم، كثيفة، ثقيلة، خاملة، ملأت الأفق، والطقس كان يهدد بعاصفةٍ.
ذلك اليوم كان مميزًا لي بصفة خاصة. منذ عام بالتحديد، غادرت أحبائي، بلا عودة. كانت الذكرى السنوية لموتي. في الصباح، اشترت لي زوجتي إسبرانزيتا باقة من الورد، وضعتها بعناية فوقي. كنت أفضل ألا تفعل، لأن الأزهار تعيق رؤيتي لكن هذه العشرين ثانية من كل شهر كان موعدها المُحدد لتجلب لي أزهارًا جديدة، وفي شهور أخرى يأتي الولدان أيضًا. كان شهر زيارتهما، لكنها كانت الذكرى السنوية الأولى، أعتقد أن إسبرانزيتا فضلت أن تأتي بمفردها. لهذا السبب نفسه، باقة القرنفل كانت أكبر من المعتاد لذا أعاقت رؤيتي أكثر. كنت قادرًا على رؤية إسبرانزيتا رغم ذلك. كانت أكثر امتلاءً من الشهر السابق ولم تعد بوضوح الفتاة النحيفة الأنيقة الرشيقة التي كنت شديد الانجذاب إليها يومًا. كانت تمشي بطريقة خرقاء وغريبة تمامًا، والملابس السوداء الصباحية التي كانت لا تزال ترتديها لم تكن تناسبها مطلقًا. بارتدائها كذلك ذكرتني جدًا بحماتي، لأن شعر إسبرانزيتا لم يعد أسود فاحمًا، لكن بدأ بالابيضاض حول جبهتها وقذالها. تذكرت كيف كانت تبدو آخر مرة رأيتها بعينين مفتوحتين، بجانب هذا المشهد، والذي حدث قبل عام بشقتي في شارع باركيَو، حياتي كلها ظهرت أمامي أيضًا.
-2-
ولدت في مدريد عام 1921، في شقة صغيرة بشارع نارفاياس، كان أبي يمتلك الصيدلية بالطابق الأرضي، حيث علق فوقها لافتة تقول "إتورَياجا، صيدلي" وتحتها بحروف أصغر "نبيع الحلوى أيضًا"، وهذا هو السبب لقضائنا جزءًا كبيرًا من اليوم في الصيدلية أنا وأخي. باقي الوقت كنا عالقين في فصل قديم قذر في المدرسة المحلية، حيث يدرس مدرس واحد لنا، نحن الأربعة عشر صبيًا، كل المواد وقتها في المقرر. كانت الدروس مملة إلى أقصى حد، وكنا إما نغفو أو نرمي بعضنا بكرات صغيرة من الورق.
أمي كانت امرأة بدينة وهادئة، تساعدنا أنا وأخي متى نقع في مشاكل أو عندما ينفس أبي غضبه علينا، بعد يوم فقير في المبيعات.
كان أبي الرجل الأكثر غضبًا، خاصًة عندما يكون في مزاج سيء، وكنت أعتقد دومًا أنه كان يناسبه أكثر لو كان جزارًا أو شيئًا ما، ناهيك عن صيدلي.
ظللت في المدرسة في شارع نارفايس حتى الخامسة عشرة. ثم اندلعت الحرب الأهلية، لكنها مرت عليَ كأي حدث آخر في الحياة. لم تجلب لي أو لأهلي أي خسائر عظيمة. حارب أخي في الجبهة الأمامية، لكنه نجا سالمًا وعاد إلى البيت ممتلئًا بالوطنية والفخر بنصر الجناح اليميني الجمهوري الذي لم أشاركه إياه قط. ثم بدأت دراستي للحصول على درجة في الاقتصاد، والتي أخذت مني ثماني سنوات لأنهيها، مما أثار استياء والدي، الذي عارض كل تلك التأخيرات والمواد المعادة. رغم كل شيء، أعتقد، مع ذلك، أن سنواتي كطالب كانت الأسعد والأكثر امتلاءً بالحياة في حياتي القصيرة. حظيت بالمرح، درست قليلًا وقابلت إسبرانزيتا. كانت خجولة نوعًا ما مع الأولاد، لكن مع ذلك كانت حنونة ولطيفة. اعتدنا الذهاب إلى السينما أو السيرك أو للتمشية، وانتهى بنا الأمر بأننا أصبحنا نمضي تقريبًا كل ظهيرة أو مساء معًا. بعد عامين من الحصول الدرجة، طلبت منها الزواج. قالت نعم، وبعد عامين، ولد ابني الأول ميجيل، وبعدها بعامين جرجوريتو، اسم لم أحبه قط، لكن اضطررت لقبوله تحت إصرار حماتي، والتي تدعى جرجوريا. بجانب أنني اعتقدت دومًا أن اسم جرجوريتو اتورَياجا أجيري اسم طويل جدًا وبه الكثير من الراءات.
الآن عندما أفكر بالأمر، لا أعتقد أني تزوجت إسبرانزيتا بسبب الحب، لكن لأني ظننت أنها قد تكون مفيدة جدًا لعملي بالبنك. مع ذلك، كما اتضح لاحقًا، لم تكن بتلك الفائدة قط، لأنها كانت تأخذ تربية الأطفال بجدية مبالغ فيها وتمضي اليوم كله معهم. لم أكن سعيدًا معها بشكل خاص، لكن لن أقول إني كنت تعيسًا أيضًا بشكل خاص. معنا، عاش أبي وحماتي، اللذين لم يكونا يطيقان النظر أحدهما إلى الآخر، لكن، لأنهما مضطران، وبالأخذ في الاعتبار أن الشقة كانت صغيرة إلى حد ما، كانا يمضيان اليوم كله يتشاجران ويتجادلان حول أشياء غبية لم يكونا يستطيعان الجدال بشأنها، أو للدقة ما كان يجب عليهما الجدال بشأنها، لأنهما كانا بالكاد يعرفان أي شيء عنها. هذا بالإضافة إلى أن صياح إسبرانزيتا على مانويلا الخادمة وبكاء الاطفال، جعل البيت لا يطاق، وبدا لي البنك كجنة. وبسبعة أفواه لإطعامها، كنت سعيدًا أن أعمل لوقتٍ إضافي، لكني كنت أقوم بذلك بشكل كبير لأن ذلك كان يعطيني المزيد من الوقت الهادئ لنفسي.
توفيت أمي بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب، أعتقد أنها الشخص الوحيد الذي كنت متعلقًا به حقًا. كنت منزعجًا لموتها أكثر من موت أبي، الذي لم أشعر نحوه قط بعاطفة البنوة.
-3-
جاء موتي كصدمة للجميع إلى حد كبير. في أغسطس 1956، بدأت أشعر بآلام طعنات حادة في صدري. مذعورًا، استشرت أخي الذي كان طبيبًا. طمأنني قائلًا إنها على الأرجح مجرد آثار نزلة برد أو التهاب حلق.
كتب لي روشتة لبعض الأدوية، اختفى الألم حتى 16 نوفمبر، إذ هاجم بحدة أكثر من أغسطس. بدأت بتناول الأدوية مجددًا، لكنها لم تجلب لي أي ارتياح، ووجدني يوم الواحد والعشرين من نوفمبر في السرير بحرارة مرتفعة، وسرطان رئة بلا أمل في النجاة.
كان يومًا كئيبًا. كان الألم مريعًا ولم يستطع أحد أن يريحني منه. استطعت بشكل مبهم تبين إسبرانزيتا، التي كانت راكعة جانب سريري، تنتحب، بينما السيدة جرجوريا، حماتي، تربت عليها بحنان ومواساة. بالكاد تحرك الأولاد، عاجزين عن فهم ما يجري. أخي وزوجته كانا جالسين بالأسفل كما لو أنهما بانتظاري لأموت كي يخرجا نفسيهما من ذلك المشهد الميلودرامي البشع. رئيسي وبعض زملائي كانوا يقفون في الممر، يرمقوني بشفقة، وعندما يرون أني أنظر لهم، كانوا يبتسمون قهريًا ابتسامة ودودة. في السادسة مساء ليلة الثاني والعشرين، عندما اشتدت الحمى، حاولت الخروج من السرير، لكن سقطت على الوسائد، ميتًا. عند لحظة موتي، شعرت بكل آلامي ومعاناتي تختفي وأردت إخبار عائلتي واصدقائي أني لم أعد أتألم، أني حيٌ وبخير، لكن لم أستطع. لم أستطع التحرك أو أن أفتح عيني، مع ذلك كنت أستطيع رؤية كل ما يدور حولي وسماعه.
قالت حماتي "لقد مات".
ردد البقية: "ليرقد بسلام".
رأيت كيف انسحب أخي وزوجته فورًا؛ ما إن سمعوا إسبرانزيتا تقول إنها ستتكفل بالجنازة، والتي ستتم في اليوم التالي. بالتدريج، بدأ الآخرون بالرحيل أيضًا، وتُركت وحدي. لم أعرف ماذا أفعل. كان باستطاعتي الرؤية والسمع، لذا، أنا موجود، وفي اليوم التالي كانوا سيدفنوني. حاولت يائسًا الحركة، لكن لم أستطع، ثم أدركت أني ميت، أن بعد الموت لا يوجد شيء، وأن كل ما تبقى لي هو أن أستلقي في قبري للأبد، لا أتنفس، لكني حي؛ بلا عينين، لكن مبصر؛ بلا أذنين، لكن قادر على السماع.
في اليوم التالي، وضعوني في تابوت أسود، ثم في عربة الموتى التي أخذتني إلى المقبرة. لم يأت أشخاص كثيرون. وبعد تأبين موجز، غادر الجميع وبقيت وحدي. في البداية، لم يعجبني الوضع هنا مطلقًا، لكني اعتدت الأمر الآن، واستمتع بالصمت. أرى إسبرانسيتا مرة في الشهر، والأولاد في شهور أخرى، وهذا كل شيء: هذه حياتي وموتي، حيث لا يوجد شيء.
(1968)
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه